Al Jazirah NewsPaper Friday  30/07/2010 G Issue 13819
الجمعة 18 شعبان 1431   العدد  13819
 
رجال صدقوا: أنس بن مالك
د. محمد بن سعد الشويعر

 

خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يتسمَّى به، ويفتخر بذلك، وهو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام، من بني النجار أنصاري خزرجي، وكنَّاه رسول الله بأبي حمزة، ببقلة كان يجتنيها فيها حموضة، تقول العرب: رمّانة حامزة، أيْ فيها حموضة.

أمه أم سليم، الصحابيّة الجليلة، تزوجها أبو طلحة بعد مقتل مالك بن النضر، وُلِدَ قَبْلَ الهِجْرة بعشر سنوات على قول، وقد أخذت أم سليم بيد ابنها أنس، فأتت به رسول الله فقالت: يا رسول الله هذا ابني، وهو غلام كاتب.. قال أنس: فخدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، فما قال لي لشيء قطّ صنعته: أسأت أو بئس ما صنعت.. وهذا من كمال خلقه عليه الصّلاة والسلام، الذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه.. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك بكثرة المال والولد وطول العمر، فوُلد له من صلبه ثمانون ذكراً، وابنتان ومات وله من ولده، وولد ولده: مائة وعشرون ولداً، ومات وعمره مائة وثلاث سنوات.

وهو والد الإمام مالك بن أنس، صاحب المذهب الفقهيّ المشهور في الشّمال الأفريقيّ والأندلس وغيرهما، وقد كان أنس يشدّ أسنانه بالذهب، وكان مشهوراً بحسن الإصابة في الرماية، ويأمر ولده أن يرموا بين يديه، وربما رمى معهم فيغلبهم بكثرة إصابته، وذكر ابن الأثير في كتابه أسد الغابة في معرفة الصحابة أنه كان يلبس الخزّ ويتعمّم به، وقال: إن نقش خاتمه صورة أسد رابض.

وهو آخر من توفي بالبصرة من الصّحابة -رضي الله عنهم- ودفن هناك على فرسخين من البصرة. وجاء في ترجمة سهل بن سعد الساعديّ الأنصاريّ: إن الحجاج بن يوسف أمير العراق، أرسل في سنة أربع وسبعين، إلى سهل بن سعد رضي الله عنه، وقال له: ما منعك من نصر أمير المؤمنين عثمان؟

قال: قد فعلت ذلك، قال الحجاج: كذبت، ثم أمر به فختم في عنقه، وختم أيضاً في عنق أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ورد عليه كتاب عبد الملك بن مروان فيه، أي في أنس، وختم في يد جابر بن عبد الله رضي الله عنه، يريد الحجاج إذلالهم بذلك وأن يجتنبهم الناس، ولا يسمعوا منهم.

وقد كانت ولادته -رضي الله عنه- بالمدينة، أسلم صغيراً، فكانت أمه تلقّنه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، منذ حداثة سنّه، وهذا من تأثير الأمهات الصّالحات في التربية وحسن توجيه أبنائهن، وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.

وقد استمر في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن قبض، وتأدب بأدبه وتعلَّم منه، حيث روى عنه البخاريّ ومسلم (2286 حديثاً)، وهو من أكثر الصحابة أخذاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لطول ملازمته، وقد روى عنه ابنه الإمام مالك كثيراً من الأحاديث ضمّنها كتابه الموطأ.. وقدم دمشق وافداً من المدينة في زمن الوليد بن عبد الملك ثم ذهب إلى البصرة وسكنها إلى أن مات فيها عام 93هـ.

وكان ورعاً تقياً، يقول الزّهريّ، وهو بدمشق: دخلت على أنس بن مالك، فوجدته وحده يبكي، فسألته ما يبكيك؟ قال: ما أعرف شيئاً مما أدركنا إلا الصّلاة، وهذه الصلاة قد ضيّعتْ.

ولما قدم على الوليد بن عبد الملك، قال له الوليد: ما سمعت من رسول الله يذكّر به السّاعة؟ فحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لَسْتُ من الدنيا، وليست مني؟ إني بُعِثْتُ والساعة نستبق) وقال أبو مُهْر: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك حين استخلف في سنة ستّ وثمانين.

وفي قصّة بدايته لخدمة رسول الله، حدّث سعيد بن المسيّب رحمه الله، عن أنس بن مالك قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن ثماني سنين، فأخذتْ أمي بيدي وانطلقت بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إنّه لم يبقَ رجل ولا امرأة من الأنصار إلا قد أتحفك بتحفة، وإني لا أقدر على ما أتحفك به إلا ابني هذا فخذه فليخدمك ما بدا لك؟ قال أنس: فخدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشر سنين فما ضَرَبَنِي ضَرْبَةً، ولا سبّني سبّة، ولا انتهرني ولا عبس في وجهي، فكان أوّل ما أوصاني به، إلى أن قال: يا بنيّ اكتم سرِّي تكُ مؤنك مؤتنا، فكانت أمي وأزواج رسول الله صلى عليه وسلم يسألنني عن سرّ رسول الله فلا أخبرهن به، وما أنا مخبر بسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً أبداً.. ثم أردف سعيد بقوله:

وقال لي مرة: يا بنيّ عليك بإسباغ الوضوء يحبّك حافظاك، ويزد في عمرك، ويا بنيّ بالغ في الاغتسال من الجنابة، فإنّك تخرج من مغتسلك وليس عليك ذنب، ولا خطيئة، قال: قلت يا رسول الله، كيف المبالغة، قال: تبلّغ أصول الشعر، وتنقّي البشرة.

ويا بني إنْ استطعْتَ أنْ لا تزال أبداً على وضوء، فإنه من يأتيه الموت وهو على وضوء يعطى الشّهادة، ويا بنيّ إن استطعت أنْ لا تزال تصلي، فإن الملائكة تصلّي عليك، ما دُمْتَ مصلّياً، ويا بني إذا ركعت فأمكن كفّيك من ركبتيك، وأفرج أصابعك، وارفع مرفقيك عن جنبيك، ويا بنيّ إذا رفعْتَ رأسك من الركوع فأمكن كل عضو منك موضعه، فإنّ الله لا ينظر يوم القيام إلى من لا يقيم صلبه، بين ركوعه وسجوده، ويا بنيّ فإذا سجدت فأمكن جبهتك وكفّيك من الأرض، ولا تنقر نقر الدِّيك، ولا تقعِ إقْعاء الكلب، أو قال: إقعاء الثّعلب، وإيّاك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإنْ كان ولابدّ ففي النافلة لا في الفريضة، ويا بني إذا خرجْتَ من بيتك فلا تقعنّ عينك على أحد من أهل القبلة، إلا سلمت عليه، فإنّك ترجع مغفوراً لك، ويا بنيّ إذا دخَلْتَ منزلك، فسلم على نفسك وعلى أهلك، ويا بنيّ إن استطعت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك شيء لأحد، فإنّه أهون عليك في الحساب، ويا بنيّ إنْ اتّبعت وصيّتي فلا يكن شيء أحبّ إليك من الموت.

وفي رواية: يا بني إن قدرت أنْ تكون من صلاتك في بيتك، مثنى فافعل. وفي آخر الحديث، ثم قال: يا بنيّ وذلك في سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبّني، ومن أحبّني كان معي في الجنّة، وفي رواية ابن همام: عن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن ثمان، وقبض وأنا ابن ثماني عشرة، فما قال لي لشيء صنعته، لمَ صنعته؟ ولا قال لي لشيء لمْ أصنعه لِمَ لم تصنعه؟ وقال لي في مرضه: إني أوصيك بوصيّة فاحفظها؛ كثر الوضوء يزد في عمرك، ولا تزال طاهراً ولا تبيتنّ إلا على طُهْر، فإن متّ متّ شهيداً، وأكثر صلاة الليل والنهار، تحبّك الحفظة، وصلِّ صلاة الضّحى، فإنّها صلاة الأوّابين، وإذا خرجْتَ من بيتك، فسلّم على كُلّ من لقيت من المسلمين تُزَدْ في حسناتك، وإذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم يُزَدْ في بركاتك، ووقّر كبير المؤمنين وارحمنّ صغيرهم تكن معي وضمّ بين أصابعه.

فهذه الوصايا أغلى من الذهب والجوهر، هي لأنس بن مالك رضي الله عنه، وصيّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعِلْم يجب عليه أن يبلّغه خوفاً من الإثم بكتمان العلم، وهي لغيره من المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، نفائس يجب أن تغتنم، ولآلئ يجب أن تستثمر، فهي لا تكلف مالاً ولا جهداً، ولكنها تترك أثراً ورصيداً في حسنات المؤمن الذي يعمل بها.

كيف لا وهي من مشكاة النبوة، يعلّم بها فرداً من المسلمين، ومن الرّعيل الأول، الذين هم خير القرون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه قرن الصحابة الكرام، الذين يأخذون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم، ليطبّقوه في أنفسهم، ويبلّغوه لمن بعدهم، وقد روى ثابت البُنانيّ عنه قال: قال أنس: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا، وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي، قال: قوموا فلأُصلّ بكم - في غير وقت صلاة - فصلّى بنا: فقال رجل لثابت البُناني: أَيْنَ جعل أنساً منه؟ قال: جعله عن يمينه.. ثم دعا لنا أهل البيت، بكل خير من خير الدنيا والآخرة، فقالت أمي يا رسول الله خويدمك ادع الله له، قال: فدعا لي بكل خير، فكان من آخر ما دعا به لي أن قال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه.

وفي حديث آخر قال: اللهم أكثر ماله وولده، وأطِلْ عمره، واغفر له فقال أنس: فكثر مالي حتى صار يطعم في السّنة مرّتين، وكثر ولدي حتى قد دفنت من صلبي أكثر من مائة، وطال عمري حتى قد استحييت من أهلي واشتقت للقاء ربي، وأنا أرجو الرابعة.

وقد كان له بستان يحمل الفاكهة في السّنة مرّتين، وكان فيها ريحان يجيء منه ريح المسك، يقول أنس رضي الله عنه: لمّا كان صبيحة اليوم الذي احتلمت فيه أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تدخل على النّساء إلا بإذن قال: فما أتى علي يوم كان أشدّ عليّ منه.

بنت حاتم الطائي

قال في كتاب قصص العرب لعلي البجاوي وزميليه: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا سبحان الله ما أزهد كثيراً من الناس في الخير، عجبت لرجل يجيئه أخوه في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كان لا نرجو جنّة ولا نخاف ناراً، ولا ننتظر ثواباً، ولا نخشى عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنها تدلّ على سبيل النجاة، فقام إليه رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

قال: نعم وما هو خير منه، لمّا أتينا بسبايا طيء، كانت في النساء جارية حماء حوراء العينين، لعساء لمياء عيطاء، شمّاء الأنف معتدلة القامة.

فلما رأيتها أعجبت بها، فقلت لأطلبنّها من رسول الله ليجعلها من فيئي، فلمّا تكلّمتْ أنسيت جمالها، لما سمعت من فصاحتها، قالت: يا محمد هلك الوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلّي عنّي، فلا تشمت بي أحياء العرب؟!

فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفكّ العاني، ويحمي الذّمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرِّج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يردّ طالب حاجة قطّ، أنا بنت حاتم الطائي.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها: يا جارية هذه صفات المسلم - وفي رواية المؤمن - ولو كان أبوك إسلامياً لترحّمنا عليه خلّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق. وكان أخوها قد هرب للشام، فبعثها رسول الله مع قافلة للشام، فالتقت بأخيها وعذلته، ومدحت له معاملة رسول الله، ورغّبته بالإسلام فرجعا من الشام للمدينة وأسلما. (الأغاني 19 : 903، وقصص العرب 2: 83).



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد