Al Jazirah NewsPaper Friday  30/07/2010 G Issue 13819
الجمعة 18 شعبان 1431   العدد  13819
 
ناس ومُدن

 

يقول سمير عطا الله: إنه لا شيء يمكن أن يعرف بالكتاب سوى كلمته، لا المديح ولا النقاد ولا الناشر.

وإذا كان لابد لنا من التعريف بكتاب (ناس ومُدن) فهو كتاب يحمل أسلوب سمير عطا الله السهل الممتنع ويحمل انطباعاته الشاعرية التي حملها من كل مكان ونظرته العميقة للأشياء..

تحت عنوان (حكاية بطل الصيف) كتب يقول:

لم أتعلم السباحة وأنا صغير، ولذا لم أستطع تعلمها وقد كبرت، ففي الصيف كنا نحن أبناء القرى، نهرع فوراً إلى الجبال، حيث نغرق في الحقول والزهور وأمواج البيلسان. لكن في بلد صغير مثل لبنان كنت إذا تتثاءب بحركة عفوية وجدت أن يدك قد طالت المتوسط!

إنه في طريقك من أي مكان إلى أي مكان، في الشمال وفي الجنوب، يروي بكل هدوء وتواضع ورتابة عجيبة مئات الحكايات التي كتبها التاريخ قبل أن يمضي بعدا إلى التاريخ.

كم كنت أشعر بالأسى حين تقترب باخرتنا من ميناء الإسكندرية ويتراكض الصبية والحواة والحفاة بحثاً عن شيء يتساقط من المسافرين!

ألم تكن هذه منذ مراحل طويلة تلك المدينة التي تتنافس على ودها أساطيل فرنسا وبريطانيا؟

ألم تكن فيها مكتبات الأرض؟

ألم تكن هذه المياه الزرقاء التائهة تشعر بالعز حين تلامس الأرض في الاسكندرية؟

ويتذكر سمير عطا الله أيام زمان.. فالماضي هو الجمال

وهو الدفء وهو العذوبة:

أرى نفسي مستذكرا مثلاً من تلك الأمثال الجميلة التي كان ينثرها جدي ونحن في طريقنا إلى الكروم.

وكان يعقد يديه خلف ظهره (يداه هرقليتان كبيرتان منبسطتان مثل بستان طيب) خلف ظهره المنحني قليلاً، مثل عارضة في الريح، وكان يعقد يديه ويمشي ويحكي لي خبرة الدهر ويبعثر في الطريق، طوال الطريق، ما حفظ من الشعر وما اكتنز من الأمثال والحكم والحكايات.

وكان إذا تعب، ونحن نتسلق الطريق الضيقة إلى الكروم، كان إذا تعب توقف قليلاً وقال في شيء من السخرية الذاتية: آه.. لو عاد الشباب يوماً لأخبره بما فعل المشيب!

وكنت أضحك لجدي غير أنني لم أكن أفهم! كيف يفهم حكاية المشيب من هو في العاشرة من فجر الحياة؟

كان نيسان يجيئنا في حقائب الشعراء وتبعات الرعيان، وكان يطل من التلال والأودية وجنبات البرية ذات صباح وكأنه كان مختبئاً في الفجر منذ زمن طويل، وكان يطل مرة واحدة كأنه مقدمة موسيقية أو كأنه رف آخر من رفوف الطيور العائدة مع الدفء، ويقظة الربيع من سبات العتم والمطر، وكان إذا أطل عرفنا انها خاتمة الفصول المنطوية وبدايات التفتح وكساء الأشجار وأناشيد اللوز.

وتحت عنوان (اليتيم الذي تبنى الفرح) كتب سمير عطا الله عن الأديب والصحافي سعيد فريحة ووصفه بأنه سكن بين دفتين: الغلاف الأول والغلاف الأخير.. وقال: لم ينطبق مثل على أحد، كما انطبق على سعيد فريحة المثل الفرنسي: (إن الأسلوب هو الرجل).

بالنسبة إلى سعيد فريحة كان الرجل هو الأسلوب.. هو المقال.. هو الفقرة الأولى والفقرة الأخيرة والبياض الواقع بين فقرة وأخرى، يعيش لكي يكتب، وبطريقة الصدفة، يكتب عرضاً، لكي يعيش.

عاش كما كتب، وكتب كما عاش: ملء الحياة هنا.. ملء الكتب هناك.

الغريب في نص سعيد فريحة أنه نص حزين في العمق، لكنه خالٍ من الحزن، إنها شهوة مطلقة للفرح لدى هذا اليتيم الذي كتب يوماً في نص مرير وضاحك وفرح أحياناً مأساة العائلة التي انتقلت زمن المجاعة من رأس المتن إلى حلب مشياً على الأقدام دون رغيف في الطريق.

كان نص (الجعبة) عملاً أدبياً صارخاً يتذرع بالحياة اليومية والكتابة الصحافية ومع انه لم يقرأ جيمس توربر أو أي بي وايت فقد كانت (الجعبة) شيئاً شبيهاً بهما إلى حد بعيد، وانما مع المزيد من المشاعر والمزيد من الفرح، والفرح هنا بمعنى البهجة لا بمعنى الدعابة أو السخرية.

لقد ترك لنا سعيد فريحة في عالم النص الساخر مدرسة فريدة بقيت دون تلامذة، وترك انموذجاً ساحراً في الأدب ظل دون اقتداء.

وعن رحلته الأولى إلى باريس وهو في العشرين عام 1961 كتب سمير عطا الله يقول:

كانت باريس تنتظر في محطة الشمال هي وروائح التبغ والرذاذ النازل من اللوحات أو صفحات الكتب.. لقد نسيت الآن كيف يكون المرء في العشرين لكنني لم أنسَ كيف كانت باريس ذلك المساء وقد تدافعت نحو نفسها تحت المعاطف، فرحت أهرول معها، هكذا، إلى باريس، إلى المدينة التي تفاجئ نفسها كل يوم، بروعة ما مضى وجمال ما كان.

لقد جئت كي أصنع أدبي وأكتب شعري وأرى حريتي وأخلط حزني بشيء من الفرح لكنني فوراً نسيت كل شيء ورحت أعيش بين الكتب وصرت مثل الكتب، أعرف كيف أعيش منزوياً في الغرف الصغيرة وأظل أرى الضوء في الغرفة المعتمة وصرت مثل باريس في الكتب، أشبع دون أن أتنازل طعام الفطور أو الغداء.

لقد علمتني باريس أن المائدة الهائلة هي تلك التي تمتد من الضفة اليسرى إلى الضفة اليمنى، كتباً قديمة وكتباً حديثة وكتباً فقدت أغلفتها من كثرة ما قرئت ولا تزال تُقرأ.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد