Al Jazirah NewsPaper Sunday  01/08/2010 G Issue 13821
الأحد 20 شعبان 1431   العدد  13821
 
«أطلس الشواهد الأثرية»:
إنجاز مثير وإضافة قيمة!
أ.د. رشود بن محمد الخريف

 

تُعَد الجزيرة العربية همزة وصل بين مراكز العمران القديمة في شمالها وجنوبها وفي شرقها وغربها. لذلك تحظى دراسات التاريخ والآثار في المملكة باهتمام كبير من قبل المتخصصين والمهتمين.

وقد ركزت كثير من الدراسات التي اهتمت بطرق القوافل القديمة على طرق الحج، كطريق حاج الكوفة المسمى ب «درب زبيدة»، وطريق حاج البصرة، فلم تحظ طرق القوافل القديمة جدّاً باهتمام كبير على الرغم من أهميتها في فهم التاريخ وتفسير أحداثه، وكونها تُعَد مصدراً خصباً لمزيد من الدراسات المتخصصة التي قد تُعيد النظر في بعض المسلمات التاريخية. علاوة على ذلك، فإنَّ دراسة طرق القوافل القديمة يمكن أن تُسهم في التعرف على مسارات هذه الطرق وتوثيق شواهدها، وكذلك تشجيع الجهات المسؤولة على الحفاظ عليها كجزء من ثرواتنا الأثرية.

في هذا المجال العلمي صُدر عن دارة الملك عبدالعزيز مؤخراً «أطلس الشواهد الأثرية على مسارات طرق القوافل القديمة في شبه الجزيرة العربية»، للباحث عبدالله الشايع. وخُصص هذا الكتاب القيم للتعريف المختصر بالشواهد الأثرية التي تتنوع ما بين صُوى ومذيلات ودوائر ومسننات وحبال موجودة على متون الجبال، أو أحجار منصوبة وأشكال ذات تراكيب معقدة ومتنوعة، إلى جانب تحديد مواقعها بدقة. إن الشيخ الشايع بهذا العمل كمن ينقب عن الجواهر والدرر التي طمرها غبار النسيان، ودفنتها ركامات الماضي الموغلة في القدم، ليجعلها في متناول القارئ والباحث على طبق جذاب وشيق ومثير.

واشتمل الكتاب على 125 شاهداً أثرياً وموقعاً مثيراً على مسارات طرق القوافل القديمة، تتوزع هذه المواقع في مناطق المملكة المختلفة وبعض الدول المجاورة، فمنها 39 شاهداً أثرياً في منطقة الرياض، و16 في منطقة الجوف، ومثله في منطقة حائل، و11 في منطقة تبوك، و7 في منطقة مكة المكرمة، و3 في المدينة المنورة، وتنتشر بقيتها في الباحة ونجران والشرقية والحدود الشمالية والقصيم، بالإضافة إلى الأردن واليمن وحضرموت وغيرها.

ومما يُحمد للمؤلف أنَّه اتبع منهجية موحدة في التعريف بجميع الشواهد التي اشتمل عليها الأطلس، فيقدم كل شاهد أثري بصورة فوتوغرافية جميلة ومعبرة، ثم يصنف شكله إلى واحد من الأشكال الكثيرة (صوى، أم دوائر، أم مسننات، أم حبال، أم حجارة منصوبة، أم أشكال مستطيلة ونحوها)، وبعد ذلك يوضح المنطقة الإدارية التي يقع بها، ثم يحدد موقعه الجغرافي بدقة من خلال إحداثيات خطوط الطول ودوائر العرض التي سجلها المؤلف بنفسه باستخدام أجهزته الخاصة، وإلى جانب ذلك يُقدم تعريفاً مختصراً لكل شاهد أثري لا يتجاوز أربعة أسطر، بأسلوب بسيط وواضح يتناسب مع كافة القراء على اختلاف مشاربهم ومستويات تعليمهم.

وقد عُرف الشايع بأنَّه باحث يتحرى الدقة، ويثَمِّن المعلومة، ويسافر بحثاً عن أي شاهد أثري أو طريق قديم للقوافل، ويرتحل طمعاً في تصويب خطأ حول موقع معين، فهو - في العادة - يبدأ بالقراءة الواسعة عن طريق القوافل الذي يعتزم تتبعه، ثم يحدد الأماكن والشواهد المذكورة في المعاجم وكتب البلدانيات وكذلك كتب التاريخ والأدب، ويقوم بتدوين ملحوظاته عن كل منها، وبعد ذلك يقوم بتحديد مواقعها التقريبية على الخرائط، أو الحصول على إحداثيات لموقعها، إن توافرت. وفي الخطوة التالية، يُعِد العدة للرحلة الميدانية ويختار الوقت المناسب للسفر والترحال، متجنباً فصل الصيف أو أوقات العواصف الترابية التي يتكرر حدوثها عند تغير الفصول. وعندما يتأكد من توفر مستلزمات الرحلة الميدانية يرتحل بحثاً عن المواقع أو الأماكن المقصودة، وقد لا يكتفي بزيارة واحدة، ففي مرات عديدة يضطر - كما ذكر لي - إلى السفر للموقع أكثر من مرة لفحص الحقائق والتأكد منها. وعلى الرغم من أنه يستمتع بالترحال، ويشعر بالنشوة والفرحة عند عثوره على ضالته، أي الموقع الذي يبحث عنه، فإنَّ رحلاته لا تخلو من الإحباط وخيبة الأمل عندما لا يتمكن من الوقوف على موقع أو شاهد ارتحل من أجله آلاف الكيلومترات أو قرأ عنه في أحد الكتب التاريخية أو الجغرافية القديمة.

وفي مرات كثيرة، يأخذه الحماس والفضول إلى ما وراء حدود المملكة، فيتتبع طرق القوافل القديمة مرة إلى اليمن، وأخرى إلى عُمان، ومرات كثيرة إلى الأردن، للوقوف على شواهدها وتحديد مواقعها وتسجيل معلومات عنها، إذ كانت طرق القوافل شرايين الحياة في الأزمنة القديمة تربط بين اليمن والشام أو عمان، مروراً بمراكز عمرانية في وسط شبه الجزيرة العربية أو في أطرافها. ولا يكتفي بذلك، بل يحاول - في بعض الأحيان - مقارنة ما يجده في المملكة مع شواهد مماثلة في دول بعيدة في أوربا وغيرها.

ويُعَد هذا الكتاب الذي بين أيدينا خلاصة تجربة الرحالة السعودي الشيخ عبدالله الشايع ونتاج رحلاته الكثيرة على مدى سنوات طويلة لمناطق عديدة ومتباعدة داخل المملكة وفي بعض الدول المجاورة. وقد تميز الباحث والرحالة الشايع بحماس منقطع النظير لدراسة وتحقيق طرق القوافل القديمة والوقوف على شواهدها وتصويرها وتحديد مواقعها بإحداثيات دقيقة. لذلك أنجز خلال السنوات الماضية العديد من الكتب القيمة في هذا المجال، ومنها - على سبيل المثال لا الحصر - كتاب (نظرات في معاجم البلدان)، وكتاب (بين اليمامة وحجر اليمامة)، وكتاب (في أرض البخور واللبان). ويُعَد الشيخ الشايع من الباحثين القلائل الذين يدفعهم الفضول العلمي وتحفزهم الرغبة الحقيقية في البحث والتأليف، بعيداً عن الأهداف المادية أو كسب الأضواء.

ويتضح بجلاء أن هذا الكتاب تميز في محتواه وتنظيمه وإخراجه، ويمكن إيجاز بعض ملامح هذا التميز فيما يلي:

1- كُتب الكتابُ بلغة سلمية وأسلوب بسيط وواضح، مع عناية فائقة بالإخراج، وتوظيف مناسب للصور الفوتوغرافية الجميلة المشوقة، إذ يبدو أن المؤلف يتبنى المقولة المعروفة «الصورة تغني عن ألف كلمة»، وكذلك المقولة بأن «الصورة لا تكذب».

2- يحدد الكتاب مواقع الشواهد الأثرية بدقة، وذلك باستخدام إحداثيات الطول والعرض التي قام المؤلف بتسجيلها بنفسه عند زيارة كل شاهد أو موقع أثري.

3- لقد أسهم هذا العمل مع أعمال عبدالله الشايع الأخرى في تصويب بعض الأخطاء في المعاجم الجغرافية.

4- يُبادر هذا العمل في رصد بعض الشواهد المهمة وتسجيلها وتوثيقها قبل أن تمتد إليها أيدي العبث من خلال التوسع الزراعي والتمدد الحضري أو عدم الوعي بأهميتها، الأمر الذي أدى بالفعل إلى اختفاء بعضها أو تعرضه للتدمير الجزئي أو الكامل.

وعلى الرغم من القيمة العلمية الكبيرة التي يُضيفها الكتاب، أطرح بعض الملاحظات التي لا تقلل من قيمة هذا العمل المفيد ولا تنقص من جهد مؤلفه بأي حال من الأحوال. فكنت أتمنى أن يشتمل الكتاب على بعض الخرائط التي توضح مواقع بعض الشواهد، ليتناسب محتوى الكتاب مع مسمى «الأطلس» الذي اختاره المؤلف عنواناً لكتابه. وفي ظني، ربما يكون من الأنسب إطلاق اسم «المعجم المصور» على هذا العمل، بدلاً من الأطلس، ولكن ربما أن المؤلف اختار ذلك العنوان من منطلق نظرته بأنَّ وظيفة الأطلس هي الإرشاد للوصول إلى المواقع، وهذا ما يؤديه هذا الكتاب الذي يحتوي - بالفعل - على إحداثيات دقيقة تقود إلى المواقع المذكورة باستخدام الخرائط التفصيلية أو أجهزة تحديد المواقع (GPS). وإلى جانب ذلك، كنت أتمنى - كذلك - أن يحتوي الكتاب على خرائط توضح طرق القوافل القديمة في الجزيرة العربية عموماً، وتلك التي تقع عليها الشواهد التي ركز عليها الكتاب خصوصاً، وذلك لإعطاء صورة شاملة ومفيدة لطرق القوافل قد تكشف عن حقائق علمية جديدة حول طرق القوافل والأمم التي استخدمتها. وأتمنى - كذلك - أن يتوسع الباحث في مشروعه ويضيف إليه مواقع مثيرة أخرى، ليصبح معجماً شاملاً لأكبر عدد من شواهد طرق القوافل القديمة في المستقبل.

وبوجه عام، فمع ما قدمه الكتاب من معلومات مفيدة وما فكه من ألغاز حول شواهد طرق القوافل القديمة، إلا أن الكثير من الغموض حول بعض هذه الشواهد وأمثالها لا يزال قائماً. لذلك فإن ما يوفره هذا الكتاب من مادة علمية جيدة يمكن أن يكون مشجعاً لمزيد من الدراسات المعمقة للكشف عن أسباب وجود بعض هذه الشواهد وتحديد الأقوام أو الأمم التي أنشأتها، وكذلك الفترات التاريخية التي تنتمي إليها هذه الشواهد. ولكن تحديد الفترة الزمنية التي تعود إليها هذه الشواهد الأثرية يتطلب تضافر جهود الباحثين والجهات ذات العلاقة التي تتوافر لديها الإمكانات المادية، وتمتلك التقنيات المطلوبة لمثل هذا العمل.

في الختام، يمكن تلخيص القيمة العلمية والإضافة الحقيقية للكتاب فيما يلي:

أولاً: يقدم هذا الكتاب خدمة جليلة للباحثين في مجال الآثار والتاريخ والجغرافيا من خلال إبرازه الشواهد الأثرية المثيرة وتحديد مواقعها بدقة، مما سيشجع إجراء المزيد من الدراسات والبحوث من قبل طلاب الدراسات العليا وكذلك الباحثين المهتمين بالشواهد الأثرية التي كشف عنها الباحث الشايع وأبرزها في كتابه.

ثانياً: إن هذا الكتاب سيُثير كثيراً من التساؤلات حول تاريخ وماهية كثير من الشواهد التي أزاح عنها عبدالله الشايع ركامات النسيان وأبرزها أمام عيون الباحثين المهتمين. وفي أحيان كثيرة، لا تقل إثارة التساؤلات من حيث الأهمية العلمية عن الإجابة عنها!

ثالثاً: إن هذا الكتاب الجميل يُسهم في دعم السياحة في بلادنا من خلال منهجيته الدقيقة في وصف الشاهد الأثري وتحديد موقعه بإحداثيات دقيقة، وتقديمه للقارئ من خلال النص المختصر والصورة المعبرة.

رابعاً: إن هذا الكتاب يسهم في الحفاظ على آثار بلادنا من خلال توثيقها والتعريف بها، خاصة أن بعضها تعرضت للتدمير من خلال توسع العمران والأنشطة الزراعية ومشروعات شق الطرق، كما ذُكر آنفاً.

لذا أتمنى أن تقوم الجهات ذات العلاقة بموضوع هذا الكتاب، كوزارة الثقافة والهيئة العليا للسياحة والآثار ووزارة الخارجية وكذلك كلية السياحة والآثار، ووزارة التربية والتعليم، بتوزيعه على المدارس والملاحق التعليمية للإسهام في إبراز الثروات الأثرية في بلادنا، أو الاستفادة منه لإجراء مزيد من الدراسات المعمقة والبحوث التفصيلية، مع أملي أن يحظى الكتاب بمراجعة من قبل المتخصصين في مجاله.

وأخيراً، أدعو للباحث عبدالله الشايع بالتوفيق وموفور الصحة لإنجاز المزيد من الكتب المفيدة والقيّمة التي تضيف الكثير للمكتبة العربية عموماً، ومكتبة دراسات آثار وجغرافية المملكة العربية السعودية خصوصاً، لإبراز ثرواتنا الأثرية وتوثيقها والتنبيه إلى أهميتها وأخطار التدمير التي تحيق بها. والشكر موصول لدارة الملك عبدالعزيز على تبني الدراسات النافعة والأعمال المفيدة التي تضيف الكثير وتسهم في زيادة معرفتنا بجغرافية المملكة وتاريخها.

جامعة الملك سعود


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد