Al Jazirah NewsPaper Sunday  01/08/2010 G Issue 13821
الأحد 20 شعبان 1431   العدد  13821
 

دفق قلم
مهرجان العقيق
عبد الرحمن بن صالح العشماوي

 

منذ أن هاتفني الأستاذ محمد بن علي بن يحيى - وفقه الله - طالباً مني تحديد موعد لأمسية شعرية صيِّفية ضمن نشاط المهرجان الصيفي الكبير الذي يقام كلَّ صيف في محافظة العقيق في منطقة الباحة، منذ تلك المهاتفة وأنا انتظر موعد الأمسية بشوق كبير، لأنّ مدينة العقيق تثير في نفسي شعوراً بالراحة، وتحرِّك في ذاكرتي صوراً من الذِّكريات الجميلة التي ما تكاد تظهر في آفاق ذاكرتي حتى تعيدني إلى ملامح من الطفولة والصِّبا أسهمتْ ضاحية العقيق في نقشها وتلوينها بأحسن الألوان وأبهاها.

لقد عرفت عقيق غامد منذ الطفولة من خلال التمر (الصُّفري) و(السَّرْي) الذي كان منافساً قوياً لصُفريِّ بيشة وسَرْيها في منزلنا المتواضع في قرية عراء بمنطقة الباحة، وكان جدِّي - رحمه الله - يفضِّل أحياناً عُذُوق تمر العقيق على غيرها، ويتحدث إلينا عن النخلة وجمالها وشموخها وسموِّ أخلاقها وأنها شبيهة بالمؤمن، وذات طلع مبارك، حتى أصبحنا في شوق إلى رؤيتها مباشرة، وجني ثمارها الشهيَّة، وكنا في طفولتنا نتوقّع أنّ الصعود فيها لجني ثمارها سهل قريب المأخذ قياساً على شجر اللّوز والخوخ والمشمش الذي كان منتشراً بكثافة في سفوح جبال منطقة الباحة وجوانب أوديتها وشعابها.

عرفت عقيق غامد قبل أن أعرف عقيق المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم، وأذكر أنني فوجئت - في منهج الأدب في الثانوية - باسم العقيق يرد في بعض أبيات الشعر العربي القديم، فظننت أنه العقيق الذي أعرف، فإذا به ذلك الوادي الواقع بظاهر المدينة المنوَّرة الذي تغنَّى به الشعراء، وذكروه في قصائدهم، وحينما سألت أستاذ الأدب، أيّ الواديين سمِّي بهذا الاسم قبل؟، قال: لا أدري ثم قال: لعلّه وادي العقيق المدنيّ.

أقول: وفي هذا الموضوع بين العقيقين تفاصيل سأذكرها بإذن الله في مقالة أخرى.

نعم، كنت أنتظر موعد أمسية العقيق بشوق لألتقي فيها بأطياف ملوَّنة جميلة من الذِّكريات، وحينما انطلقت مع الأهل من عراء إلى العقيق بصحبة الابن زياد بن عبدالرحمن - وفّقه الله ورعاه - وبرفقة أخي الحبيب (طاهر العشماوي) وابن خالتي (عبدالله القاسم) كنت أتطلَّع إلى رؤية العقيق الذي تعرفه طفولتي، وصباي، فإنّ لذلك العقيق رونقاً خاصاً يصعب عليّ أن أصفه جمالاً وبهاءً، ولكن التخطيط الجديد لمدينة العقيق، والشوارع الكبيرة التي فُتحتْ، والبنايات الكثيرة التي بُنيتْ، والمشروع الضخم لمباني جامعة الباحة الواقع على يسار الداخل إلى مدينة العقيق، وما حدث من دكٍّ لبعض الجبال، ودَفْنٍ لبعض الأودية والشعاب، كلُّ ذلك قد حال بيني وبين رؤية عقيق الطفولة والصِّبا.

وحينما وصلت إلى منزل خالتي (أم محمد) وأولادها، أولاد الشيخ علي بن يحيى الغامدي، داعية العقيق الأول ومعلِّم أهلها ومرشدهم ومصلحهم - رحمه الله - قلت لنفسي سبحان الله مغيِّر الأحوال، والحمد له على فضله، وإنعامه على الناس بما سخَّر لهم من الوسائل الحديثة التي قرَّبت البعيد، وسهَّلت الصعب، وهوَّنت عناء الأسفار.

أقلّ من نصف ساعة أصبحت الرحلة بالسيارة من القرية إلى العقيق مقابل ما لا يقل عن خَمْس ساعات من العناء والغبار ووعثاء السفر كنا نقضيها في رحلتنا إليه.

ومع ذلك فإنّ صور الذكريات قد تراءت أمامي ظاهرة ضاحكة، وتجمَّعت في ذاكرتي حتى كوَّنت صورة عقيق الطفولة بمزارع نخيله الممتدّة في كل ناحية، وبقطعان الجِمال، والأغنام، والأبقار المنتشرة بين المزارع، وفي المراعي القريبة، وبأصوات آلات السَّقي (الماكينات) التي كانت تتجاوب في أجواء المزارع، فتكوِّن أصداؤها إيقاعاً جميلاً أكاد أسمع صداه في أذني الآن.

لا أملك إلاّ أن أشكر - بعمق - مهرجان العقيق الصيفي ممثَّلاً في القائمين عليه، والمشرفين على مناشطه المتعدِّدة، لأنهم فتحوا لي باب الذكريات الفسيح، ولأنهم أحسنوا إعداداً وتنظيماً، وتنويعاً، فالمهرجان العقيقي متميِّز بجمال الإعداد لمكانه، وتنوُّع أنشطته للكبار والصغار، والنساء والرجال، تنوُّعاً رغَّب الناس فيه حتى توافدوا إليه بأعداد كبيرة على مدى أربعة عشر يوماً.

إنه مهرجان الذِّكريات الذي ذكَّرني بأهلٍ كرام، وعلماء أجلاّء ودعاة مؤثرين، منهم من رحل عن هذه الحياة - رحمهم الله - ومنهم من بقي يكمل في هذه الدنيا بقيّة ما كتب الله له من العمر - وفَّقنا الله وإيّاهم للخير، وأحسن لنا ولهم وللقارئ الكريم الخاتمة -.

إشارة

قمراً كنتِ يسكب الأُنس في قلبي

ومن أجله عشقت الظلاما

كنتِ - بالأمس - طفلةً يتغنَّى

فمها بسمةً وكنتُ غُلاما

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد