Al Jazirah NewsPaper Tuesday  03/08/2010 G Issue 13823
الثلاثاء 22 شعبان 1431   العدد  13823
 
نحو منظور إعلامي جديد
النظافة الفائقة... عندما يكتشف السعوديون أسرارها!
د. عبدالله البريدي

 

عزيزي وزير الثقافة والإعلام الأديب المثقف الدكتور عبد العزيز خوجة: دار قبل عدة أسابيع حديث بيني وبين الأستاذ الدكتور فتحي السوافيري - أستاذ فلسطيني قدير يعمل حالياً في جامعة القصيم

حول موضوع النظافة في الحرمين الشريفين وأبدى إعجابه الشديد بذلك المستوى المدهش وطالبني بكتابة بحث أو مقال حول هذا الموضوع، مؤكداً بصدق على أنه أمر يدعو للفخر للسعوديين، لا بل للعرب والمسلمين أجمعين، فأحببت أن أضع بين أيديكم الأفكار التالية والتي أدعو فيها إلى (صناعة) فيلم وثائقي يصوّر (معجزة النظافة الفائقة) في الحرمين الشريفين، وذلك عبر المحاور التالية:

(1)

تنشط دول كثيرة في صناعة برامج إعلامية ومنتجات ثقافية للتعريف بالوطن وثقافته وخصائصه ومقوماته ومؤسساته ونسيجه الاجتماعي وكيانه السياسي، وتبذل الأموال الطائلة في سبيل تسويق (المنجز الوطني) في ميادين العلم والفكر والاقتصاد والسياسة والصحة والأمن والإغاثة. وتحرص تلك الدول على إيصال رسالتها بشكل مقنع وجذاب على الصعد الوطنية والإقليمية والدولية. والحقيقة أن فاعلية تلك الدول تختلف في تحقيق النجاح التسويقي الإعلامي، لأسباب متعددة، منها السياسي والثقافي والاقتصادي والفني (الإعلامي). وثمة سبب آخر له أثر خطير في نظري يعود إلى عدم التحديد الدقيق ل(الميزة التنافسية الإعلامية) التي تستحق أن تسوّق كمعلم حضاري أو منجز مدني؛ أي أن الدول - مهما كانت قوتها ومقدّراتها ومنجزاتها - لا تستطيع أن تسوّق وتقنع الرأي العام الدولي بأن (كل شيء في الوطن) هو (أبدع ما يكون) و(أحدث ما يكون) وهو (آية الله) في خلقه! إذن لا بدّ أن تتلبس الصناعة الإعلامية بالذكاء وتصطبغ بالحرفنة الفنية دون مبالغة أو تهويل إن أريد لها أن تفلح في تحقيق غايتها. وتلك أمور يجب أن نفطن إليها جيداً في عالمنا العربي، ليس ذلك فحسب بل يجب أن نتكاشف بحيادية حيال الممارسات الإعلامية اللاعقلانية التي تفشل في تحقيق رسالتها.

ولو قصرنا حديثنا على الممارسة الإعلامية الوطنية في السعودية، لوجدنا أن وزارة الثقافة والإعلام تحرص على إقامة المهرجانات والأيام السعودية في عدد من الدول، وهي تستهدف التعريف بالوطن، وفي تلك المهرجانات والأيام يتم تنظيم بعض المناشط الثقافية وتوزيع بعض المطويات والكتيبات وعرض بعض البرامج والمنتجات الإعلامية الوطنية التعريفية. وتلك جهود معروفة مشكورة، غير أننا نؤكد ضرورة مراجعة ونقد وتقييم تلك الجهود من خلال دراسات علمية متخصصة.

وما يهمنا التأكيد عليه في هذا المقال هو جهودنا في صناعة (المنتج الإعلامي التعريفي الوطني)، حيث إن واقع ذلك المنتج لا يرتقي البتة إلى الطموحات، سواء من الناحية الكمية أو من الناحية النوعية، خاصة أن (رسالة) الإعلام لا تزال لدينا (وظيفة) في ديوان الخدمة المدنية - بحدودها البيروقراطية وقيودها المالية -، والإعلام بهذه الصفة لا يمكن أن يكون عملاً إبداعياً ولا ممارسة فنية ذوقية ولا تحدياً ثقافياً حضارياً، وتلك عقبة كؤود في طريق تطوير الصناعة الإعلامية الوطنية؛ الأمر الذي يدفع تجاه المسارعة إلى إصلاح الوضع الإعلامي بشكل بنيوي وتنظيمي.

(2)

أليس من الحصافة الثقافية والذكاء الإعلامي أن تعرّف وطنك وثقافته بشيء (حضاري) يمتاز به عن كل ما سواه.. الحرمان الشريفان معلمان مقدسان ورمزان خالدان، ليس ثمة شيء على وجه الأرض أشهر منهما، وخصوصاً بيت الله الحرام في مكة المكرمة، والتعريف إنما يكون بما قدمه الوطن بحكومته ومؤسساته من خدمات جليلة لكل من يقدم الحرمين الشريفين حاجاً ومعتمراً وزائراً.

والحق أن خدمات كثيرة تستحق أن تسوّق كمنجزات وطنية في هذا الخصوص، غير أنه من الحكمة أن نحدد بدقة مكان التميز وموضع الإنجاز ومكمن الإبهار للقريب والبعيد، للمسلم وغير المسلم، وأحسب أن خدمات النظافة في الحرمين الشريفين إنجاز مدهش بحق، وأتحدى أن يكون ثمة نظير لها في العالم أجمع... كيف لا تبهر والنظافة الفائقة متغلغلة في أحشاء وأعماق وتجاويف كل حرم منهما.. في ساحاته وأدواره.. في أبوابه ومداخله.. في درجه وسلالمه الكهربائية.. في حديده وخشبه وسجاده ورخامه وبلاطه.. في جدرانه وسقفه.. في مائه وضوئه وهوائه.. في مرافقه وباحاته الداخلية والخارجية.. في أسفله وأعلاه.. في باطنه وظاهره.. نظافة ما بعدها نظافة!

الفيلم الوثائقي أو الملحمة الإعلامية عن معجزة النظافة يمكن أن تأخذ عناوين كثيرة وهي مستحقة لما هو أكثر، فيمكن أن نسمي الفيلم بعنوان جذاب يستقي من أفكار جوهرية تعبر عن مكنون الإنجاز، ومن ذلك ما يلي:

- النظافة الفائقة.. عندما يكتشف السعوديون أسرارها!

- نظافة فائقة بجودة عالية.. التجربة السعودية نموذجاً.

- أسرار الجودة في صناعة النظافة.. اكتشافات سعودية وإنجازات مبهرة.

- كيف تخلق نظافة فائقة دائمة في مكان يرتاده الملايين؟.. السعوديون صنعوا المعجزة!

- معجزة النظافة في الحشود.. دروس في الإدارة القيمية.

(3)

ثمة مزايا كثيرة لخدمات النظافة الفائقة في الحرمين الشريفين تفسر لنا الكثير من أسرار النجاح وشفرات الإنجاز، مع تأكيدنا بكل وضوح (بشرية) ذلك الإنجاز ثم وجوب خضوعه إلى التقييم العلمي، غير أن هذا ليس محل اهتمامنا في هذا الموضوع، حيث نكثف تركيزنا على ملامح ومزايا التفوق المبهر، إذ إننا بصدد التعريف بذلك التفوق والتسويق له لجدارته وتفرده، والسبب الذي يجعلنا نورد تلك المزايا هو اعتقادنا بأن الفيلم الوثائقي عن معجزة النظافة الفائقة يجب أن يصطبغ بتلك المزايا، وهي مزايا استقيتها من خلال الملاحظة الدقيقة والطويلة والمعايشة الحياتية وسؤال بعض المسؤولين، ومن أهم تلك المزايا ما يلي:

1- البعد القيمي في الإدارة والإنجاز؛ حيث يعتبر الإخلاص والاحتساب الوقود الحقيقي للنجاح، ويعظم أثر الإخلاص والاحتساب في الأداء والإنتاجية عندما ينسابان من القمة (الحكومة بقيادتها ومؤسساتها) إلى القاعدة (الشركة المنفّذة والموظفين والعمال)، حيث يعمل الموظفون والعمال بشكل يتجاوز حدود العمل التقليدي ويتعدى إطار الأداء المعياري (الراتب) ساعات الدوام، والواقع يشهد بأنه لا يحركهم سوى وقود الاحتساب والتطوع، وهي تجربة فريدة خاصة أن العالم يشهد اهتماماً متزايداً في ما يسمى أخلاقيات ومبادئ العمل التطوعي Volunteerism، والاحتساب الذي ذكرناه آنفاً يعد صورة مميزة للعمل التطوعي الذي ترصد له الجوائز الضخمة. وتعدّ فيه مئات الأبحاث وتعقد له عشرات المؤتمرات العلمية الحاشدة، وبعضها على مستوى منظمة الأمم المتحدة (انظر مثلاً: (United Nations Volunteers (UNV، ونحن نتوافر على نموذج فريد من الاحتساب والتطوع القائم على ثوابت وأخلاقيات ديننا الإسلامي العظيم، ثم نقصّر في إبرازه للبشرية!

2- الدعم الحكومي اللامحدود، مالياً وتنظيمياً؛ حيث تبذل الحكومة المال اللازم وبكل سخاء، وتقدم الدعم التنظيمي وتضمن الجانب التنسيقي من كل أجهزة الدولة لضمان نجاح المهام.

3- جودة التنظيم. ويتجلى ذلك في بعض المعالم، ومنها: تقسيم العمل إلى وحدات متجانسة وإسناد المهام إلى المتخصصين المؤهلين، مع تحديد دقيق للمهام المناطة بكل واحد من الموظفين والعمال. وثمة دليل آخر على تلك الجودة التنظيمية، يتجسد في أننا لا نرى أي لون من الازدواجية أو التضارب أو (العراك) أو الصراع التنظيمي في العمل، كما لا نجد غموضاً في الدور أو المهمة. وتتضح عبقرية التنظيم في الجدولة الزمنية لأداء العمل، من حيث الانتظام التام واختيار الأوقات التي تناسب كل عملية من عمليات التنظيف.

4- اعتناق الجودة. يشهد الأداء الفعلي على أن الجودة الشاملة هي القيمة المحورية في جميع العمليات الخاصة بالنظافة، وهذا شرط رئيس لنجاح المنظمة في الاستفادة من فلسفة وبرامج الجودة التي تستهدف استحداث تطوير مستمر في الأداء (مع ملاحظة أن تطبيق نظام الجودة الشاملة في عمليات التنظيف يحتاج إلى تقييم علمي لتعظيم الفائدة من جهة وتقليل الأخطاء إلى أقل نسبة ممكنة من جهة ثانية).

5- الاهتمام بالتفاصيل، وهي مزية فريدة ومبهرة بحق، حيث نرى الاهتمام بأدق دقائق التفاصيل في التنظيف الفائق، والاهتمام بالتفاصيل من مظاهر ومبادئ الجودة الشاملة، كما أنها تثبت صدق التوجه في العمل والإنجاز. وقد وقفت شخصياً على مظاهر أدهشتني، حيث رأيت العمال يعكفون على تنظيف حاوية المصاحف المعدنية ذات اللون الذهبي؛ إذ إنهم ينظفون أدق التجاويف والتجاعيد والنتوءات والمنعطفات في سطح وباطن تلك الحاوية، وبأي شيء يكون التنظيف؟ إنهم ينظفون الحاوية بفرشاة رقيقة هي أشبه ما تكون بفرشاة (أسنان ناعمة) وبكل تؤدة... وتصل أيادي التنظيف الفائق لكل شيء في الحرم وبطريقة تتناسب معه من حيث طبيعته وحجمه ووظيفته، فلكل أدواته ومواده ومتخصصوه... أداء مبهر يجعل الأشياء جميعها تبدو كأنها جديدة وضعت للتو، لامعة في (ضوء) عينك الساقط عليها، طيبة في الرائحة التي يصل لها (فضول) أنفك.

6- دقة وحزم في الإشراف. يقطع المرء بأن ثمة نظام فريد في الإشراف من الناحية الإدارية والتنظيمية يتناسب مع طبيعة الأداء المحفوف بالاحتساب والتطوع، مع الاهتمام المستغرق بأدق التفاصيل، ومن ذلك يحدثني أحد الإخوة بأن المشرف يمرر يده على الأشياء التي قد لا تصل لها عينه، فتجده - مثلاً - يمرر يده على الحلقة الذهبية التي تربط بها كسوة الكعبة لينظر هل ثمة غبار في جوفها!

7- الأداء المميز وسط الحشود الكبيرة. حين يطلب منك تنظيف مكان صغير يخصك، قد تراه أمراً سهلاً، وإن كان يصعب عليك ضمان نظافته على مدار الساعة، فكيف نتصور ضمان نظافة فائقة في مكان عام كبير بأدواره وساحاته ومرافقه؛ مكان يرتاده الملايين وبلغات وطباع مختلفة في اليوم الواحد من الكبار والصغار والرجال والنساء والمتعلم والجاهل (على افتراض حساب كل من يدخل الحرم في أوقات الصلوات الخمس، حيث إن كل واحد منهم يعد مرتاداً جديداً للمكان في كل وقت من أوقات الصلاة)؟ وتتضح تلك الميزة الفريدة إذا اعتبرنا مسألة ضمان النظافة العالية في مواسم الحج ورمضان، ولا سيما أن موسم رمضان يعني أنك مطالب بتنظيف المكان من بقايا الطعام وبكل سرعة وانسيابية وسط حشود هائلة (إدارة الحشود).

(4)

أجزم بأن الفيلم الوثائقي سيحظى باحترام واسع من قبل جميع الثقافات، فالإنسان الغربي ستدهشه العناية الفائقة بالتفاصيل والدرجة العالية من الاتساق والانتظام في العمل، والإنسان الشرقي سيبهره إيمان العاملين بالعمل وأهدافه والتزامهم بها وشيوع روح الفريق والعمل الجماعي بينهم في جو يسوده الاحترام والمودة والتفاهم. سيكون هذا الفيلم عملاً إعلامياً غير مسبوق، وتجربة عالمية رائدة في الإدارة والتنظيم القائمين على البعد القيمي والأخلاقي، كما أنه سيكون أداة تثقيف وتوعية للمسلمين الذين يفدون إلى الأماكن المقدسة بحيث يحافظون على نظافة المكان ويراعون قدسيته (خاصة أننا نعاني ضعفاً بيّناً في برامج التثقيف والتوعية)، وأحسب أن عملاً عظيماً كهذا سينتج طرائق جديدة ومبتكرة لتسويق ذكي للوطن، وسيبرز جانباً مهماً من مشروعه الحضاري.

وهذه الأمور والاعتبارات تجعلني أطالب وزارة الثقافة والإعلام في شخص معالي وزيرها بأن تولي هذا المشروع ما يستحقه من عناية وأن يرصد له ما يكفي من الأموال، مع التأكيد على ضرورة تنفيذ العمل الإعلامي وفق أحدث المعايير وأفضلها في الصناعة الإعلامية؛ مستفيدين من الخبرات الوطنية والأجنبية، على أن يحكم العمل نفس الإبداع في السيناريو والحبكة والتصوير والإخراج... بحيث يخرج العمل الإعلامي مساوياً على الأقل للبرامج الوثائقية المحترمة كبانوراما البي بي سي.

وأخيراً.. ألا تتفقون معي على أن من واجب الوزارة الاضطلاع بتنفيذ برامج عالية الجودة للتعريف والتسويق بالمنجز الوطني الحضاري قبل أن يسبق له الآخرون أو يسوغ أن نجد بعض الشركات العملاقة تتوافر على برامج تعريفية عالية الجودة تناسب شرائح مختلفة من المخاطبين والوطن يفتقر إلى شيء من هذا؟ أما يستحق وطننا بثقافته ومقوماته أن يظفر بشيء من الجهد الثقافي والإعلامي الخلاّق؟ ألا تتفاءلون بأن شيئاً من هذا بل أحسن يمكننا تحقيقه؟ أليس العالم بحاجة إلى أن يتعرّف علينا؟ ألسنا تواقين إلى أن نعرّف العالم بنا تبشيراً ودعوةً لمشروعنا الحضاري، بثوابته ومنطلقاته ومبادئه؟ أما نستطيع أن (نبتكر المدهش) ثقافياً وإعلامياً في زمن راجت فيها (الرتابة) وساد فيها (الهامشي)؟ ألا تتفاءلون بأنه يسعنا الإبداع في كسر طوق (المألوف) والتحرر من قيود (التقليدي) ثقافياً وإعلامياً؟... هذه الأفكار التي أجدد طرحها والتشديد على أهمية تبنيها وفق منظور إعلامي جديد.



beraidi2@yahoo.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد