Al Jazirah NewsPaper Tuesday  03/08/2010 G Issue 13823
الثلاثاء 22 شعبان 1431   العدد  13823
 
با كثير في مسرحيته الإسلامية الكبرى
د. حسن بن فهد الهويمل

 

والملفت للنظر أن الاغتراب عمّق ثقافته، ولم يشتت رؤيته، إذ تجلت بكل وضوح عروبته وإسلاميته، وتواصله مع الثقافات لم يزده إلا إصراراً على انتمائه الإسلامي.....

.....وحياة باكثير التي لم تصفُ له، ولم يصطلح معها، أضفت على إبداعه خصوصية يجليها الدرس العميق لحياته، ولقد يكون الشاعر الأكثر تمثلاً لشعره، بحيث لا يجد الملتمسون لحياته من شعره أية صعوبة. وتمكنه المسرحي لم يأت من الدربة وحدها، وإنما تشكل من الموهبة والدربة والتنمية. ومسرحيته الشعرية الأولى (همام في بلاد الأحقاف) مؤشر قدرات ذاتية مبكرة، وفوق هذا فالشاعر من ذوي النفس الطويل في إبداعه الشعري، وتلك الخاصية من متطلبات الأعمال المسرحية، وليس أدل على ذلك من مطولته المبكرة (نظام البردة) التي نيفت على مئتي وخمسين بيتاً. لقد كان فيها محافظاً يترسم خطى الأوائل. وبعد التحاقه بالأزهر والتقائه بالأدباء وخوضه لجج المعارك وتناوشه مع المدارس الأدبية، اتجه صوب التجديد في الأشكال والمضامين والأساليب، وهذه المرونة والاستجابة السريعة مكنته من الحضور الفاعل في مصر، بوصفها ملتقى العمالقة ومسرح المعارك ومستقر التيارات الفكرية والفنية.

واتصاله بالأدباء والشعراء في مصر لا تكفي معه الإشارة، و من ثم لم يتمكن من استكمال التحولات الفنية والموضوعية أثناء إقامته بمصر، وإن كانت تلك الحياة الحافلة بجلائل الأعمال فإنها تفوق سائر حيواته في كافة المواقع التي ألمّ بها، أو أقام، لقد كانت صلاته بأساطين العلم والفكر أمثال (محمد رشيد رضا)، و(محب الدين الخطيب) مؤشرات تفوق وتألق وتميز، وإذ أصيب بعض لداته وأترابه ومجاليه باضطرابات فكرية وتحولات غير محسوبة، فقد سلم مما أصاب غيره، وظل محتفظاً بسمات التوازن والوسطية والجنوح إلى الأدب العربي الخالص من شوائب العامية والاستغراب. واحترامه للمحافظة والالتزام لم يحُل دون التفاعل الواعي مع المستجد. وباكثير بمواهبه المتعددة وسعة اطلاعه حيز له جملة فضائل، تمثلت باقتداره الإبداعي والنقدي والمسرحي بشقيه: (السردي والشعري), ومثل تلك التعددية مطلب رئيس للعمل المسرحي بكل دواعيه الفنية واللغوية والموضوعية. وإن كان ثمة ريادية فإن با كثير رائد الشعر التفعيلي ورائد الرواية التاريخية الإسلامية، والمؤسف أن كثيراً من الدارسين لتعالق الروائيين المعاصرين مع التراث يضربون صحفاً عنه، فيما يطيلون الحديث عن المسرحية العربية والتراث الديني والسير الشعبية و الحكايات الشعبية، ثم لا يعرجون على المسرحية والتاريخ الإسلامي من خلال أعماله المتميزة. وهم إذ يحفلون بمن هم دونه ومن هم متأخرون عنه زماناً وإمكانيات، لا يلتفتون إليه إلا لماما، فكتاب (الشعر المسرحي في الأدب المصري المعاصر) لم يشر إليه بشيء مع أن باكثير لا يقل في إبداعه المسرحي كماً وكيفاً عمن درسهم، بدءاً بشوقي وانتهاء بالشرقاوي وعبدالصبور. لقد أدرك هذا التقصير بحق باكثير كثير من المنصفين، ففي مقال ل(محمد حسناوي): (باكثير بين العقوق والانصاف) المنشور بمجلة الآداب أغسطس سنة 1970م ص 44، إشارة إلى تنازع ريادة الشعر التفعيلي المسرحي بين (السياب) و(نازك) و(باكثير) والسياب نفسه يعترف بالريادة ل(باكثير). و ترجمة باكثير لكثير من المسرحيات العالمية تمثل منعطفاً هاماً في تطور المسرحية الشعرية والموسيقى الشعرية عنده، ولقد جاءت ذروة النضوج عنده عندما أبدع مسرحيته (اخناتون ونفرتيتي) ولأن ثقافته موسوعية واهتمامه متعدد، فقد استثمر التاريخ القديم، فيما يحدوه إلى استثمار التاريخ الإسلامي اعتزازه بتراث الأمة الإسلامية، وما يمثله من حضارات، ولقد أومأ إلى ذلك في كتابه (المسرحية من خلال تجاربي الشخصية)، على أن بداياته كانت متأثرة بشوقي وبخاصة في مسرحيته الأولى (همام) وفيها محاولة إصلاح المجتمع والتصدي لكل التقاليد، وتأثره بشوقي يرتبط بالإيقاع على حساب الحركة الداخلية، وهو قد سبق غيره في نقد هذه المسرحية في كتابه (من المسرح من خلال تجاربي الشخصية)ومواهب باكثير مكّنته من استكمال أبنية المسرحيات المتعددة ا لأشكال والموضوعات، ولقد قسي عليه (عز الدين اسماعيل) ونعى إخفاقه في محاكاة شوقي. والمؤكد أنه تدارك النقص ولحق بالعمالقة، وأثبت قدرة اللغة العربية والعروض العربي على استيعاب كل الأشكال، ومن ثم استثمر وزن المتدارك وتفعيلته المتكررة (فاعلن) لمرونتها. والمسرحية الشعرية يختلف بناؤها عن المسرحية السردية. ولأنه على وعي تمام بالبناء المسرحي فقد شده الضجوج الإنجليزي الذي توفر عليه بعد أن مارس الترجمة. وإذ يختلف البناء الروائي عن البناء المسرحي، فقد استطاع الخلوص من تداخل الأبنية, وهو تميز لم يتوفر لكثير من لداته، وفوق هذا فإن (الحبكة) وهي الأدق والأصعب، وبخاصة في المسرحيات التاريخية تتميز عنده بالتنسيق والتسلسل والنمو المطرد، فهناك ترتيب للوقائع وإدارة للصراع وتأزم للمواقف. وتقسيمه للمسرحية إلى فصول لم يكن اعتباطاً ولا ت خففاً من الإطالة، ولكنه لهدف التعددية الموضوعية وإبراز الفني الإسلامي في مواقع مختلفة. وعند نضجه عاد إلى المسرح النثري فكتب (إبراهيم باشا) و(عمر المختار) و(فارس البلقاء) و(مسمار جحا). ولما لم أكن بصدد الحديث التفصيلي عن مجمل الأبعاد الدلالية و اللغوية والفنية للمسرحية الكبرى فإن الإشارات الموجزة تغني عن الإطالة المسهبة، علماً أن الإبداع المسرحي: (الشعري والسردي) المعاصر وفاه دارسون مختلفو المشارب حقه. وتناول (باكثير) من خلال عمل من أعماله يحول دون تقصي ماله من مواهب جاس من خلالها سائر الفنون والأغراض. والمسرحية الكبرى أنشأها حين حصل على منحة تفرغ لمدة عامين من سنة 1961 - 1963م، وتقع في مجلدين كبيرين تجاوزا الألف صفحة، ويشتملان على تسعة عشر شوطاً دلالياً يحمل كل شوط عنوانا تاريخياً، وإذ يكون مسرحه قد مرّ بثلاث مراحل، كما يشير أحد الدارسين. تتمثل بالواقعية، والواقعية التجريبية والواقعية الشعرية، فإن الإغراق في التاريخية ربطة بالواقعية الموضوعية البحتة. ولو ذهبنا نلتمس مدى التزامه بعناصر الإبداع السردي مسرحياً كان أو روائياً كالحدث والشخصيات والزمان والمكان والصراع والحوار والحركة والأسلوب بين السردية والتصويرية فإننا نجد على وعي تام بذلك كله، وإن خرج على بعض العناصر أو قصر في استكمال متطلبات بعضها، ولأن الحوار إكسير الإبداع المسرحي بوصفه الأداة الوحيدة للتصوير فإنه مسؤول عن نقل المعلومات والعواطف في آن، وكم هو الفرق بين توصيل المعلومة وتجسيد المشاعر، وفوق النقل المعرفي والشعوري يحمل الحوار مهمة الكشف عن الشخصيات من حيث نواياها وأخلاقها، وبا كثير وهو مثقل بالأحداث التاريخية والمشاعر، يعطي الحوار سمة قد لا تكون حركية بالقدر الكافي، وشفيعة في السكونية والطول أن البعد التاريخي لا يسمح بالخفة واللمحة والحركة، والنقاد يرون أن الحوار السكوني المثقل بالقضايا حوار مفضول، وباكثير يشغله نقل الأفكار والمعلومات واضحة مفهومة، وعلى الرغم من أنه مسيطر على مادته ولغته وفنه، إلا أنه لم يستطع تخليص الحوار من الإطالة والسكونية في بعض المواقف، نجد ذلك في المشهد الأول من (أبطال اليرموك) ومع مأخذ السكونية نجد أن كل كلمة في الحوار تكشف عن حقيقة. وشاعريته لم تغره بالزخرفة والأناقة الزائفة، فهو صاحب رسالة، ومن ثم صب اهتمامه على توصيل المضمون بلغة فصيحة، ومع الزخم المعرفي فإنه في مقاطع كثيرة تمكن من نقل المعلومات في كلمات قليلة. وشاعريته التي لم تغره بالزخرفة أسعفته بنغمة ملائمة واءمت بين اللفظ والمعنى، وهو ما يعرف بالائتلاف بينهما. والمسرحية مليئة بالشخصيات المتناقضة إسلامية وغير إسلامية شجاعة وجبانة ماكرة ومخادعة قوية وضعيفة. والحوار مسؤول عن الكشف عن الشخصيات ومراحلها، والمبدع البارع هو الذي ينقل بالحوار شخصياته كما ينقل أفكاره، وإذ يبرز الحوار الأفكار فإنه يحدد الشخصيات، والشخصية مكتنفة بأبعاد مادية واجتماعية ونفسية، ومهمة الحوار الكشف عن تلك الأبعاد وعما وراءها وعن أسباب تصرفاتها ومقاصدها، ولأن الشخصيات تمثل زمراً فئوية، وهي متباينة داخل الفئوية الواحدة فإن مهمة التشخيص صعبة، ولن تتأتى للكاتب بسهولة. ومثلما تتعقد علاقة ا لحوار بالشخصيات، فإنها تتعقد في علاقتها بالأحداث، واستعراض قدرات المبدع على تخطي تلك العقبات يتطلب قراءة تحليلية للأسلوب الحواري، وهو ما لم يستطع تغطيته بالقدر الكافي، ولكننا لا نعدم سمة من سمات الحوار المتميز. ومدى تفوقه في تجليه عناصر المسرحية و(باكثير) يتوفر على إمكانيات لغوية وثقافية هيأت له السيطرة على فنه، وإشكالية هذا العمل المتميز أنه لا يؤتي ثماره المرجوة إلا على المسرح، ويمنع من ذلك تردد الفقهاء في جواز تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم، وخيراً فعلوا، وإشكالية أخرى تتمثل بحرية الإبداع في تخطي الحقائق التاريخية، وإذا بتّها في السياق الفني بحيث لا تصلح أن تكون مصدراً معرفياً، إذ هي للإمتاع والفائدة المحدودة. ولو ذهبنا نوازن بين المسرحية بكل ما هي عليه، وكتاب (أخبار عمر) ل(علي الطنطاوي) من حيث الزخم المعلوماتي لوجدنا أخبار عمر أكثر معلوماتية مع أنه كتاب لا يتجاوز بحجمه نصف المسرحية، على أن هذه الموازنة لا تعني المفاضلة، فالإبداع المسرحي له وظائفه وقراؤه والحاجة إليه، وعلى كل الأحوال فإن (علي أحمد باكثير) قدم عملاً عملاقاً مأجوراً إن شاء الله. نسأل الله أن يجعله في موازين حسناته، وأن يجد هذا العمل طريقه إلى عشاق المسرحيات المقروءة، وحضور التاريخ الإسلامي في الفن المسرحي ضرورة ملحة، لأن للتاريخ قراؤه وللشعر قراؤه، وللمسرح الشعري والسردي قراؤه، ومن ثم لا يمكن القبول باحتكار التاريخ للأحداث والشخصيات.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد