اطلعت على ما كتبه الأخ عبدالرزاق بن أحمد الشمري في هذه الجريدة وعلى صفحات عزيزتي الجزيرة في يوم الجمعة 18-9-1431هـ العدد 13819 معقباً على أخيه يوسف الهاجري عما رآه في بعض المقابر بأي شكل كان سواء بذكر أو وعظ أو إرشاد أو نحو ذلك، وحتى لا يلتبس على القارئ الكريم سأذكر ما استدل به صاحب المقال من جواز الوعظ والإرشاد في المقابر والتوجيه العلمي له وأنه خارج محل النزاع فدونك ذلك:
تحرير محل النزاع: يشرع أن يعظ الرجل من حوله في المقبرة بدون تقصد لاجتماع الناس مع خفض الصوت لعارض من تأخر الجنازة أو حفر القبر، يدل لذلك:
حديث البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه فقال «استعيذوا بالله من عذاب القبر» مرتين أو ثلاثاً، ثم قال «إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا...».
وحديث علي -رضي الله عنه- قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال (ما منكم من أحد، ما من نفس منفوسة، إلا كتب مكانها من الجنة والنار».
وما عدا ما ذكره فإنه لا يشرع، وهو قول عامة السلف، بل كانوا رحمهم الله ينهون عن ذلك، ويعدّونه من المحدثات، ذكر ذلك النووي في كتابه الأذكار، وابن تيمية في الفتاوى رحمهما الله.
أما ما سلف من وعظ الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه فبيانه كما يلي:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتقصد اجتماع الناس في المقبرة ليعظهم، بل كان وعظه لعارض، وهو كون القبر لم يلحد بعد، كما ذكر ذلك الراوي للحديث، ثم كم من جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعظ الناس فيها، فيقتصر على ما ورد النص فيه من تلك الحالة المذكورة في تحرير محل النزاع.
2- أن الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الناس على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنهم جعلوا المقابر محلاً للوعظ والتذكير، بل نقل عنهم أنهم كانوا يعظمون ذلك بالسكينة وخفض الصوت، قال ابن تيمية رحمه الله «لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة، لا بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، هذا مذهب الأئمة الأربعة، وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين ولا أعلم فيه مخالفاً».
قال قيس بن عباد رحمه الله «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند ثلاث: عند القتال؛ وعند الجنائز؛ وعند الذكر».
وذكر الحسن البصري -رحمه الله- عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أنهم كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز.
فرفع الصوت هنا مطلق يشمل أي صوت حتى بالوعظ والتذكير، وحاشا صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أن ترتفع أصواتهم لأجل الدنيا في هذه المواطن، فلم يبق إلا الذكر والوعظ فكانوا يكرهون رفع الصوت به في هذه المواطن، ورحم الله مسلماً انتهى إلى ما سمع.
3- أن السلف الصالح شددوا في مسألة هي أقل من الوعظ والتذكير، وهي مسألة قول القائل: استغفر لأخيكم في الجنازة، قال إبراهيم النخعي رحمه الله: كان يُكره أن يتبع الرجل الجنازة يقول: استغفروا له غفر الله لكم.
بل كان سعيد بن جبير -رحمه الله- في جنازة فقال رجل: استغفروا له، غفر الله لكم، قال سعيد: لا غفر الله لك، وسمع رجلاً يقول ذلك فنهاه. (ولعل هناك فرقاً بين قولها بعد الدفن كما جاء في الحديث الآخر «استغفروا لأخيكم» وبين قولها أثناء حمل الجنازة).
وكره ذلك عطاء، وابن المسيب، والحسن وغير واحد من أئمة السلف بل كان يعجبهم ألا يكون في الجنائز صوت كان الحسن رحمه الله في جنازة النضر بن أنس رحمه الله فقال أشعث بن سليم العجلي: يا أبا سعيد: إنه ليعجبني أني لا أسمع في الجنائز صوتاً، فقال: إن للخير أهلين.
4- أن سبب وعظ الناس في المقبرة لغير عارض موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم والمانع من فعله منتفٍ، والمقتضي له قائم، وما كان كذلك فهو محدث، قال ابن تيمية رحمه الله: «فكل أمر يكون المقتضي لفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم موجوداً لو كان مصلحة ولم يفعل، يعلم أنه ليس بمصلحة»، بل قال رحمه الله «ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود ما يُعتقد مقتضياً، وزوال المانع، سنة».
ومراده: أن ما تركه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يعمله مع وجود المقتضي لفعله، وخلو المانع من ذلك فالسنة تركه، وقد مثّل -رحمه الله- بالأذان لصلاة العيدين، لما أحدثه بعض الأمراء، أنكره المسلمون، لأنه بدعة. وكذلك تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين، لما فعله بعض الأمراء أنكره المسلمون، لأنه بدعة.
فالمقتضي لتقديم الخطبة على صلاة العيد كان موجوداً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمانع معدوم، فلما لم يفعله صلى الله عليه وسلم دل على أنه محدث. وكذلك الوعظ في المقبرة لغير عارض، وتقصد اجتماع الناس.
5- قد يكون في رفع الصوت بالموعظة في هذا الموطن إشغال الناس عن القيام بحق الميت، والدعاء له، فالميت أولى من وعظ الناس، وإشغالهم عنه بالدعاء له، والترحم عليه، كان أبو قلابة رحمه الله في جنازة، فرفع ناس من القصاص أصواتهم، فقال: كانوا يعظّمون الميت بالسكينة.
6- أن الواعظ في هذا المقام قد يتعرض لذكر بعض حسنات الميت، والثناء عليه، فيقع في محظور تهييج المصيبة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وما هيّج المصيبة من وعظ وإنشاء شعر فمن النياحة».
7- أن رفع الصوت مع الجنازة سواء بذكر أو قراءة أو وعظ ونحو ذلك لم يكن مأثوراً عن السلف الصالح وقد سلف ذكر كلام شيخ الإسلام في أنه لا يعلم فيه خلافاً، وقال -رحمه الله-: «اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون الثلاثة المفضلة». بل إن عطاء والأوزاعي رحمهما الله قد جعلا قول القائل: استغفروا لأخيكم من البدع والمحدثات، وقد مضت الإشارة لذلك في أحد الأوجه، فكيف يكون حكم الوعظ عندهم إذا كان لغير عارض وكان الواعظ يتقصد اجتماع الناس للجنازة، بل بعض الوعاظ يتقصد جنائز العلماء وطلبة العلم ليعظ الناس، فالله المستعان.
تنبيه: سمعت من بعض الوعاظ في نهاية موعظة في المقبرة يقول محتجاً أنه سأل عالماً من علماء المسلمين فأجاز فعله.
والجواب:
أ- أن يقال له ما ذكره أبو عمر ابن عبدالبر -رحمه الله- بقوله: «يقال لمن قال بالتقليد: لم قلت به وخالفت السلف في ذلك، فإنهم لم يقلدوا؟.. فإن قال: قلّدت لأن كتاب الله عز وجل لا علم لي بتأويله، وسنة رسوله لم أحصها، والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني، قيل له: أما العلماء، إذا اجتمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض فما حجتك في تقليد بعض دون بعض وكلهم عالم، ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه» فإن قال: قلدته لأني علمت أنه صواب، قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع؟ فإن قال: نعم، فقد أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال: قلدته، لأنه أعلم مني، قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد في ذلك خلقاً كثيراً... فإن قال: قلدته لأنه أعلم الناس، قيل له: فهو إذاً أعلم من الصحابة، وكفى بقول مثل هذا قبحاً...».
ب- أن قول العالم يحتج له لا يحتج به، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع، وإنما الحجة النص والإجماع، ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية»، وقال -رحمه الله-: «وقد يراد بالشرع قول أئمة الفقه: كأبي حنيفة والثروي ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم فهؤلاء أقوالهم يحتج لها بالكتاب والسنة».
وقد سلف تشديد أئمة السلف في رفع الصوت مطلقاً مع الجنازة وذكر ابن تيمية -رحمه الله- أنه لا يعلم فيه مخالفاً، فلزم الرجوع إلى قولهم.
محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء