Al Jazirah NewsPaper Wednesday  04/08/2010 G Issue 13824
الاربعاء 23 شعبان 1431   العدد  13824
 

سود العيون اللي بها سحر هاروت 1-2

 

كتب - عبد العزيز القاضي

الحديث عن جمال عيون الحسان وتأثير نظراتها في النفوس حديث يطول، وقد تناوله الكثيرون قديما وحديثا، ولا غرو؛ فالعين أكثر أعضاء الجسد تأثيرا في المشاعر، فهي ليست منظرا جميلا جامدا، بل روح حية ترصد وتتواصل وترسل الإشارات الساحرة، والسهام القاتلة إلى القلوب المرهفة التي يجذبها الجمال، وتأسرها الحلاوة، فهي جميلة بشكلها، وجميلة في قدرتها على التواصل المباشر.. ولهذا وصف الشعراء تأثيرها القوي بأنه نوع من السحر، وسحر (هاروت) تحديدا. وسأحاول في هذا الحديث أن أرصد بعض الأبيات الشعرية الفصيحة والنبطية، التي ترددت فيها عبارة (سحر هاروت وماروت) أو (سحر بابل)، أو دار حولهما، وأعلق عندما أجد ما يستوجب التعليق.

(سحر هاروت).. كلمة مألوفة تتردد كثيرا في الشعر، بل إنها صارت مثلا يطلق عند وصف كل مؤثر في المشاعر تأثير إعجاب. وقد راجت الكلمة منذ أن نزل قول المولى سبحانه (وما أُنزِل على الملكينِ ببابلَ هاروتَ وماروتَ) البقرة 102.

وفي قصة هاروت وماروت للمفسرين أقوال متعددة ومتباينة اختلطت فيها الحقيقة بالخيال من خلال مرويات إسرائيلية ظاهرها الخرافة والبطلان، وقد تكلم كثير من المتقدمين والمتأخرين في تلك الروايات وحاكموها. والتعامل مع المرويات الإسرائيليات له قواعد حددها أهل أصول التفسير منذ القدم..

ولعل من أفضل ما تطمئن إليه النفس في مسألة (هاروت وماروت) ذلك البحث الذي أعده ونشره الدكتور أحمد بن عبد العزيز القصير تحت عنوان (التحقيق في قصة هاروت وماروت المذكورة في سورة البقرة)، وهو بحث علمي محقق على مذهب أهل السنة والجماعة، مؤسس على محاكمة المرويات والأحاديث الواردة في القصة، وفق قواعد علم الجرح والتعديل المعروفة، وتخريج الأحاديث الواردة في القصة، ومن خلال التفسير الذي لا يصادم العقل ولا النقل.

وقد رجَّح الباحث في نهاية بحثه أن (هاروت وماروت) كانا «ملكين من ملائكة السماء أنزلهما الله - عز وجل - إلى الأرض فتنة للناس وامتحاناً، وأنهما كانا يعلمان الناس السحر بأمر الله - عز وجل - لهما». وهذا يعني أن الرواية التي تذكر قصتهما مع الزهرة المرأة التي صارت كوكبا فيما بعد ما هي إلا خرافة منقولة عن روايات إسرائيلية.

وأيا كان الأمر فقد ارتبط اسم (هاروت وماروت) بالسحر، وارتبط سحرهما - كما ورد في الآية الكريمة - ببابل المدينة المعروفة في العراق. وبهذا أصبحا في حديث العرب وآدابهم رمزا مشهورا للسحر، وصارت (بابل) هي مدينة السحر والسحرة التي يُنسب إليها كل سحر مؤثر. ولا شك في أن شهرة (هاروت وماروت وبابل) نشأت من ورود ذكرهم في القرآن الكريم، ولأن (هاروت وماروت) ملكان أنزلهما الله لفتنة الناس وامتحانهم كما ورد في الآية الكريمة.

لقد وصف العرب كل مؤثر في مشاعرهم تأثير إعجاب بأنه (سحر هاروت)، وتشبيه قوة التأثير في المشاعر بالسحر أحد مظاهر البلاغة العربية التي تعتمد كثيرا على المبالغة.

وفي الشعر العربي فصيحه ونبطيه سارت عبارة (سحر هاروت) - كما ذكرت قبل قليل - مسير الأمثال، وصارت ترد في الشعر - أكثر ما ترد - في سياق وصف الكلام المؤثر تارة ، وفي وصف نظرات الحسان القاتلة تارة أخرى، ولعل هذه الأخيرة هي الأكثر ارتباطا بصفة (سحر هاروت) في الشعر بنوعيه الفصيح والعامي.

أما وصف الكلام المعجب المؤثر بأنه سحر، فقد ذكره النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: (إن من البيان لسحرا). والمقصود بالسحر في هذا المقام الغاية القصوى من التأثير والإعجاب، وكأن الكلام الجميل يخلب اللب ويصرفه عن الواقع كما يفعل السحر، والكلمة مثلها مثل أي مجال آخر، لها أسياد يُصرّفونها كما يشاء لهم التصريف، من خلال مواهب فطرية، وإمكانات تعبيرية هائلة.. فيقتنصون - بحلو الكلام، وقوة الحجة - القلوب التي تطرب لحلاوة التعبير، وتتأثر بمقنع البيان، ويسحرون - بهما - المشاعر المرهفة التي تسلم قيادها لنفحات الجمال، وتستأسر لخدر الحروف المعطرة.. إنه السحر المسيطر على الأرواح المتوقدة القوية الإحساس، لكنه (السحر الحلال) الذي لا إثم فيه، قال ابن النقيب:

ومن النظْم ما يُصاغُ عُقُوداً

ومن النَثْرِ ما يَسيلُ زُلالا

نَفَثَاتٌ لو شبَّهوا سِحْرَ هاروت

بها لم يكن عليهم محالا

وقال ابن العديم بعد أن تأمل في شعر أيدمر المُحْيوي (التركي) الذي حمله إليه ليتصفحه:

وكنت أظن التركَ تختص أعينٌ

لهم إن رَنَتْ بالسحر فيها وأجفانُ

إلى أن أتاني من بديع قريضهم

قواف هي السحر الحلال وديوان

فأيقنت أن السحر أجمعه لهم

يقرُّ لهم هاروت فيه وسحبان

قلت: والبيت الأول فيه عسف وتعقيد وتكلف في التركيب والإعراب.

وابن العديم هنا يصف ذلك الشعر بأنه (السحر الحلال)، وأن (هاروت وسحبان) يقرّان للترك بأنهم يجيدون السحر بالكلام، وسحبان المذكور في البيت هو خطيب العرب الشهير في الجاهلية والإسلام، وبه يُضرب المثل فيقال (أبلغ من سحبان بن وائل).

وقال بشار بن برد يصف حلاوة حديث محبوبته:

وَكَأَنَّ تَحتَ لِسانِها

هاروتَ يَنفُثُ فيهِ سِحرا

وقال مهيار الديلمي يصف الكلمات المؤثرة:

نفَّاثةَ العُقُداتِ تحسبُها

هبَطتْ إلى هاروتَ بالسحرِ

وقال المتنبي متفاخرا بشعره وسطوة بيانه:

لا تَجسُرُ الفُصَحاءُ تُنشِدُ هَهُنا

بَيتاً وَلَكِنّي الهِزَبرُ الباسِلُ

ما نالَ أهْلُ الجاهِلِيّةِ كُلُّهُمْ شِعْرِي

ولا سمعتْ بسحري بابِلُ

وأما وصف ما تسكبه عيون الحسان من نظرات تصيب مقاتل القلوب، فقد أكثر فيه الشعراء حتى تقرر التعبير عن أثر العيون النواعس في النفوس الحية بأنه (السحر) أو (سحر هاروت).. بل إن بعضهم أطلق على الطرف أو الجفن اسم هاروت لما يحدثه من سيطرة وشل حركة لرائيه، تماما كما يفعل السحر في المسحور، قال إسماعيل صبري:

تبارك من سواك في الحسن كاملا

وعوّد هاروت الجفون على السحر

فـ (هاروت الجفون) هنا هو نظراتها القاتلة. وقال قاسم الكستي:

قد حرم النومَ على مقلتي

هاروت جفنيه بسحر حلال

ومن ربط أثر نظرات الحسان بالسحر وهو ما ذكرنا بأنه الأكثر، قول ابن المعتز:

خُلِعَ الحُسنُ عَلى وَجنَتَيهِ

وَرُقى هاروتَ في مُقلَتَيهِ

ويقصد بـ (الرقى) هنا نفثات السحر. وقال ابن حمديس:

كيف التخلص من فواتر أعين

يلقي حبائل سحرها هاروت

والبحتري يرى أن ما ترسله العيون من سحر النظرات سحر يُسكر رائيه، قال:

يا باعث السكر من طرف يقلبه

هاروتُ.. لا تسقني خمرا بكأسين!

وقال الصنوبري:

يا أيها الساقي الذي قد ضُمِّنَتْ

أجفانه هاروتَ أو ماروتا

وقال أبوتمام:

وقد أُوتيتْ عينين هاروتُ فيهما

وماروت.. ما أدهَى لقلبٍ وأسحرا!

وقال أبونواس:

كَأَنَّما هاروتُ في طَرفِهِ

بِالسِحرِ في عَينَيهِ جَلابُ

وقال ابن زريق:

ويلحظ عن طرف غضيض مُكحَّل

من الغنج هاروتٌ بجفنيه راصد

فـ (هاروت) مختف مترصد في جفني الحبيب، ليرسل سهام السحر إلى قلوب الناظرين إلى عينيه.

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد