Al Jazirah NewsPaper Friday  06/08/2010 G Issue 13826
الجمعة 25 شعبان 1431   العدد  13826
 
أناسٌ همّهم وشغلهم الشاغل الخوض في الأعراض ونشر الفضائح
مجالس النميمة.. وأكلة لحوم البشر..!

 

الرياض - خاص ب «الجزيرة»

الذنب والخطأ من طبائع النفس البشرية، فلا يوجد إنسان لم يذنب، ولا يوجد إنسان على هذه البسيطة لم يخطئ، وقد صاحب ذلك أنّ فئاماً من الناس تكون عوناً للشيطان على المخطئ، وذلك بفضح أمره، وهتك ستره، وتمزيق عرضه، والتشهير به، والحديث مع الناس عن معصيته، بدلاً من مساعدته على تصحيح خطئه أو التوبة من ذنبه ومعصيته .. فأصبح البعض يتخذ من أعراض الناس نوعاً من اللهو والتسلية، وإضحاك الآخرين، فلا يطيب لهم الحديث إلاّ بذكر عيوب الناس، وتلفيق التهم، ولا يبالون بما يقولون، فلا خوف من الله يردعهم، ولا حياء يمنعهم .. ما الأسباب والدوافع التي تجعل الناس ينشرون فضائح الآخرين؟ وما موقف الإسلام ممن يسعون إلى نشر هذه الفضائح، وعدم الستر على مرتكبيها؟ وكيف نحتوي المذنبين، ونصون أعراض الناس، وعدم تتبّع عوراتهم والتشهير بهم؟

التشهير بالناس

بداية يؤكد د. صالح بن عبد الرحمن المحيميد - رئيس محكمة استئناف وعضو المحكمة العليا بالرياض -: إنّ من الذنوب والمعاصي التي كثرت على ألسنة كثيرة من الناس، التشهير وذكر المثالب والعيوب، وسبب ذلك قلة العقل والعلم والدين، لأنّ النفس إذا لم تشغلها بالحق والخير أشغلتك بالشر والباطل، وفي هذا الزمان ابتلى الله سبحانه الخلق بالنعم وسهولة المعاش، فصار كثير منهم لديه فراغ كبير أساء استثماره، فبدلاً من أن يوجه ما حباه الله من نعمة الصحة والغنى والفراغ لما ينفعه في دينه ودنياه، وجّهه إلى ما يضره ويضر مجتمعه ضرراً بليغاً لأنّ في التشهير وذكر المثالب والعيوب والهمز واللمز وتحقير الآخرين والاستهزاء بهم والتقليل من شأنهم ما يكرس البغضاء بين الناس، فيكره بعضهم بعضاً ويبعد المسلم عن أخيه وجاره وزميله وغيرهم مما ينكد على الناس حياتهم ويفرق بينهم ولا هدف للشيطان أكثر من هذا، فهذا الأمر يهدم الأجر ويوفر الإثم ويبعد المرء عن ربه الذي مثل لنا الغيبة وهي (ذكرك أخاك بما يكره) بأبشع مثل فقال سبحانه: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}، فمن أباح لنفسه ما حرّمه الله عليه من انتهاك العرض، فهو كالذي أباح لنفسه الأكل من المشهر به لو كان ميتاً قد تحللت جثته، ومن يتأمل يجد لا فرق، فالطعن في الأعراض محرّم تحريماً بنص القرآن الكريم وصريح السنّة، فمن لا يبالي بهذا الأمر فهو كمن يأكل لحم البشر بعد الموت، فالمانع من الأمرين هو التحريم وما دام انتهك الأول فالأكل ميتة الآدمي مثله. وهذا المحرم قد فشا في الناس حتى صار أمراً عادياً لا ينكر حتى ممن الشأن فيهم إنكار المنكر من أهل العلم والعقل والصلاح والإصلاح، وهذه من القواصم التي هوّنها الشيطان حتى لا تجد في المسلمين من يسلم من طعن طاعن، وصار من الناس من يتلذذ بسماع وبقول ما لا يجوز سماعه ولا قوله من الغيبة والنميمة والبهت والشر والذنوب، وكل هذا إثم وذنب يجب إنكاره من كل أحد من السامعين، ولا يعذر أحد بالسكوت عليه، لأنّ الراضي كالفاعل ومن يستملي للمغتاب فهو شريكه بالإثم، فلنتق الله جميعاً في أقوالنا وأفعالنا وليحاسب كل منا نفسه ويحفظ لسانه، فإنه لا يُكبُّ الناس في النار على وجهوهم إلا حصائد ألسنتهم كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، وما أشقى من يُذهب حسناته وثواب أعماله الصالحة من صلاة وصيام وزكاة وغيرها يذهبها بما يقوله في غيره مما لا فائدة له فيه، وإنما قال ذلك في غفلة أوقعه الشيطان فيها لإهلاكه .. أسأل الله أن يوقظ قلوبنا لنحذر كيد الشيطان ومكره.

أعمال محرّمة

ويبيّن د. عبد الله بن إبراهيم الطريقي - الأستاذ بكلية الشريعة بالرياض: إنّ الموقف يقوم على أصلين كبيرين وخطين متوازيين: أحدهما: النصيحة والثاني: الستر، فأما الأول فيقتضي الإصلاح والتقويم والتغيير والدعوة والتوجيه، كما دلت على ذلك الدلائل الكثيرة من الكتاب والسنّة، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}، وقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، وقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها ...) إلى آخر الحديث، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ...) الخ.

وهذا الأصل يمكن إجماله في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهو ليس مجال الحديث هنا.

وأما الأصل الثاني وهو الستر - وهو محل الحديث - فقد دلت عليه نصوص شرعية كثيرة، وقد اشتملت كلٌ من سورة النور وسورة الحجرات على تقرير هذا المبدأ، ففي سورة النور جاء قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ...} الآية. وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}، وفي سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} .

وكل هذه الأخلاق السيئة التي نهت عنها الآيات الكريمة تعالج موضوعاً واحداً هو (تتبّع عورات الناس وهتك أسرارهم وأعراضهم ) مثل إطلاق البصر، ودخول مساكن الغير بدون إذن والسخرية من الناس وإساءة الظن بهم والتجسس والغيبة.

ثم جاءت السنّة الصحيحة بتجريم هذه الأعمال والأخلاق والتحذير منها، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإنّ الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدبروا وكونوا عباد الله إخواناً)، وفي سنن أبي داود: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم).

وبناءً على هذا الأصل تحصل الألفة والمحبة والاجتماع بين المسلمين وتجتث جذور البغضاء، والشحناء، والأحقاد، وذلك من مقاصد الإسلام العظمى.

مرض يحتاج لعلاج

ويؤكد د. الطريقي أنّ من يحاول تتبّع عورات الناس، والتلصص عليهم، أو تتبّع أخطائهم، أو نشرها على الملأ من خلال الأحاديث العامة أو وسائل الإعلام، أو المنابر، أو الشبكة العنكبوتية، ناهيك إذا كان يتلذّذ بإشاعة مثل هذه الأخبار، فكل ذلك مرض في الشخص يحتاج إلى علاج مكثف.

فإذا تجاوز الأمر إلى أن أصبح ظاهرة اجتماعية فإنها وأيم الحق قاصمة الظهر، وتصبح مرضاً عضالاً يتطلب حملة علاجية توعوية لا تتوقف.

بيْد أنّ وصف العلاج يتوقف على معرفة حقيقة المرض وأسبابه والذي يظهر لي أن من أهم أسباب تفشِّي هذه الأمراض ما يأتي:

1 - ضعف الوازع الديني.

2 - عدم فقه المقاصد الكبرى للإسلام أو فقه الموازنات، فالشخص الذي لا يفقه أهميه، الاجتماع والجماعة وتآلف القلوب على الخير والبر، أو لا يميز بين الصغائر والكبائر، أو بين الألفة والعداوة، أو تستوي عنده الأمور كلها خيرها وشرها، فإنّ مثل هذا من السهل عنده نقل الأمراض إلى آخرين.

3- عدم فقه المآلات وما ينتج عن هذه الأمراض من مصائب جسيمة، قد يكون من أقلها التفكك الأسري والاجتماعي، وزرع الوحشة بين الأصحاب والأقارب، والقبائل، والعشائر، والطوائف، بل بين أهل بلد وآخر، ودولة وأخرى.

4- وجود المفاهيم الخاطئة عند البعض، مثل: وجوب الإنكار العلني في كل الحالات حتى لو كان الخطأ خفياً أو صغيراً، ومثل تصديق ما يشاع أو يقال، (وأنّ العلم لا يخرج من تحت الحصا) كما يقول المثل.

5- الاستغلال السيئ للتقنيات المعاصرة كالشبكة العنكبوتية، والجوال، واتخاذها وسيلة للتسلية، أو تصفية الحسابات، أو التشفي من الخصوم، الأمر الذي يؤول إلى المبالغات، والكذب، والاتهامات الباطلة.

6- وأخيراً فربما غاب عند كثير من الناس من تصور هذا الأصل أعني (الستر) وحضر في الذهن الأصل الأول وهو (النصيحة) وذلك من عدم الفقه في الدين.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد