Al Jazirah NewsPaper Friday  13/08/2010 G Issue 13833
الجمعة 03 رمضان 1431   العدد  13833
 
قصة قصيرة: علي المجنوني
ابن ماش

 

انتفخ الخوف في بطن طايعة. ظلت تراقبه وهو يتخلّق منذ أشهر ويكبر عِبئاً جديداً في حياتها، وهي تفكّر. كان الخوف المنتفخ يكوّرها شيئاً فشيئاً. يتدحرج بها على مُنحَدرٍ لا تعلم له قاعاً، ويزحف بها عبر طريق لا تدري له وِجهة. لذا عمدت إلى بعض التدابير حتى ينبجسَ بأقل ضرر.

أخذت تواري بطنها بالثوب الوحيد الذي تملكه. ثوب مُسَدَّح خاطَتْه لها فارعة، عمّتُها وزوجةُ سيّدها، من قماش الدُّوت الأسود. من فوق الثوب تلبس مِصرّاً أحمر على رأسها، كالبُخنُق، إلا أنه يمتد بطوله من الخلف حتى يلامس الكعبين. ومن فوق المِصَرِّ ظُلالةٌ من السَّتان الأسود أيضاً. كل ما تلبسه تسخّره للمواراة. كما أنّها لم تعد تضوي بالضأن قبل أن يذوب الشفق في صُدْغِ السماء. تتستّر بسِتر الليل. تتخلف عن العشاء حتى يؤتى بباقي الزاد إليها في عريشِها. عند المشي تشدّ ظهرها، وتتحاشى العيون وقتَ الحَلْب والرضاع وحين تسرح بالضأنِ في الصباح.

هي الجارية طايعة، جارية أبي مشعان. مشتراةٌ من شريف مكة بجَملٍ وحِملِه من الذرة البيضاء. مشتراةٌ لخدمة مَنْ كانت تظنهم أهلها. من كانت تظن أنها عودٌ في طرف حُزمَتِهم حتى الربيع الفائت.

***

عجّلت بالربيعِ صَبا حارقة. تهبُّ من الصباح إلى المساء وكأنها مربوطة في أذيال الشمس. تكشط وجه الأرض كشطاً. تهدم في ثلاثة أيام أو تزيد قليلاً ما بناه المطر في شهور. والجاريةُ طايعة سارحة في الحلال عبر القِفار. خيالٌ ينُوس في البعد خيطاً معلقاً من السماء. تُعابث الصَّبا خيالها وهي تحوش القطيع. فينةً تتقدم القطيعَ وفينةً تتأخر تلمُّه كتلة واحدة إذا تفرّق.

عند الظهيرة استكانت الضأن للمَقيلِ إلى سَلَمةٍ كبيرةٍ كالدوحة. أما هي فقعدت على الحدّ بين الظل والشمس. تنثر قبضةً من الحصى على الأرض ثم تلمّها من جديد. مُطرقة لا ترفع نظرها أكثر من قدميها، إذ لا شيء يستحق التفاتةً في ذلك الهجير. حتى جاءها كالحلم عصيّاً على العين. كالسرابِ يغيب ويحضر. كسِمْلٍ بالٍ يهتكه النسيم إن هبّ عليه. أوقف مطيَّتَه قريباً منها فشبَحَتْ إليه النظر. لأردانِه لون الطين. يَبِينُ طولُه وهو على ظهر المطية. جِلده مشدود على عظامه كاللحاء. يلف صِماداً حول رأسه. يتلثّم بطرف الصِّماد يقي وجهَه لفحةَ الحر. هبط بخفّةٍ على الأرض دون أن يحرك أي ساكن. أوثق خِطامَ بعيره إلى جذع شجيرة قرب مقيل الضأن، وتقدّم ببطء نحو الخيال الذي توقّف عن مسِّ الحصى.

قامت طايعة بدنوِّه منها. تناغيا مناغاة الطيور العَجَالى. في إحدى إجاباتها التفتت نحو الشياه الرابضات فبَانَ جيدُها. برقت من بين السَّوَادَيْن، سوادِ ظُلالَتِها وسوادِ جيدِها، قلادةُ أم الهيكل. قلادةٌ فضيةٌ هي حظها الوحيد من الحُلي. لما عادت من التفاتتِها وجدَتْهُ عيناً راغبة. سحبت برشاقةٍ نظرَه من القلادة إلى عينيها، فتوسعت عيناه حتى التهمتا هيكلَها. تعثّرت في الكلام، فكان الصمتُ خيرَ داعٍ وخيرَ مُجيب.

تلدَّدا يميناً وشمالاً. لم يكن غير ثُمامةٍ تتمايل بما فيها من رَمَقِ نداوة. خُوصُها يغطي القاعد. لما قصداها كان فَيْؤُها قد مال بضعة أشبار. افترشا الفيءَ والتقيا. ظامئ على ظامئ. رويداً بدأ يتشكّل للحلم لونٌ وللسراب جسمٌ في عيني طايعة، وفاحتْ مثلُ رائحةِ الأبنوس عند نَحْتِه. عَجَنا رغبتَهما سريعاً، والتقى الماء بالماء بينما الجفاف يخنق كل ما حولهما. سكنت الصبا فجأة، فثَغَتِ الضأن من خلفهما، ورغى البعير. خبطت صدرَها صائحة:

- وا صباحك يا طايعة!

ثم قاما كالملدوغَيْن.

***

حان الحينُ، فحاشها المخاض بعد أن دكّ الليل إلى الوادي. قطعت الوادي إذ لم تجد فيه غير الشوك وأعجاز شجيرات يابسات. على الوهدة وجدت ثُمامة كتلك التي أظلّتْهما آخر الربيع. قد رمى السيل قَذَاه على فروعها حتى عادت كقُفٍّ صغير. استلقت على ظهرها وحامت النجوم فوق رأسها وهي تدافع الألم. تزفر أكثر مما تشهق. تزفر بعدد النجوم وأكثر. دفعت بطنَها بكل قوةٍ فاندلقت صرخةٌ نافذةٌ كالسكين في عتمة الليل. خالَتْ بأن دويّ صرخته يسدّ آذان سيّدها وكل العائلة. سرَّرَت الوليدَ مستخدمةً حجراً دسَّته في جيبها، ثم اعتنت بلفّه في مِصَرَّها الأحمر. بعد ذلك هيأت له بيديها من التراب مطرحاً ووضعته برفق الأم المشفقة. وقتما انتهت عفَّرت يديها بالتراب ومسحت بهما منشِّفةً كل بلل. وشرعت تسحب رجليها سحباً.

سكت الوليد عن الصراخ، لكنه أخذ حشاشة قلبها وهي تتركه للثُّمامة والظلام. كان الليل يسرق الأنين من جوف الأم، ويذوّبه في خضمّه الحالك. وبمجرد أن قطعت الوادي التقت بفارعة وزوجة ابنها. غارتا عليها تتفحصانها وتتفقدان بطنها. زوجة مشعان، التي في سِنِّ الجارية تقريباً، صاحت مستفهمة:

- وين بطنك يا طايعة؟

فيما دَعَتْ فارعة:

- طشّيتيه؟ عَسَاك بال أخيذة!

نشبت الكلمات في حلق الجارية ولم تردّ للسؤال جواباً. فقط نكَّست رأسها وصفقت كفاً بكف، ثم اتخذت طريقها بينهما عائدة إلى البيت. راحت المرأتان تفتشان في الظلام حتى عثرتا على الوليد في مكانه والتقطتاه بلفافته.

لم تبلغ طايعة البيتَ إلا والمرأتان معها. نهض لأصواتهن أبو مشعان من ضَجْعتِه، ومضغ كلاماً بشكل رديء. تلقّف المولود من أيديهن، وضحك استبشاراً بالغنيمة المضافة إلى الحلال. لم يسألوها ابن مَن؟ ومن أين أتت به؟ كادوا يقبّلون رأسها شكراً لو لم تكن جاريتهم. سلّم أبو مشعان المولود لزوجته وطلب منها أن تحنِّكَه بالتمر. ثم أمر الجميع إمّا سألهم سائل بأن يقولوا: لقّحتها الهبوب. كما أمر المرأتين بأن تَقسِما لطايعة شاةً درعاء تساعد في إرضاع الطفل.

لم تنم طايعة. انكمش الخوف الذي كان مزروعاً في جوفها. هوى بها إلى المنحدر على أية حال، لكنها أصبحت تخاف. تخاف من كل شيء. من الليل والربيع السراب وهبوب الصَّبا. وبين الخوف والخوف تدلي ضرعَها المِدرار على الطفل الذي لن يكون ملكها. على الطفل الذي سيكبر ويكون مِصلاحاً شجاعاً، لكنه ابن ماش!



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد