Al Jazirah NewsPaper Friday  13/08/2010 G Issue 13833
الجمعة 03 رمضان 1431   العدد  13833
 
منذر حلوم :
غول في كل بيت

 

بسبب ترميم في المبنى الذي أسكنه, نعمت بالبقاء شهرا كاملا دون تلفاز.. شهرا كاملا وأنا أتذكر مخترع التلفاز الحديث, العالم الروسي فلاديمير زفوريكين, وأترحّم عليه وعلى أبيه, كما نترحّم نحن العرب. ففي مقابلة متلفزة مع زفوريكين, قال العالم الكبير, والعارف الخطير بالكيفية التي وظّفت فيها مخترعاته, وقد يكون من أهمّها النقل المباشر على الهواء مدنيا وما يوازيه عسكريا, وغيرها من المخترعات التي زوّدت الولايات المتحدة بقدرة سيطرة وتضليل هائلة, قال ردّا على سؤال عن أهم ما يراه في جهاز التلفاز الذي اخترعه: أهم ما فيه زر الإطفاء.

كان زفوريكين يتحدّث بحسرة عما يتجاوز إرادة العِلم, من وظائف خطيرة راح يؤديها جهازٌ لا يعدّه الأهم بين مخترعاته, عن غسل الأدمغة والتضليل الذي يُمارَس عبره. كانت أميركا صائدة العقول, قد عرفت كيف تجذب زفوريكين وتوظّف عقله في مؤسساتها الرأسمالية, ثم توظّف منتجات عقله في التحكم بعقول البشر ومصائر الشعوب والأوطان. ولا بد من إبداء الأسف, فيما يخص التأثير المباشر, وفيما يتعدّاه إلى ما هو أخطر منه. فمعظم البشر, إلى الآن, وعلى الرغم من معرفة كثيرين بتقانات المونتاج والخداع, يعدّون الصورة وثيقة لا تدحض, فكيف إذا كانت الصورة تنقل مباشرة من مكان الحدث, وكيف بها إذا كانت تهيّج مشاعر على علاقة بانتماءات دينية وإثنية وسواها!؟ ومع ذلك, يستجمع كثيرون قواهم ويضغطون على (زر الإطفاء), حين ترهقهم مشاهد الموت والدمار والفقر والأوبئة والكوارث الطبيعية. يندهون, هازّين رؤوسهم (لا حول ولا قوّة إلاّ بالله!), ويضغطون الزر وينصرفون عن الشاشة السوداء, مجللين بشعور بالعجز.وأمّا حين يتعلّق الأمر بتأثير غير مباشر, حلو, مثير, جالب للمتعة واللذة, عبر أفلام وأغان وبرامج منوّعة جذّابة.. فأين تراه ذلك الجبّار, حائز تلك القوة العظيمة التي تحتاجها الإصبع للضغط على ذلك الزر الصغير؟ ليس في بيتِ أيٍّ منا يكون!

وأمّا الأخطر من ذلك كلّه, فإن أنت تأثّرت أم تمنّعت, يكون غول الوقت, قبلما تنصرف عن الشاشة, قد التهم من عمرك ساعات.

ولو تفحّصت ما حولك ومَنْ حولك لوجدت أشياء كثيرة بحاجة إلى إنجاز وبشر قريبين وربما حميمين بأمس الحاجة إلى هذه الساعات التي لا تستعاد, وإلى ذلك الاهتمام الذي لا يستجدى في حضرة غواية الأضواء.

وقد يكون من أخطر أشكال التأثير, أن تستهلك الشاشة زمنك الشخصي والعام, اللازم لحلّ مسائل تحدد وجودك بالمعنى المباشر. لكنها غواية الفرجة, والطمأنينة التي يجلبها وهم المشاركة. فمن يقوى على إدخال يده في فم الغول لضغط (زر الإطفاء).





 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد