Al Jazirah NewsPaper Saturday  14/08/2010 G Issue 13834
السبت 04 رمضان 1431   العدد  13834
 
بين الكلمات
إرث النزاع وثقافة الاعتذار
عبد العزيز السماري

 

عرف الإنسان النزاع منذ الأزل، واختلفت أنماطه من زمن إلى آخر، وكان السيف لعصور طويلة الأداة الأكثر حسماً في ميادين الصراعات، فقد كان رمزاً لكل ما تلاه من أسلحة أكثر تطوراً وتدميراً، لكن يظل النزاع الأشد فتكاً هو ذلك النزاع الذي يخلو تماماً من أدبيات الحوار والأخلاق، إذ ما كثيراً ما يتجرد الإنسان من أخلاقياته من أجل نصرة قضية خاسرة وظالمة، بل تجده أحياناً يفتقد لكثير من الأعراف الحسنة التي كانت تحكم مجتمع النزاعات التقليدية في العصور البدائية.

كان احترام الخصوم وعدم تجريحهم في حالة الخصام والنزاع من أخلاقيات العرب في الجاهلية، إذ لا يتجرأ أي منهم في المساس والتجريح بشخصية الخصم، لكن ذلك تبدل كثيراً في عصور الانشقاق في القرون الوسطى من التاريخ الإسلامي، فقد طغت لغة شديدة الإقصاء والتجريح في المخالف، ووصلت أثارها لعلماء الدين، والذين أكثروا من ردود الأفعال الحادة ضد المخالفين، وصل الأمر في بعض الأحيان إلى الشتم والسب والتكفير والتبديع، وأدى تكرارها في كثير من كتب الفقه والفتاوى في العصور الإسلامية إلى اتخاذ بعض الفقهاء المعاصرين ذلك منهجاً في الرد علىالمخالفين؛ أي يحق للعالم أن يستهزئ بمخالفه، وأن يهاجمه في شخصيته إذا تبنى رأياً مخالفاً للمرجعية.

قد حدث شيء من ذلك في الآونة الأخيرة في مخاض أحد الاختلافات الشهيرة، عندما عبروا عن اختلافهم الشديد مع المخالف من خلال التجريح الشخصي واللمز، والجدير بالذكر أن المنتديات الإسلامية تزخر بالمقالات التي تتحدث عن أدبيات الاختلاف وأخلاقياته، لكن مع إمعان النظر فيها، سيتضح أن أدب الخلاف يكون محصورا فقط في ما بين الأتباع وأعضاء الجماعة.

وذلك يخالف ما عبر عنه الإمام العظيم أبو حنيفة في وصفه لاجتهاداته: «علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه كان أحق، وما جاء به الإمام أبو حنيفة هو بيت القصيد في قضايا الاختلاف في الاجتهادات الدينية، فمسائل الاختلاف لا يجب أن تتجاوز (الرأي)، وأن لا يصدرها صاحبها على أنها حكم الله عز وجل في تلك المسألة، وكان ذلك مصدر الاختلاف والخلاف والنزاعات في القرنين الثاني والثالث الهجريين، فالرأي كان يُطرَح على أنه حكم الله في المسألة وليس اجتهاداً شخصياً، وبالتالي، تجده غالبا ما يتبع حكمه بجملة «»من خالف ذلك فقد كفر أو ابتدع وغيرها.

كان تأثير مثل هذا النسق، الذي ظهرت فيه عدم موضوعية علماء الدين وخروجهم عن أدب الاختلاف، كبيراً على الناس، والذين أستأنسوا مثل هذه الأساليب وصاروا يكثرون من استخدامها في حياتهم العائلية والعملية، فكانت القسوة والتجريح والتسلط والصراخ تحكم علاقتهم الاجتماعية والإدارية، وبالتالي، افتقد الإنسان العادي خصال الموضوعية، وحصر الخلاف في الموضوع بدون المس أو التجريح الشخصي، ويظهر ذلك بوضوح في بعض فعاليات الجامعات والمؤسسات والشركات إذ غالباً ما تعصف تداعيات بعض الاختلافات في الرأي بكثير من النجاحات، والسبب يعود إلى فقر أدبيات الاختلاف و قصور أنظمة بعض المؤسسات في معالجة قضايا الخلافات مبكراً.

تظهر تبعات ذلك في غياب ثقافة الاعتذار، والتي تكاد تكون معدومة في خطابات المجتمع المحلي والعربي، إذ لا أذكر أن خرج على المجتمع مسؤول يعتذر عن الكارثة التي نتجت عن سوء إدارته، بدءاً من حمى الوادي المتصدع وانتهاءً بكارثة جدة، وقد يكون سبب ذلك خلط الخاص بالعام أو الشخصي بالموضوعي، كذلك يغيب أدب الاعتذار في مختلف فعاليات المجتمع وحواراته، فالتجريح والإقصاء والأضرار لم يتبعها في يوم من الأيام اعتذار للآخر أو للناس عن حجم الضرر الذي خلفته، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على التخلف الحضاري الذي لازلنا أسرى له.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد