Al Jazirah NewsPaper Tuesday  17/08/2010 G Issue 13837
الثلاثاء 07 رمضان 1431   العدد  13837
 
شيء من
ماتَ وهو يُمسكُ يراعاً حِبْره عشق الوطن!
محمد عبد اللطيف آل الشيخ

 

تعجز الكلمات أن توفي هذا الرجل العملاق حقه. غازي القصيبي لم يكن رجلاً عادياً، يمر على الحياة كما يمر الآخرون؛ هو استثناء في حياته، واستثناء في إنجازاته، واستثناء في مواهبه، واستثناء في ثقافته، واستثناء في صراعاته وتحدياته وإصراره على مواقفه، وكذلك استثناء في وطنيته وإخلاصه للأرض التي عشقها حتى الثمالة، فبادلته الحب ورفعته ليزاحم بمنكبيه النجوم.

قليلون من الرجال الذين عرفهم التاريخ ممن استعصوا على الموت، وبقوا رغم أنف الردى أحياء في ذاكرة الشعوب؛ فإذا كان المتنبي ما زال يعيش بيننا، فإن المستقبل سيحتل منه غازي القصيبي ما احتلَّه المتنبي في ذاكرة كل من عرف الأدب العربي.

وغازي الإداري، والدبلوماسي، ورجل التنمية، لا يقل عن غازي الشاعر والأديب والمفكر.

فلم يُسند إليه موقع من مواقع المسؤولية في البلاد إلا وترك عليه من الإنجازات ما يُثبت أن هذا الرجل الاستثنائي قد مرَّ من هنا.

أتذكر أن أول تحدٍّ حقيقي واجهه غازي عندما أسندت إليه حقيبة وزارة الصناعة والكهرباء في منتصف السبعينيات من القرن الماضي.

كانت كل المعطيات على الأرض تقف ضده، وتتشكل لتصبح عقبة كأداء في طريقه، غير أنه عمل وناضل وتخطى كل العقبات، والصعاب، ونجح في مهمته تلك؛ لينطلق بعدها وينتقل من نجاح إلى نجاح؛ وليست هذه المشاريع الضخمة التي تمتلئ بها مدينتا الجبيل وينبع إلا مجرد شاهد على ما أقول، وتثبت - أيضاً - أن غازي قد مرّ من الجبيل وينبع ذات صباح.

ولعل من حسن حظ الأجيال القادمة أن غازي الأديب، وغازي المفكر، وغازي الإداري، وغازي الدبلوماسي، وغازي الإنسان، ترك لهم إرثاً مكتوباً ضخماً يندر أن تجد له مثيلاً، خاصة أن ثقافتنا - للأسف - لا تعتني بالتوثيق والكتابة، غير أن غازي كسر هذا التقليد (المتخلف) - ولعلّ هذه النقطة بالذات من أهم إنجازاته واختلافه عن أقرانه - وكتب وألّف وأصرَّ على أن يورث تجربته الغنية لأبناء وطنه..

وكنت في اليوم الذي أبلغني فيه الزميل الأستاذ حمد القاضي بوفاته - تغمده الله برحمته - أقرأ في جريدة الجزيرة عن آخر أعماله الكتابية، الذي كان - كما يقول الخبر - كتاباً بعنوان (قصة الزهايمر) سيصدر نهاية هذا الأسبوع، فأراد الله أن يتوفاه قبل أن يراه منشورا؛ فقد كان حتى آخر دقيقة من حياته حريصاً على إيصال تجربته الثرية إلى الأجيال القادمة، التي ستجد فيها بلا شك مثالاً يُحتذى للإنسان الوطني الشامخ الذي سخّر كل ما يملك من قدرات ومواهب ليجعل لبلاده مكاناً تحت الشمس.

ولا يمكن أن نتحدث عن غازي دون أن نتحدث عن (نزاهته المالية)؛ فرغم أنه دخل في كثير من الصراعات، وخاصمه وعارضه كثيرون، وقيل فيه الكثير من التهم، إلا أنني لا أتذكر أن (نزاهته) وأمانته وذمته المالية كانت مثار شك، أو محل اتهام من خصومه، الذين كانوا يبحثون عن سقطاته لتكبيرها وتضخيمها بكل الطرق، كان ذلك في زمن ضَعُفَ فيه كثيرون، فاستغلوا مناصبهم، وما أسند إليهم من مسؤوليات للإثراء غير المشروع، بينما بقي هذا الرائد العملاق ثابتاً على مواقفه، متمسكاً بمبادئه، يُحافظ على نزاهته حفاظه على شرفه؛ فلم يتزحزح عنها قيد أنملة.

فالعظماء الذين يبحثون عن الخلود لا يلتفتون إلى الصغائر، وكان هذا الرجل واحداً من هؤلاء العظماء.

رحمك الله يا غازي، وجزاك عنا جميعاً، وعن وطنك خير الجزاء؛ فمثلك - والله - ظاهرة من الظواهر الحضارية التي نحتاج إلى عقود وعقود لكي تتكرر.

إلى اللقاء.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد