Al Jazirah NewsPaper Wednesday  18/08/2010 G Issue 13838
الاربعاء 08 رمضان 1431   العدد  13838
 

غازي القصيبي طبتَ حيا وميتاً
حمد بن عبدالله القاضي

 

رحماك يا الله.. رحماك يا الله

هذا (الرمز) الذي ملأ الدنيا وشغل الناس: وزيراً وسفيراً وشاعراً وروائياً وخطيباً وإنساناً يتخطفه الموت كما يتخطف أي امرئ في هذه الدنيا.

لقد جنحت بآمالي إلى الكذب عندما تلقيت نبأ رحيلك صباح الأحد -رحمك الله- لكن إيماني بالله ويقيني بأنه سبحانه هو الحي الذي لا يموت جعلني أستسلم منكفئاً على حزني، متوسداً شجني! هذا (المفكر العملاق) يغادر دنيانا.. يسافر عن أهدابنا، وينتقل من أروقة القلوب إلى منازل القبور.. من ظهر الأرض التي أثراها عطاءً وإبداعاً إلى بطنها حيث النهاية والسكون.. واريناك قبرا لا يزيد عن متر ونصف وأنت الذي كانت آمالك وعطاءاتك بسعة الدنيا.. لقد خذلتني (يدي) وأنا أحثو التراب على قبرك الطاهر مع محبيك المشيعين و:

لغز الحياة وحيرة الألباب

أن يستحيل الفكر محض تراب!

وخذلني (قلمي) وأنا أمسك به وقتا طويلاً لم أستطع أن أخط سطرا أو أكتب حرفاً.

أيها الأثير غازي: لقد اختار الله لك (أيها المؤمن الصادق) أن تغادر أعمارنا في شهر رمضان شهر الطهر والعطاء والنقاء.. وإنها لنهاية كريمة -بحول الله- فقد قدمت إلى الكريم في الشهر الكريم بعد صبر مع المرض كبير.

أيها الراحل الغالي: لقد كان يتملكني إحساس برحيلك حتى قبل أن يداهمك المرض.. فقد كانت قصائدك تشي بما في جوانح ذاتك، فقد قلت في قصيدتك التي نشرتها عندما بلغت الخامسة والستين في صحيفة الجزيرة تخاطب ربك:

أحببتُ لقياك: حسن الظن يشفع لي

أيرتجى العفو إلا عند غفار؟

وفي قصيدتك (لك الحمد) التي نشرتها صحيفة (الجزيرة) أيضاً في 23-4-1427هـ قلت في نهايتها بروح المؤمن الموقن:

ولم أخش يا رباه موتا يحيط بي

ولكنني أخشى حسابك في الحشر

ترحّل إخواني فأصبحت بعدهم

غريباً.. يتيم الروح والقلب والفكر

لقد كتب وسيكتب الكثيرون عن غازي القصيبي -رحمه الله- من خلال منجزه في الإدارة والوزارة والسياسة والشعر والثقافة... إلخ.. لكن ربما لا يكتبون عن غازي القصيبي (الإنسان) الذي كانت تهزمه دمعة يتيم، وتشجيه آهة معوق، وتسهده حيرة بائس.. وكان -رحمه الله- يبذل من ماله وجاهه الكثير الكثير من أجل مساعدة من يلجأ إليه.

كثيرون لا يعرفون (أي شجن) يسكنه عندما لا يقدر على رفع ظلم أو إعانة مسحوق.. لقد قال وصدق:

وإن سهرت مقلة في الظلام

رأيت المروءة أن أسهرا

سأذكر موقفاً واحداً من مواقف كثيرة أعرفها.. لقد كتبت له ذات مرة عندما كان وزيراً للصناعة عن امرأة هجرها زوجها بعد ارتباطه بأخرى حرمها من رؤية أولادها، فضلاً عن عدم إنفاقه عليها وعلى أطفاله حتى أصبحت لا تستطيع تأمين الحليب لهم، وما أن وصلته رسالتي وإذا به يتصل بي ليستوفي بعض المعلومات، وبعدها لم يكتف بمساعدة مالية قدمها وبإكرامية كبيرة شفع فيها لدى أحد كبار المسؤولين بل تبنى قضية (معاناتها) بسبب عدم رؤية أولادها فبذل جهده للوصول إلى زوجها القاسي -بكل سرية- ووسط شخصاً يعرف هذا الزوج.. ولما لم تنجح هذه الوسائل سأل عن منزله وذهب إليه شخصياً في إحدى حارات الرياض الشعبية ليبين له خطأ تصرفه، ويقنعه بجعل الأبناء يرون أمهم.. وتأثر هذا الزوج الذي ظلم امرأته الأولى بهذا الموقف واستجاب لنداء ورغبة وزيارة (الإنسان) غازي القصيبي -رحمه الله-.

أمراً آخر قد لا يعرف عنه وهو قوة إيمان هذا الراحل وشدة ارتباطه ببارئه.. يذكر رفيق دربه د. عبدالعزيز الخويطر أن د. غازي عندما يدخل إلى الصلاة يعيش فيها خشوعا وإخبانا لرب العالمين-رحمه الله- كما روى د. الخويطر في مقاله الذي رثاه فيه أن آخر عمل فكري كان يشتغل عليه هو (تفسير القرآن الكريم) وقد رجع إلى عشرات التفاسير.. وكان أكثر تفسير شده هو تفسير القرآن الكريم للشيخ عبدالرحمن السعدي رحمهما الله جميعاً وأرجو أن يصدر هذا السفر الجليل.

لقد قال في قصيدة قديمة له في ديوانه (معركة بلا راية):

يارب ويلي من يوم جمعت له

شتى الذنوب ويلقى الناس ما جمعوا

أتخمت من زهرة الدنيا وزخرفها

ولم يعد بسوى أخراك لي طمع

جانب ثالث هو (جانب التسامح) الذي لون حياته فهو رغم ما تعرض له من نقد قاس سواء في عمله أو منجزه الثقافي بحق وبغير حق (وهذا هو قدر العظماء)، لم يكن-رحمه الله- يحمل حقداً أو حسداً.. لقد كان صاحب رسالة وقلباً ثرياً أليس هو القائل:

من جرب الحب لم يقدر على حسد

من عانق الحب لم يحقد على أحد

أذكر أن أحد الكتاب ذات مرة نقد إحدى قصائده نقداً قاسياً.. ولم يحمل عليه -رحمه الله- بل كان يردد دائماً: من حق النقاد والقراء أن يقولوا ما يشاؤون.. لقد أصبح هذا الناقد أحد أصدقائه.

رحم الله (الإنسان) د. غازي القصيبي رحمة واسعة، وجعل ما أصابه من مرض تكفيراً لسيئاته ورفعا لدرجاته.. لقد خدم دينه وقيادته ووطنه وأبناء وطنه بروح المؤمن، وتفاني المواطن، ورؤية المفكر، ورقة الإنسان.

ختاماً أيها الحبيب الراحل غازي: أودعك ببيتك الذي رثيت به أحد أحبابك:

لو يرد (الزؤام) لانتصب الحب

سياجاً فما استطاع الزؤام

أيها الحبيب الراحل غازي: طبت حياً وميتاً.

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد