Al Jazirah NewsPaper Tuesday  24/08/2010 G Issue 13844
الثلاثاء 14 رمضان 1431   العدد  13844
 

غازي... لا يموت
بقلم: أسامة بن عبدالمجيد شبكشي

 

تبارت الأقلام في رثاء فقيد الفكر والإدارة والأدب معالي الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي إن من أصعب الكتابات المراثي.. فما بالكم إن كنا نرثي شخصا عزيزا على القلب متعدد المواهب فهو شاعر وهو الأكاديمي وهو الإداري وهو المتحدث الآسر. كان رحمه الله شجاعاً مقداماً يقتحم مواطن الحذر بثقة متناهية مؤمناً بسلامة ما يدعو إليه كان رحمه الله زميلا لشقيقي الأكبر السفير - فوزي شبكشي خلال مرحلة الدراسة الجامعية في القاهرة وكان شقيقي يحدثنا عنه الكثير من محاسنه غير أنني التقيت بمعاليه لأول مرة في ثلوثية الإعلامي اللامع - محمد سعيد طيب حينما كان وزيراً للصحة وواجه تلك الليلة العديد من الأسئلة الحرجة إلا أنه بكياسته المعهودة ورحابة صدره أقنع الحضور بوجهة نظره فهو متحدث لبق ولديه قوة إقناع مذهلة وإذا هو يسألني عن منصبي آنذاك فأجبته عميد كلية الطب بجامعة الملك عبدالعزيز.. فمازحني متسائلاً إن كان بالإمكان أن نتبادل المناصب حيث إنه كان يتوق للجو الأكاديمي مشيراً لي أن عمله كوزير يعني الصحو المبكر، زوار ثقلاء ومصالح ترتدي ثوب النزاهة إلا أن وقت معاليه لا يسمح له بالاثنين ومن المشهود لمعاليه أنه اختط مسالك وزارية جديدة للتغلب على البيروقراطية عبر الزيارات المفاجئة.

كان عراباً لتلك الزيارات الفجائية تبعه بعده وزراء ليس في المملكة فحسب بل وعلى مستوى العالم العربي وخير دليل على أسلوبه الإداري الناجح ما صاغته يراعه الرشيق في كتابه حياة في الإدارة دوّن فيه مسيرته في العمل الأكاديمي والسياسي والدبلوماسي يقدم فن الإدارة بأسلوب مبتكر ويعتبر من أجمل كتب السيرة الذاتية الملهمة للأجيال مبتعداً عن التنظير والنقاشات الفردية ويقدم في ثنايا تجاربه فوائد إدارية استخلصها من معاركه مع البيروقراطية. التقيت بمعاليه مرة أخرى حينما كان سفيراً لخادم الحرمين الشريفين في لندن وكنت آنذاك وزيراً للصحة فسرد لي المتاعب التي كان يواجهها في وزارة الصحة كأخ أكبر يحاول أن يرشدني حتى لا أمر بنفس تجاربه المريرة في محاربة الفساد حيث كشف عددا من الرشاوى في حقبة عمله في وزارة الصناعة والكهرباء.. والصحة وأصر على أن يرافقني من مكتبه إلى خارج مبنى السفارة، أثناء زيارة لي إلى سفارة المملكة العربية السعودية في لندن قبل ثلاثة أسابيع استقبلني أحد سائقي السفارة وهو سوداني الأصل بريطاني الجنسية وكان يعتقد أني آت من المملكة فسألني بتلهف عن صحة الدكتور غازي القصيبي وإذا بعينيه تفيض دمعاً حينما طلبت منه الدعاء لمعاليه.. فسألته عن أسباب بكائه فأخبرني بأن الدكتور غازي كان عطوفاً حنونا عامل جميع العاملين بالسفارة كعائلة واحدة مما أكسبه ود واحترام العاملين بالسفارة.

تشرفت بمزاملة معاليه أثناء رحلة الوزراء من وإلى مجلس الوزراء يوم أن كان المجلس ينعقد بمحافظة جدة وفي إحدى رحلات العودة إلى الرياض جلس بجواري ليخبرني بأن والدته توفيت في عز شبابها ذات الثمانية وعشرون ربيعاً في الأحساء نتيجة إصابتها بداء التيفوئيد كان متأثراً للغاية في حديثه فأدرت دفة الحديث إلى مادة يعشقها.. الأدب واتفقنا على حبنا للأدب هو الأديب الألمع والشاعر مرهف الأحاسيس وأنا كقارئ مستمتع بشعره وسلاسته تقمص في كثير من أشعاره روح أستاذه أبو الطيب المتنبي المتمردة والطموحة والتي تطل على فضاء اللغة بكثير من الاعتزاز إلى أن استعار منه صفة لازمته أينما رحل وهي: (مالئ الدنيا شاغل الناس) بعد كل كتاب أو ديوان شعر أو قصيدة يخط قلمه الرشيق ليعود بعدها رحمه الله إلى عمله الوزاري أو الدبلوماسي متمثلاً قول المتنبي:

أنام ملئ جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

ومن المصادفات العجيبة أن يلبي كلاهما نداء ربهما خلال شهر رمضان المبارك حيث قتل المتنبي في النعمانية ما بين 24-28 رمضان 359هـ الموافق 27 سبتمبر 960م، أرجو من الله أن يرحمه في هذا الشهر الفضيل شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار.

سألني مرة قبل اجتماع مجلس الوزراء أي كتب من كتبه قرأتها فأجبته حياة في الإدارة - العصفورية - ثورة في السنة النبوية، وحينما سألني عن رأيي فيهم أجبته من أنا حتى أقيم عملاق الأدب العربي فتبسم بلطف وكان رحمه الله غزير الكتابة منظم لأوقاته مما مكنه من إثراء المكتبة العربية إضافة إلى كتبه وإبداعاته الشعرية مثل: صوت الخليج - الأشج - اللون عن الأوراد - أشعار من جزائر اللؤلؤ - سحيم - معركة بلا راية.. أما في الفكر: الغزو الثقافي - أمريكا والسعودية - حياة في الإدارة - الأسطورة، أما آخر كتاب خطته أنامله وهو على فراش المرض سماه (الزهايمر) أشبه ما يكون بوصيته الأخيرة يعرب فيها عن نظرته إلى أمور طالما شغلته مثل الشيخوخة، الذكريات، النسيان، الألم, والموت.. إنها شهادة القصيبي على أيام المرض والعلاج إلا أن كرامته حالت دون أن يمنح هذا النص صفة السيرة الذاتية فاختبأ خلف بطله (يعقوب العريان). قبل سفري إلى ألمانيا بعد تشرفي بالثقة الملكية الغالية لكي استلم مهام عملي كسفير خادم الحرمين الشريفين زرت معاليه مودعاً ولكي استنير بخبرته كسفير محنك إن كان في فترة عمله في البحرين أو بريطانيا فوجدته مهموماً حزيناً من ردة فعل رجال الأعمال على محاولاته سعودة بعض الوظائف كوزير للعمل مبدياً امتعاضه من عدم تعاون رجال الأعمال مع خطط الوزارة للحد من البطالة.

إن فقد معالي الدكتور غازي القصيبي ليس سهلا.. فقد كان ملء السمع والبصر حاضرا في كل مجال الخير.. كان قريبا من ربه يخافه ويرجوه كما أوضحت بيتا الشعر الأخيرة وهو على فراش المرض المرسلة للشيخ سلمان العودة كاتباً.

أغالب الليل الحزين الطويل

أغالب الداء السقيم الوبيل

أغالب الآلام مهما طغت

بحسبي الله ونعم الوكيل

لا أتصور منصباً يمكن أن يتولاه أبا سهيل إلا نجح فيه وأبدع.. لقد أتقن أصول الإدارة كان شجاعاً فيما يرى أنه حق حتى وإن كان على نفسه كان وقته وقفاً على وطنه وخدمة مليكه بهمة قعساء كان نجماً يشغل الأسماع والأبصار تغريداً بحب الوطن.

إن حيز المقال ضيق ولا يفيه حقه بأي حال من الأحوال مقترحاً أن يكتب عنه رسائل ماجستير ودكتوراة لتحليل كنوزه الشعرية والأدبية والإدارية إن من حقه علينا أن نتذكره وأن نذكره بالخير إلا أن من طبيعة الحياة تلاشي الذكرى مع مرور الوقت لذلك أؤيد اقتراح الأخ العزيز الدكتور هاشم عبده هاشم في صدد تكريم الوزير والأديب والإداري غازي القصيبي بأن تتولى جامعة الملك سعود (والتي عمل بها رحمه الله) تأسيس كرسي علمي يطلق عليه كرسي غازي القصيبي للإبداع أو أن يطلق اسمه على إحدى قاعات المحاضرات في الكلية التي عمل بها: كلية التجارة بجامعة الملك سعود (أسوة بما قام به رجل الوفاء صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز حينما أصر على تسمية إحدى قاعات مبنى جمعية الأطفال المعاقين باسم غازي القصيبي تقديراً لتبنيه فكرة تأسيس جمعية الأطفال المعاقين والتي رعى انطلاقاتها الأولى).

وحتى لا تنطفئ شعلة ذكراه في خواطرنا.

عزاؤنا لوالد الجميع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز وسمو النائب الثاني صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز - حفظهم الله ورعاهم - ولعائلته الكريمة وأبنائه وبناته وأسرة القصيبي كافة ولأصدقائه وأحبائه وأن يلهم الجميع الصبر والسلوان.

(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).

سفير خادم الحرمين الشريفين بألمانيا

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد