Al Jazirah NewsPaper Friday  27/08/2010 G Issue 13847
الجمعة 17 رمضان 1431   العدد  13847
 
عرائس بحر الملح
سليم صالح الحريص

 

لعرائس بحر الملح... صور من حضور.. وللملح في رحم أرضها موانئ.. وفي أرضها بحر من بياض.

**قصيّات يا عرائس بحر الملح.. وهذا البحر الساكن بلا جزر.. بلا أمواج بلا شاطئ...

تحضنه التلالُُ لكأنها تخفي سرَّه وتحفظ أسراره، وبحر الملح سرٌّ غامض يغفو حين تدنو المستديرة من المغيب. يتباهى بخلوده في خاصرة عرائسه ويتهامس في صيفه مع من ينادمه حين ينتصف الشهر ويلمع ضوؤه على سطح بياضه. كومض برق أنار الأرض وشخصت الأبصار للسماء. حضوره اتصف بهدوئه. لا هدير أمواج ولا غموض يخفيه.. بحر لا يخيف رواده.. ملاّحيه.. البياض الملحي يشي بنقاء قلوب أهله.. رضاب قلوبهم وفي حضرة ذاكرة الملح تأتي الدمعة سخية ساخنة...

تهبط عليه.. تتأنّى في وصولك.. تخطو صوبه رويداً رويداً. تتأمل البحر المالح.. تغوص في صفحات بياضه المتلألئة تحت الشمس.. لكأنك في احتفالية من مواسم حضوره.. يُقرئك أمسه.. يضعك في صورة مجده التليد. قد كان بحراً للقصائد وقد جاد انتظاره بقصيدة للرحيل وقصائد للغياب. وصوت ربابة تغازل الليل وأنفاسه.. وأنس السكون.. وتصدح بشجن للحياة الجديدة.. ألحان شدت بها طيور رياض ارتقت بها... صعدت بها قبة الفضاء وراحت تنفض أجنحتها تحت زرقة سمائه تناجيه بتعبير رقصتها ولوحات يجسّدها تحليقها على خد سمائه. صباحات عشتها بين أهداب وأهداب... قلب وقلب.. ضحكة وضحكة.. وأنا من اعتقلتني الأمكنه بتذكري.. بذكرياتي وأسرار الأمكنة. كانت الشمس تأتي بصبح جديد. وأنا أشبر الطريق قادماً من الحماد، حيث يمتد كالبساط بلونه الأسود.. أتأمل الأرض، حيث تخفي الكثير من ذكريات تختزنها في جوفها... انحدار يشعل فيك الرغبة كي تعرف سر هذه الأرض... تهبط الأرض من على سلّم... تقرئك السلام.. تصافحك عرائس بحر الملح. تنثر بخيلاء ثوبها الأبيض.. وطرحتها البيضاء.. التي توحي لك بأنها في ليلة زفافها.. تشتهي أن تقبل التراب.. باشتهاء... يتيم بحركُنّ يا عرائس الصحراء... خلي من خلجان.. خلي من بحارة وقوارب صيد ونوارس.

يستيقظ كل فجر كما لو أنه كان نائماً. له مع الفجر موعد... ينتظر حداء الملاحين الذين اعتاد حضورهم عند الفجر.... تركوه ينتظر ساعة القدوم.. انتظار دون أن يُحسّسك بأنه تململ وأرّقه غيابهم.

قد ضجت من انتظاره حمرة شفق الفجر. أيقظت في صباحاته ذاكرة طوتها الأيام وتوارت... تقادمت عليها الأيام...

اعتلت الشمس.. صعدت..

ها هو البحر المالح صفحة بيضاء.. إنه ضحكة نقاء شهية. وأنا أقبل عليه وقد انداح بياضاً خالصاً... يمتد على بساط الأرض. ملحُ أرضي وبحرها السخي المعطاء وكأني بمشاهدتي له يعيدني.. إلى زمنه... يستفز ذاكرتي.. أو كأنه يغريني لأفعل كما فعل من يعشقونه.... من جديد.

لكأن البحر المالح مرايا ذاكرتي... أو أنني أكون صدى لأصوات الملاحين في غدوهم ورواحهم:

ذاكرتي يا عرائس بحر الملح

شيء من وجع... تسقينيه بيوت الطين

وثمار النخل.. وخطوات على أرصفةْ الأمس

ذاكرتي يا بحرها.....

حضور وجوه غادرت... غيبها الموت... وحاصرنا إيلام غيابها

فملح أرضك ضمّدت به جرح غيابهم واستوحشني انتظارك لهم.. لن تصحبهم...

لن تراهم... لن تألفهم... ذهبوا وتركوك...

تقتات الذكريات...تأنس بها... تؤنسك... لكنها وجع... إيلام يحضن قلوبنا الموجوعة قبل هذا الوجع....!!!

افترشت (السهيلي الرملي) المعجون بالملح والطبطب والشمس وأرخيت بجسدي كي أحس بدفء الأرض وأشعر بحنوها.. كنت على أكتاف ذاكرتي قد أطلقت الأمنيات التي اعتراها رماد الذكرى وأشواك الانكسار.. الحلم يقرع بابي.. الصورة تطوف بي الأمكنة... صور وصور... ووجه خلّده المكان فبنى له خيمة من حضور قادني من خفقة القلب نحوك..

لعرائس بحر الملح همسات أرض في رحلة طويلة في ذاكرة الأيام.

أمواج غادرت ومثلها جاءت من البعيد... وجزر أصاب بحر الملح.. أخذ الملح وتراب الأرض بملحها وقد استحالت السبخاء بيضاء بلا ملح. وأرض الملح سرٌ لا يدخل قائمة الأسرار.. دفائنها... خزائنها تركت لنا كلمة سر تُشرع لنا باباً... أبواباً تفضي لنا بقصة عشق بين البحر المالح وعرائسه. الحقيقة تعرفها التلال التي حضنت كنوز الأرض لكأنها تحرس سر الأرض.. والوجع الذي ما زال يسكن شريان الروح.

يا بحر الملح.. عهدناك دون مراكب تمخرك.. دون موانئ ترسو عليها مراكبهم دون فنار. تحفظ لنا بوح كل من مروا عليك، كل من أسرّوا لك. وكل من أناخوا رحالهم على ضفاف أرض الملح.. وأفضوا ما بخواطرهم.

انتصبت الشمس في كبد السماء. لصف الملح في البحر المالح في لوحة لم تلونها فرشاة رسام... في صباح ما... في يوم ما... رأيت عرائس البحر المالح تخرج عن صمتها وتقرأ من ذاكرة شعرها.

قد كنت لي الحياة...

وكانت الحياة هاهنا...

ببياض ملحك كان الجود يبتني خيامه...

والخير يأتي كلما أناخت رحالهم تحمل الزاد من فيض عطائك...

اليوم لا بحر... لا ملح ولا ملاحين... قد كانت هنا الحياة... وقد كنت أنت الحياة..



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد