Al Jazirah NewsPaper Sunday  29/08/2010 G Issue 13849
الأحد 19 رمضان 1431   العدد  13849
 

قصيبيات 2
نورا العلي

 

الراحل.. غازي القصيبي... غفرالله له الشاعر الملهم، ذو القلم الرشيق، والقول الأنيق

في ديوانه (قصائد مختارة) أجمل شعر، وأرقى شعور, في كل باقة من أشعاره، يطلعنا على تجربة من تجاربه، فإذا به يداوي عطب أرواحنا، وينتشلنا من تساؤلات ما فتئت تؤرقنا.

يتناول موضوعات شتى، في الحب والشقاء والحرب، والبؤس والحرية والصدق والكذب.

يقاتل بشعره إذ يقول:

(ما الذي يفعله الشاعر في وجه البنادق

وهو لا يملك إلا قلمه

وهو لا يحمل إلا ألمه) ص(89)

الشعر، ذلك النبض الذي يسري في أرواحنا، ينقلنا إلى عالم ملائكي، يخدّر آلامنا، يغيّبنا عن الواقع المرير، فننتشي معه، ونسبح في خيال الكلمة المجنّحة.... يرقى بأرواحنا، يعرّي أحاسيسنا، فتصبح رقيقة مرهفة حتى لتكاد تخدشها النسمات.

القصيبي، الشاعر الفذ، يؤكد بأن الشعر نغم الحياة، نتلذذ بسماعه عندما تثخننا الجراح

يقول صاحبنا (الشعر قفز لحظة من الحياة في نغم) ص(167).

الشعر.. تلك الموسيقى التي تترنم عليها جراحنا، وتتغنى وتهيم بها أرواحنا.

يقول المنفلوطي عن الشعر: (لولا الحياة الشعرية التي يحياها الناس أحيانا، لسمج في نظرهم وجه الحياة الحسية) ويستطرد في حديثه: (والحق أقول، لولا الحياة الشعرية التي أحياها أحيانا في هذه الكلمات التي أكتبها، لأحببت، زاهدا في هذه الحياة الحسيّة، أن تطلع الشمس من مغربها إيذانا بانقضاء العالم وفنائه، ولتمنيت، حبا في الانتقال من حال إلى حال، أن أنتقل ولو إلى رحمة الله).

ويقول أبو القاسم الشابّي عن الشعر والحياة الشعرية:

وحياة شعرية هي عندي

صورة من حياة أهل الخلود.

ويقول الأديب والشاعر محمد الجلواح في الشعر:

يا أيها الشعر بدّل لون أوردتي

إني زرعتك في الأعماق شريانا

فأنت ملحمة الدنيا، وقصتها

وصوتها، وكتاب شعّ إيمانا

بقي الشعر، ومات الشاعر، وكأن الموت يسخر منا، نحن الذين لا نفتأ نذكره ونرثيه، يهزأ بنا، يزدري صبوتنا، وبالحمق ينعتنا.

يا إلهي... لكأن البقعة التي دفن فيها تحس ارتعاشة كلماتي.. تحدثني، وتقول:

(قبل أن ترتعش الكلمة كالطير... قفي!

وانظري أي غريب

أي مجهول طواه معطفي

وخذي صبوتك الحمقاء عني.. واختفي) (ص104)

كأنه يقول (فالموت آت والنفوس نفائس).

الرياض... زهرة المدائن... وأرض المجد... هذا الحلم القابع بين أضلاعي، الساكن قلبي، والممتطي ذروة سنام أحلامي بأن أكون من سكانها.

تغنى بها القصيبي، شعرا ونثرا، أحبها، وعشق كل شيء فيها.. تخيلها في كل مكان، وقال ذات محفل « نسيت أين أنا... ان الرياض هنا « والآن، وهو تحت ثرى الرياض، وفي كبدها، يتساءل:

(كأنك أنت الرياض

بأبعادها.. بانسكاب الصحاري

على قدميها

وما تنقش الريح في وجنتيها

وترحيبها بالغريب الجريح

على شاطئيها) ص(48)

وكأن الرياض تحاوره في حيرة فتقول:

(مالي إذا فكرت فيك

سبحت في أفق بعيد

وتلفتت عيناي تبحث

عن وجودك في وجودي

هي رحلة عبر الخيال

أعود منها بالشرود) (ص128)

وفي المقطع التالي، يتحدث القصيبي عن الحقيقة الأكيدة، بأن كل مولود يولد على الفطرة لكنها الحياة.. الأشخاص، والصفات المكتسبة من كليهما، والنفاق الذي استشرى وملأ الأفواه، حتى لم يعد مكانا لغيره يقول في قصيدة (الحب.. والموانئ السود).

(كنت بريئا

قالت لي أمي لا تكذب

قال أبي الصدق منجاة

وعشقت الصدق

صدق العين وصدق القلب وصدق الكلمات

ووقفت على هذا الميناء

فسمعت الناس ينادون الأقبح

أنت الأجمل!

والأكرم... أنت الأبخل!

والبغل الفحل!

واللص عفيف الذيل!

وتعلمت هناك الكذب) (ص109)

ويقول في (ص166)

(لو مرة نقول لا...

نطهر من نفاقنا

نموت كالأطفال الأبرياء)

حينما تطغى الجراح... يتمدد البؤس، ويستوطن كل الأشياء، ويمسي (كل جرح فيه جرح) ويصدق الشاعر في وصفه حين قال:

فصرت إذا أصابتني سهام

تكسرت النصال على النصال

ويصبح كل شيء دون معنى، فلا نكترث، إذ تفقد الأشياء قيمتها ويتساوى الإسرار والعلانية..

(بوحي بسر العمر... لا تترددي

ضيعت لي أمسي.. فلا تبقي غدي

ماذا لديك من الجراح لخافق

أبدا يعيش بجرحه المتجدد؟) (ص113)

لكل شيء في هذه الدنيا نهاية، فكم من أمم عاشت ثم بادت، طغت الرمال عليهم، وابتلعتهم الأرض، حيث ختام مسيرهم، إلى الأرض (الأم)، يعودون إلى رحمها إلى أن يشاء الله، فمهما علا الإنسان وارتقى، لا بد وأن يخضع لسنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

يقول المتنبي:

نبكي على الدنيا وما من معشر

جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا

أين الأكاسرة الجبابرة الأولى

كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا.

وها هو ذا، الشهاب الذي لن يخفت ضوؤه، محمولا على الأكتاف، لكأنه يهمس لقبره ولأرضه:

(كأنك ناديتني

وهمست في أذني:

رجعت إلي يا طفلي؟)

ويقول: (أجل أماه.. عدت إليك

طفل دائم الحزنِ

تغرب في بلاد الله

لم يعثر على وكره

وعاد اليوم يبحث فيك عن عمرِه) (ص119)

مناجاة تدمي القلب، وتحرض العين أن تذرف وأن تهمي.

آه من هذا الفقد وذاك الفقيد الذي أخاله، هناك، حيث هو، يسمع نشيجنا، ويقرأ ما تكتبه أيدينا، ويتيقن بأن لا شيء عنه يلهينا ويثنينا، فيقول، بل كأنه يناجينا:

(أكاد أعدو حاضنا

... شوقي فتثقلني قيودي

ويهدني ألمي... ويلهو اليأس

في خطوي الوئيد

وتعود أحلامي مبعثرة

كأوهام الوليد) (ص131)

آخر الكلام

(لم يعد فينا بكاء

يبس الملح على هذي المغارات الكئيبة

ومشى اليأس عليها والخواء

والفداء...

ذلك النجم الذي أرّقنا

والليل ذعر وبلاء

مات.. فاسكب أيها العود

أغانيك الرتيبة).

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد