Al Jazirah NewsPaper Monday  30/08/2010 G Issue 13850
الأثنين 20 رمضان 1431   العدد  13850
 

القصيبي ظاهرة المرحلة وذاكرة التاريخ
خالد بن إبراهيم التميمي

 

بعد مضي سبعة أيام على وفاة الفقيد الكبير ما زلت أتذكر بغصة مؤلمة تلك الدقائق الحزينة التي تلت الصلاة على روح الفقيد ثم الانتقال إلى مقبرة العود لإتمام مراسم الدفن والعزاء حيث الذهول والحزن يلفان المكان، هناك حول قبر الفقيد الجميع تغالب الدموع أعينهم، رفعت رأسي قليلاً وإذ أبناء الفقيد ومعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر والأديب حمد القاضي وأصدقاء الفقيد ومحبوه جميعهم يلقون النظرة الأخيرة بعد أن حثوا التراب على القبر والألم الكبير بدا واضحاً عليهم في مصابهم الجلل، وبعد أن ركبت السيارة في طريق الذهاب إلى المنزل بدأ شريط الذكريات يمر أمامي أتذكر إنجازات الفقيد وكتبه وفكره ومواقفه الإنسانية قبل كل شيء، دخلت منزلي واتجهت من حيث لا أعلم إلى المكتبة وتناولت من أعلى الرفوف كتاب «الاستثناء غازي القصيبي شهادات ودراسات» الصادر عن جريدة الجزيرة الثقافية والذي تلقيت نسخة منه في مناسبة أقيمت لتكريم الفقيد في ليلة الوفاء في مركز الملك فهد الثقافي قبل وفاته بعدة أشهر وبعد مضي بضع دقائق في تصفح الكتاب وقراءة ما سطره أهل العلم والفكر والثقافة والأدب زاد الحزن وكبرت المصيبة لأنني وقتها فقط عرفت المكانة الرفيعة التي يحتلها الفقيد في ذاكرة وطن وأمة تودعه اليوم وهي في أمس الحاجة إليه، ولا يعرف الخسارة الكبيرة بموت الفقيد إلا من يقدر دور المفكرين في إثراء العقول وإصلاح الأوطان ورقي الأمم وبناء حضاراتها.

أيضاً في أمسية الوفاء تلك استمع الحضور إلى الدكتور عبد الله العثيمين أمين عام جائزة الملك فيصل في نقله عن شقيقه الشيخ العالم المعروف محمد بن عثيمين أن الشيخ لم يسمع اسم الفقيد إلا أثنى عليه ووصفه بالقوي الأمين.

ترجل هذا الفارس المغوار بعد أن قضى أربعين عاماً من العمل في خدمة دينه ووطنه وأمته بكل عزيمة وصدق وأمانة تبين من خلال إنجازات تلك المرحلة حجم فقد هذه الثروة العظيمة التي لا تقدر بثمن.

أتذكر دائماً عندما يحزنني فقد هذا العلم أنه ترك الدنيا أحسن مما وجدها، كما يذكر مصطفى صادق الرافعي في عبارته الرائعة «اعمل عملك يا صاحبي، فإن لم تزد شيئاً في الدنيا كنت أنت زائداً عليها، وإن لم تدعها أحسن مما وجدتها فما وجدتها وما وجدتك.....»

هذا الرمز الخالد الذي حلق في سماء الإبداع بنفس مطمئنة وروح متسامحة وهمة عالية استطاع أن يبدع في كل عمل يوكل إليه وفي كل هواية يمارسها إنه الإخلاص في العمل واستغلال الوقت وتفاني النفس في خدمة ما تؤمن به،

أذكر هنا النهضة الكبيرة التي عاشتها وزارة الكهرباء حيث وصل الكهرباء إلى معظم بيوت المواطنين وكذلك حينما تسلم وزارة الصحة وسعى جاهداً لتنظيم إداري متميز ساهم في انتشار المستشفيات، ومما يذكر هنا موقفه بعد زيارة العديد من المرضى حيث كان يطمئن عليهم وعلى الخدمات المقدمة لهم وبعد الانتهاء من جولته أمر بتعليق قوله تعالى «وإذا مرضت فهو يشفين» في كل غرفة يرقد فيها المرضى، كما لا أنسى مساهمته في بناء المساجد والمصليات ودوره الكبير في انتشار ثقافة العمل التطوعي في المملكة عندما ساهم في إنشاء أول الجمعيات الخيرية آنذاك، وكذلك مساهمته في حث الشباب المسلم للدفاع عن أوطانهم ودينهم في وجه كل معتد عندما سطر تلك القصيدة الرائعة في الأخت الفلسطينية الاستشهادية آيات:

قل لآيات يا عروس العوالي

كل حسن لمقلتيك الفداء

تلثم الموت وهي تضحك بشر

أو من الموت يهرب الزعماء

حين يدعو الجهاد.. يصمت حبر

ويراع.. والكتب.. والفقهاء

حين يدعو الجهاد... لا استفتاء

الفتاوى، يوم الجهاد، الدماء

ومن زاوية أخرى أشاهد بإعجاب صوره رحمه الله وهو يمسح دمعة اليتيم ويواسي الطفل المعاق في يوم تأسيس أول جمعية لخدمة المعاقين في المملكة وفي صورة أخرى يقبّل رأس مريض عندما أسس جمعية أصدقاء المرضى، وفي آخر حياته يتذكر الجميع يوم أن كان وزيرا للعمل دوره الكبير في مسح تلك النظرة البائسة للمجتمع تجاه الأعمال الجديدة التي يقوم بها الشباب السعودي عندما ذهب إليهم في مقر أعمالهم وهو يلبس نفس ملابسهم ثم شاركهم في عملهم وشجعهم وكرمهم ووعدهم بتذليل كافة المصاعب التي تواجههم.

في هذه الصورة لهذه القامة الوطنية المخلصة وقفة تستحق التأمل ودرس لا بد أن يعيه كل وزير أو مثقف أو مفكر أو حتى مسؤول وواعظ وهو أن من يريد التأثير في المجتمع وإصلاحه لا بد أن يذوب ويغوص في داخل أعماق هذا المجتمع ومن خلال هذا التعامل المباشر مع أفراد المجتمع يستطيع أن يترجم أفكاره ورؤاه على أرض الواقع لا أن يثقل على نفسه «بمشلحه» الجميل وينكفئ على ذاته في مكتبه الفاخر متنعما بالكرسي المريح ثم يردد المواعظ والمثاليات والنصائح والخطب العصماء فقط دونما عمل، هذه الصورة المثالية للفقيد تذكرنا بمنهجه في معالجة حال أمته وما تمر به من أزمات فلا ينقل أحد عنه أنه من المتشائمين أبدا للمستقبل القريب ولم يعرف عنه يوما رفع الصوت بالبكاء والعويل على هذه الحال والاكتفاء بالوعيد والتهديد للناس في واقعهم بل تجاهل هذا الأسلوب فهو لا يعنيه في شيء ونظر نظرة متفائلة للغد القريب وعمل على المساهمة في رفع ثقافة الوعي والفكر وأهمية العلم على كافة الأصعدة وبذل فكره ووقته وماله لتغيير هذا الحال إلى حال أحسن منه، غني عن القول هنا أننا فقدنا شاعراً مبدعاً وروائياً ملهماً وسياسياً محنكاً وسفيراً مميزاً وإدارياً ناجحاً، وكذلك مترجماً أميناً كما بدا ذلك جلياً في ترجمة كتاب «المؤمن الصادق» والصادر عن مكتبة العبيكان، ولا أنسى هنا أن أشيد بمعظم كتبه التي تربى عليها عدد كبير من شباب هذا الوطن وأخص بالذكر كتابه «ثورة في السنة النبوية»، كما أتمنى أن ينشر تفسيره ولو لبعض سور القرآن كما أشار إلى ذلك معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر من أنه كان في آخر أيامه يعكف على قراءة العديد من كتب التفسير لتساعده في تأليف خاص به عن القرآن الكريم.

وأخيرا أقول إن من حق الفقيد علينا بعد أن سطر سيرته العطرة بأحرف من نور أن ننشر هذه السيرة المشرقة العطرة بين الناشئة وتدرس على أن هذه الشخصية النبيلة خير مثال لصفات المسلم الحقيقي الصادق المحب لفعل الخير والغيور على مصلحة دينه وأمته ووطنه.

أستدعي هنا قول أبي تمام:

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر

فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

وكذلك قول نزار قباني:

أُنادي عليكَ.. «أبا فارس»

وأعرفُ أنّي أنادي بوادْ

وأعرفُ أنكَ لن تستجيبَ

وأنَّ الخوارقَ ليستْ تُعاد

وهنا أنقل عن الفقيد وهو يتحدث عن نفسه في آخر حياته يقول:

«أريد أن أترك للأولاد والأحفاد كنزاً يذكرهم أنني مررت بهذه الأرض ومضيت ولكنني تركت وردة هناك.. ونجمة هناك.. وبينهما كثيرٌ من الدموع والابتسامات».

وفي هذه الأيام المباركة والليالي الفضيلة أدعو الله تعالى أن يغفر لعبده غازي القصيبي وأن يرحمه وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن ينزله منزلة الصديقين والشهداء ويجمعنا به في جنات النعيم.

الرياض

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد