Al Jazirah NewsPaper Monday  30/08/2010 G Issue 13850
الأثنين 20 رمضان 1431   العدد  13850
 

ملامح التشكيل الفني في القصيدة المعاصرة
ديوان (يا فدى ناظريك) للشاعر غازي القصيبي نموذجاً
د. محمد سلامه

 

لا يخفى على أحد أن هناك إشكالية في فهم القصيدة المعاصرة نظرا لاتكاء هذه القصيدة على أدوات أدبية وفنية تغاير المنطلقات الفنية الأخرى التي تعتمدها القصيدة القديمة، ناهيك عن استفادة القصيدة المعاصرة من تقنيات الفنون المختلفة من رسم وتصوير وحوار درامي وغير درامي.

وهذه الورقة محاولة بسيطة للاقتراب من هذه القصيدة التي كثر حولها القول بين مؤيد ومعارض، ومحاولة التعرف على بعض المفاهيم التي تمكننا من محاورتها ولا أقول قراءتها لأن قراءتها لا تقل صعوبة عن إبداعها لأنها تفترض في المتلقي ثقافة لا تقل بأي حال عن ثقافة المبدع.

وهنا تأتي أولى هذه الإشكاليات – أعني العلاقة بين المبدع والمتلقي - وكلا الطرفين يتهم الآخر بمحاولة سوء الفهم ولعل المتتبع يبصر أن هذه الإشكالية ليست جديدة على أدبيات النقد، فقد سئل أبو تمام:

لماذا تقول ما لا يفهم ؟ فأجابهم : ولماذا لا تفهمون ما يقال؟

وللشعراء المعاصرين رأى يضاهي هذا الرأي -تقريبا- ولكن بشكل آخر إذ يرون أن القصيدة صورة للواقع الذي أنتجها وهذا الواقع يحفل بآراء ومذاهب وتيارات شتى أدبية وفكرية واجتماعية وكلها تتداخل لتنتج هذا المفهوم أو الكائن المسمى بالقصيدة فلا أقل من أن تأتي هذه القصيدة محملة بنفحات هذا الواقع الذي انبثقت منه.

وهنا يتجلى سؤال: ما هو المطلوب ؟ هل تنزل القصيدة إلى مستوى القارئ أم يرتفع القارئ (المتلقي ) إلى مستوى القصيدة ؟ وهو سؤال أترك الإجابة عليه لكم لأنكم حتما ستختلفون معي فيها.

لكن ما أود طرحه هنا هو مزيد من طرح الرؤى والتصورات حول دور القصيدة الحديثة وبالتحديد المعاصرة في بلورة وتشكيل آلام وأحلام الإنسان المعاصر هل نجحت في ذلك أم ابتعدت عنه ؟

وهو تساؤل يثير بدوره تساؤلا آخر فحواه : إذا كانت القصيدة موجهة إلى هذا الإنسان فلماذا كل هذا الغموض الذي يلف جنباتها حتى لتصير -أحيانا- معنى مستغلقا على المتخصصين والباحثين ؟

ومجمل ما أراه أن القصيدة الشعرية سمة نص ونتاجه، أما كونها سمة النص فلكونها تقيم سمة اختلاف ومغايرة بين لغة النص واللغة العادية، واللغة عموما في مجمل أدائها مسافة تسمح باستثمار إمكانيات العلوم والمعارف اللغوية وتحويلها إلى أدوات قراءة فضلا عن كونها تمتاز بإيحاءات لغوية وأدبية من نوع خاص، لقد قاموا على حد تعبير الشعراء المعاصرين باستبعاد فكرة اللغة الشاعرة وأصبح من الممكن استخدام لغة الحديث اليومي مع شحنها بطاقات فنية وإبداعية تتواءم مع الموقف الذي تعبر عنه.

كيف تقرأ القصيدة المعاصرة ؟

للشعر طرائقه وأساليبه الفنية التي يعبر بها عن رؤيته تجاه موضوع ما وهو يختلف عن باقي الفنون الأخرى لأنه لا يعمد إلى الحديث عن الأشياء بوضوح ومباشرة بل يلجأ إلى عدة أساليب تتنوع مابين التصوير والرمز والإيحاء وتقدر قوة التعبير بقدرة الشاعر على الإجادة في تلك الأدوات الفنية التي يتكون منها العمل الشعري.

وغاية الشعر أن يعبر ويشير إلى الأشياء ويبرزها في شكل فني وليست غايته الحديث عن هذه الأشياء موضحا حقيقتها، فالحقيقة شأن الفلسفة أما الشعر فإنه يكتفي ببلورة الأشياء في قالب فني يمس الحقيقة مسا رقيقا وقد يكون ذلك مقصودا ولكن ليست تلك غاية الشعر لأن الشعر موقف والموقف الشعري هو بيان درجة حساسية الشاعر تجاه الأشياء لأنه يعبر من خلال شعوره ولا يعبر من خلال عقله لذلك فالرؤيا الشعرية رؤيا تنطلق من وجدان مفعم بالحدث الذي يعبر عنه.

وإذا دخلنا إلى الديوان الذي معنا أو بالأحرى التجربة الشعرية التي نرصدها اليوم إذا قرأناها من هذا المفهوم السابق وحللنا أدواته الفنية من هذا المنطلق نستطيع أن نرصد عدة أشياء هي:

1- لابد من التسليم بأن قراءتنا قراءة مجتزئة لأن الأولى أن تقرأ في إطار الأعمال الشعرية الكاملة ولقد أصدر الشاعر قبل هذا الديوان ثلاث عشرة مجموعة شعرية ويكمل هذا الديوان الرقم 14

2- صدر هذا الديوان عام 1421هـ واشتمل على ثلاث وعشرين قصيدة احتلت مساحة زمنية قاربت الأربع سنوات

3- حمل الديوان عنوانا ذا ملامح واقعية تقترب من التقريرية ولكنها تقريرية موظفة لخدمة القضايا الشعرية التي تناولها في ديوانه.

لقد قام الشاعر بالإبحار في عدة موضوعات شعرية تلامس صميم الواقع الذي يحياه ونحيا نحن معه فيه وهو إبحار يحاول من خلاله الشاعر استكشاف الروح والذات الإنسانية عموما والعربية خصوصا وعندما عاد أحس بغربة قاتمة فالغربة هي المفهوم الكوني الذي يسيطر عليه ويجعله يواصل الإبحار مرات ومرات حتى تستقر روحه على مرافئ الحلم و الأمل.

أول ما تطالعه في ديوان (يا فدى ناظريك) هي القصيدة التي تحمل عنوان الديوان ولقد أهداها الشاعر للطفل الشهيد محمد الدرة الذي اقتنصته رصاصات الغدر وهو في حضن أبيه في فلسطين وينطلق الشاعر من المشهد البسيط إلى المشهد ا لمركب (الاغتيال المعنوي) لا للطفل الشهيد فقط، وإنما للأمة كلها لقد تجسد هذا الاغتيال المعنوي عندما لمح الشاعر أن المجموع (الأمة ) فقدت فاعليتها وتوقفت عند الشعارات الجوفاء التي يجيدها الكل دون استثناء الشاعر والحكيم والرئيس والمرؤوس الكل على حد سواء يقول الشاعر:

هدرا مت............... يا صغيري محمد

هدرا.................... عمرك الصبي تبدد

يا فدى ناظريك......... كل زعيم

حظه في الوغى ( أدان ) ( وندد )

يا فدى ناظريك...... كل حكيم

فيلسوف...... بثاقب الرأي أنجد

يا فدى ناظريك ناظم هذا القول شعر المناسبات المقدد

والشاعر من خلال الصورة السابقة يدين نفسه أيضا من خلال أشعاره التي افتقدت فاعليتها ولو تأملت المقطع السابق لوجدت الصورة الشعرية كلها تخلو من التنميق البلاغي وتنحو نحو التصوير الواقعي، وهو مما يأتلف مع البعد الفني الذي يبلوره الشاعر فهو يتجنب تكرار الزيف العام الذي يشارك فيه الشعراء (شعر المناسبات المقدد).

إنه ينحت لغة خاصة تنوء به عن الموقف الرسمي المتمثل في الملل والرتابة والكآبة التي يعيشها هذا الموقف، وإن كان الشاعر يشير إلى موقف أبعد من هذا كله، منطق يتجاوز القول إلى الفعل والمنطوق إلى الممارس، يقول الشاعر:

قد فهمنا .........تهود البعض منا

أو لم يبق معشر ما تهود ؟

فالتعبير الأخير إيغال بالصورة إلى المهادنة والتسليم لأنه يحس في هذا الموقف شعورا بالغربة ويتسع مفهوم الغربة هنا لتصير زمانية و ومكانية ونفسية وحتى لغوية أو كونية بالمفهوم الشامل، ومن جراء هذه الغربة لم تعد الوجوه التي يقابلها كل يوم هي نفس الوجوه التي يعرفها لأنها صارت محنطة اكتسبت من هذا الواقع سيماه وسحنته، إنها وجوه كالحة جامدة لأنها افتقدت حس التواصل مع الأحداث ومع من هم بجوارها ،تأمل هذه الصورة التي تشير إلى الأشباح

وجوه لا تفرق بين السرور والشقاء

وعيون محنطة لا تحب الظلام

ولا تنتشي بالضياء

إنها وجوه فقدت معنى الإحساس والحب قبل أن تفقد الحياة لأنها اتشحت بوشاح العصر الذي تعيش فيه.

ولا يتبلور الاغتراب عند الشاعر من هذا فقط بل يأتي عندما يرحل أصدقاؤه ومحبوه فيكتشف في رحيلهم معنى الخوف والقهر ويتمدد الخوف ليصير خوفا من كل الأشياء إذ يرى الموت قد آذن بالاقتراب بعد الفراغ الموحش الذي يتركه الراحلون، يقول الشاعر في أساليب تجمع بين الضعف الإنساني ،والوهم والطموح الذي يسيطر أحيانا على المرء.

يموت قليلا من يموت صديقه

وإن كان يبدو الشامخ الصامد الصّلبا

تذللنا كف المنون كفارس

يروض من أفراسه الجامح الصعبا

فنرجع أطفالا نخاف من الدجى

ونجفل من شرب الدواء إذا صبا

ويكون الإحساس آلم وأوجع عندما يرحل الشعراء تحديدا فهو يرى في رحيل الشاعر العراقي (محمد مهدي الجواهري ) صورة من صور الفقد السياسي لأنه رحل وترك العواصم العربية مقهورة مذعورة:

ماذا تركت ؟ عواصما مقهورة وزواحفا مذعورة وأرنبا

نتن يدير لنا الهوان ونحتسي كرعا ويحتقر المدير الشاربا

فهو رحيل قرأ فيه الشاعر النبوءة التي يئن تحت وطأتها اليوم العراق وطن الجواهري لقد كتبت هذه القصيدة -تقريبا من حوالي عشر سنوات لكن الرؤيا كأنها تعاين الواقع اليوم وتلك هي الحقيقة التي يجهد حولها الشعراء، لقد استشرف الشاعر الواقع اليومي الحالي للعراق، يقول:

أبا الفرات وفي الفرات مرارة

صبغت سلا فته نجيعا ذائبا

يبكي على وطن يموت صغاره

جوعا ويتخم مترفوه أطايبا

ويح العراق وكان أمس ملاعبا

للمجد أصبح للخنوع مضاربا

ومن الملامح الفنية التي وظفها الشاعر في ثنايا هذا العمل لإبداعي ويتفق مع التجربة التي يصورها الشاعر (ملمح المفارقة)، وهي تأتلف مع جو النص وحملت في أشعاره روح السخرية المرة لقد اتكأ الشاعر على المفاهيم العلمية والطبية وأذابها في ثنايا الموقف العام الذي ألمحنا إليها سابقا (الضعف) إنه يوظف مصطلح (الفياجرا) الذي يمثل عقارا طبيا شاع واشتهر ويخصه بقصيدة ينطلق فيها من البسيط إلى المركب ومن الخاص إلى العام ومن الجزء إلى الكل ويتمنى على مخترع هذا العقار أن يوجد للأمة بلسما يعيد إليها مفهوم الرجولة

فالأمة قد سقطت في هوة الضعف وفقدان الفاعلية والشاعر يبحث لها عن علاج لإقالتها من عثرتها، يقول:

يا سيدي المخترع العظيم

يا من صنعت بلسما

قضى على مواجع الكهولة

وأيقظ الفحولة

أما لديك بلسم

يعيد في أمتنا الرجولة.

إنه توظيف فني ينفذ من خلاله الشاعر إلى عمق الرؤيا التي يبلورها، وأستطيع أن أقول إن ما يبحث عنه الشاعر في هذا الديوان هو عودة الروح التي فقدت فاعليتها وأصبحت لا تكترث لأي شئ قل أو كثر، صغر أوكبر، ولأن الشعر كفن والشاعر كفنان معني أولا وأخيرا ببث روح الأمل والطموح والبحث عن مناطق الجمال في الواقع الذي يحياه ومن ثم محاولة بناء عالم جديد آخر يتوافق مع الرؤيا الشعرية التي يراها والتي لا تختلف في مضمونها وجوهرها عن الحقيقة التي يجب أن تكون، فإنه لايني يتلمس دوره المتمثل في كنه الإحساس بالوجود الحي والفعال له ولواقعه.

الأستاذ المساعد بقسم اللغة العربية بكلية المعلمين بالرياض

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد