Al Jazirah NewsPaper Monday  30/08/2010 G Issue 13850
الأثنين 20 رمضان 1431   العدد  13850
 
فتح مكة وانتصارات في رمضان
بقلم: د. محمد عبده يماني

 

عندما نقف في هذه الأيام ونتذكر فتح مكة.. تلك الغزوة التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت الفتح الذي أعز الله به دينه ورسوله وجنده وحزبه، وأنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين، من أيدي الكفار والمشركين، وهي الفتح الذي استبشر به المسلمون، ودخل الناس به في دين الله أفواجاً، وأشرق به وجه الأرض ضياء وابتهاجاً، وهي غزوة تتميز بطابع خاص في سجل التاريخ العسكري الإسلامي، فهي مثال كامل لأرقى مراتب الفكر العسكري والسياسي معاً، وأنبل الطرق للتوفيق بين الغاية والوسيلة، وظهرت فيها سماحة الإسلام بأجلى معانيها.

عندما نقف لننظر في هذه الغزوة نتذكر ونسترجع تلك الانتصارات التي تمت في هذا الشهر الكريم، وكانت بدايتها بدر، وعظمتها وفخرها في فتح مكة وسقوط عتاهية الشرك وقد تخللتهما سرايا وغزوات وأعقبتها معارك كتب الله فيها النصر للمسلمين في هذا الشهر الكريم منها سرية بقيادة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في رمضان من السنة الأولى للهجرة وكانت قوة السرية ثلاثين رجلاً من المهاجرين بقيادة حمزة بن عبد المطلب وقوة الأعداء 300 راكب بقيادة أبو جهل ابن هشام وقد التقى الجمعان في (العيص) و تدخل مجدى بن عمرو الجهني بين الطرفين وأوقف القتال.

ثم تلتها سرية بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه في (أم خرفة) بوادي القري في رمضان من السنة السادسة للهجرة وقد انتقم من بني بدر لنهبهم قافلة تجارية للمسلمين.

وتلتها بعد ذلك سرية بقيادة عبد الله بن عتيك رضي الله عنه في رمضان من السنة السادسة للهجرة وقد قتل فيها أبو رافع ابن أبي الحقيق لأنه حرض غطفان على المسلمين.

ثم سرية غالب بن عبد الله الليثي رضي الله عنه في رمضان من السنة السابعة ووقعت في منطقة ميفعة قرب نجد وقد كانوا مائة وثلاثين رجلا، كبد المسلمون المشركين خسائر في الأرواح وغنموا منها.

وسرية أبو قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه في رمضان من السنة الثامنة للهجرة والعدو هم قريش وحلفاؤها بقيادة أبو سفيان ابن حرب وكان ذلك في بطن مكة وكان الهدف هو تضليل المشركين من توجه المسلمين نحو مكة لفتحها، فسارت هذه السرية بعكس اتجاه مكة، ثم تحرك المسلمون نحو هدفهم الأصلي مكة.

ثم تلتها سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه وتكونت من ثلاثين فارساً لملاقاة بني كنانة وتم هدم العزى (صنم) في نخلة في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة.

سرية سعد بن زيد الأشهلي رضي الله عنه وقوة السرية عشرون فارسا لملاقاة الأوس والخزرج وقد تم هدم صنمهم (مناة) في رمضان من السنة الثامنة من الهجرة.

وسرية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكانت قوتها ثلاثمائة فارس لملاقاة مذحج بقيادة رئيس القبيلة وكان ذلك باليمن (بلاد مذحج) في رمضان من السنة العاشرة للهجرة وقاتلهم علي بن أبي طالب فانتصر عليهم، فغنم منهم وأسر الأسرى، ثم أعلنوا إسلامهم.

وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان عام 658هـ اجتمعت جيوش مصر والشام وخرجت لملاقاة جيوش التتار الزاحفة على مصر، والتقت جيوش التتار وجيش المسلمين في عين جالوت بقيادة الظاهر بيبرس الذي أبدى ضروبا من الشجاعة والحنكة والإخلاص وشاء الله أن تكون المعركة في الخامس والعشرين من رمضان وفي يوم الجمعة، وأن تبدأ المعركة ظهراً عندما خطب الخطباء للجمعة ودعوا للجيوش المسلمة بالنصر، وأقبل الناس على الانخراط في الجيوش المجاهدة بصورة منقطعة النظير، وسرت الحماسة الدينية في العروق، وبدأت المعركة شرسة قاسية، واشتد الفتك والقتل على المسلمين، واستبسل الفريقان استبسالا عظيما، وثبت المسلمون في المعركة ثبات أهل بدر، وحصلوا على الشهادة في ذلك اليوم العظيم، وكان الملك المظفر (سيف الدين قطز) يحرض الجنود على القتال والثبات، فانبرى أحد جنوده يشق الصفوف حتى دخل في جيوش التتار مرات كثيرة ويعود وقد قتل أربعة أو خمسة، ومازال يفعل ذلك حتى عرف مكان قائدهم (كتبغا) فتمكن من قتله، وكانت زوجة قطز تلبس ثياب الحرب وتقاتل في صفوف المسلمين فأصيبت وقتلت، وكانت صيحات المسلمين في المعركة: الله أكبر، يوم كيوم بدر، وا إسلاماه.. وما أن رأى التتار قائدهم قد قتل حتى بدأ الضعف يدب في صفوفهم وعلاهم المسلمون بالسيوف حتى أثخنوهم الجراح، وعلوهم بالقتل، فاختلط الأمر على التتار وبدؤوا يفرون أمام المسلمين، وتبعهم المسلمون يقتلونهم فحصدوا منهم عشرات الألوف، ولم تغب شمس ذلك اليوم حتى كان التتار يولون الأدبار، وأتم الله نصره على المسلمين في ذلك اليوم العظيم، وتبع المسلمون التتار إلى الشام، وحاصروهم في دمشق، ثم أخرجوهم منها، وبدأت الهزائم تحل بالتتار، ولم يزل المسلمون يتعقبونهم في البقاع وحمص وحماه وحلب، واسترد المسلمون كثيراً من أسراهم من التتار الذين تلاحقت هزائمهم بعد معركة عين جالوت، وأقر الله عيون المسلمين بالانتصارات المتتالية، بعدما كان قد حل بهم من الفزع والخوف، والقتل والنهب والسبي والعدوان، وكان أمر الله قدراً مقدورا.

وفي 28 رمضان عام 92 هجرية استطاع جيش المسلمين بقيادة طارق بن زياد فتح بلاد الأندلس والانتصار على القوط الغربيين وقتل ملكهم رود ريق في معركة جواداليتي (البحيرة) بعد أن استولت على مضيق جبل طارق وفتحت بعدها غرناطة وطليطلة عاصمة الأندلس.

ومعركة الزلاقة أو معركة سهل الزلاقة وقعت في رمضان 23 أكتوبر 1086م بين جيوش دولة المرابطين متحدة مع جيش المعتمد بن عباد والتي انتصرت انتصارا ساحقا على قوات الملك القشتالي ألفونسو السادس، وكان للمعركة تأثير كبير في تاريخ الأندلس الإسلامي, إذ إنها أوقفت زحف النصارى المطرد على أراضي ملوك الطوائف الإسلامية وقد أخرت سقوط الدولة الإسلامية في الأندلس لمدة تزيد عن قرنين ونصف القرن.

وفي 10 رمضان عام 1393 كتب الله للمسلمين النصر على الجيوش الإسرائيلية في سيناء واستطاعت مصر استرداد أراضيها المحتلة وتمكن الجنود البواسل من إسقاط خط بارليف الذي ظلت الدعاية الصهيونية تروج له وتثبط من عزيمة المسلمين بأنه الخط الذي لا يقهر ولكن بفضل من الله تم اختراقه في رمضان من ذلك العام واستردت الأرض المغتصبة.

وفي إطار تذكر تلك الانتصارات التي حدثت خلال هذا الشهر نسترجع ذلك الفتح المبين فتح مكة لنشعر بقيمة الجهاد والاستشهاد الذي آمن به الصحابة رضوان الله عليهم، فكرمهم وأكرمهم ونصرهم على عدوهم، ولاشك أن من يلقي النظر على غزوة فتح مكة يلاحظ أن سببها يوم ارتكبت قريش خطأ فادحاً عندما أعانت حلفاءها من بني بكر على بني خزاعة الذين دخلوا في حلف النبي وعهده فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم لنصرتهم وفاتحا لمكة.

وكم من المعجزات التي حدثت خلال هذه الغزوة وخلال الاستعداد لها، يوم تجلت النبوة المحمدية عندما أخبرهم عليه السلام عن المرأة التي حملت خطاب حاطب بن أبي بلتعة ومكانها في روضة «خاخ»، ثم تلك الإدارة العظيمة والهمة الكبيرة التي أدار بها الرسول صلى الله عليه وسلم قيادة كل تلك الآلاف، ونرى فيها كيف دخل عليه الصلاة والسلام متواضعاً، وكيف أن القوم في مكة بعد أن ظنوا أنه سيقضي عليهم جميعا ويبيدهم وهو ينادي: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) فإذا بهم يتفاجأون بتلك الرحمة وذلك العفو النبوي الكريم.

ولاشك أن الدرس العظيم هو ذلك التواضع الذي دخل به صلى الله عليه وسلم مكة، وقد كانت الآيات القرآنية تتنزل بعد هجرته تبشره بهذا الفتح: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)، وحقق الله تعالى له دعاءه عندما خرج مهاجرا من مكة وهو يقول: (وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا) وكان صلى الله عليه وسلم يقول وهو يكسر الأصنام يوم الفتح: (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا).

وكان فتحا بالعفو العام، وفتحا بالتواضع، وكان فتحا للقلوب بالإيمان، وفي سماحة المنتصر، وحقن الدماء، ولقد كان الفتح إعلاء لمعاني الوفاء للبلد والأهل والعشيرة. ومن هنا فإن من ينظر بعمق في تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند دخوله مكة يحس بأنه علم الدنيا كلها درسا في التواضع إلى يوم القيامة، فقد دخل بهذا الصورة العظيمة من التواضع، ولم يأمر أحد بالقتال، بل نبه الجميع بأن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، فكان فتحه رحمة وعفوا لأهل مكة، رغم أنه دخلها بجيش لم تشهد له مكة مثيلا من قبل، جيش عظيم قوي يزيد عدده على عشرة آلاف مقاتل لا قبل لأهل مكة ولا طاقة لهم به، لكنه يقول تلك الكلمات العظيمة: «من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن» وأكرم أبا سفيان فجعل من دخل بيته فهو آمن.

ودخلت جيوش الفتح مكة من جهات كثيرة دون قتال، كما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خالد بن الوليد اضطر أن يقاتل الذين قاتلوه حتى تفرقوا أمامه فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أصدر إليه أمره أن يرفع يديه عن القتال ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته خافضا رأسه، يكاد وجهه الشريف يمس الرحل، شكراً لله على نصره وتأييده وعنايته، لقد دخل دخول نبي كريم رؤوف رحيم، دخول من أرسله الله رحمة للعالمين. ولم يدخل دخول الجبارين الذين يبطشون وينتقمون وينكلون بأعدائهم الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم وآذوهم وقاتلوهم، بل قابل ذلك بالصفح الجميل، والعفو الرحيم، ولو شاء أن يثأر وينتقم لتساقطت الرؤوس كما يتساقط ورق الخريف، ولسالت الدماء أنهارا. ولكن هذا ليس من طبعه ولا من أخلاقه، ألم يأته ملك الجبال قبل الهجرة حين أخرجوه وآذوه فعرض عليه أن يطبق عليهم الأخشبين - الجبلين - فقال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله، ثم دخل مكة في حماية المطعم بن عدي. ويتجلى ذلك الكمال المحمدي في العدل والوفاء عندما رد مفتاح الكعبة لعثمان بن أبي طلحة ولم يعطه من طلبه منه وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو صهره الكريم وابن عمه.

وها هو ذا اليوم في قمة انتصاره وقدرته، يقطف ثمار صبره وصبر أصحابه وجهادهم، فتحا مبينا، دون علو في الأرض ولا فساد، ولا زهو ولا استكبار، بل في تواضع وتذلل لله وانكسار، ثم قال لهم قولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، وهذا من دلائل نبوته!!.

وختاما فما أروع أن نقف عند مثل هذه المناسبات العظيمة فنتعلم ونعلم أولادنا جوانب من ذلك التاريخ المشرق، ونربطهم بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.

والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل،،



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد