عصراً.. كنت وأهلي نتبضع أو بالمعنى الأصح نتمشى بالمول الكبير.. خطوات ثم خطوات، حتى حرقنا سعرات الغداء، كان السوق مزدحماً (كالمحشر)، وكأن الناس تهرب وتستنجد ببرودة المول هرباً من هواء الشارع الحار والرطب، ضجيج وازدحام، حتى كاد الناس أن يتلاصقوا، وحتى كاد ينفد الأوكسجين، وإلى أن حانت ساعة الذروة المنتظرة (العشاء بعد صلاة العشاء) واصطفت الألوف صفاً صفاً لتملأ بطونها بعد مشي طويل مضني، والكل يتزفر ويئن من ألم الانتظار الطويل (مواجهة الجيش خير من مواجهة العيش)، أنا بدوري رفضت الأكل في هكذا وضع، وبدأ الجدال والنقاش بين العائلة، حيث لا كراسي تنفسنا الصعداء! ولا طاولة تلم شملنا! فأخذنا دوراً كباقي الموجودين.. حتى تنتهي عائلة ونحل مكانها، وإذا برب أسرة كان بالجوار، وقد فقد صبره من الانتظار، فصرخ وقال: من يتنازل عن طاولته وأعطيه خمسين ريالاً! (لم يجبه أحد). بمحض الصدفة (بقانون رب صدفة خير من ألف ميعاد) شاهدته مع أهله وما زالت الابتسامة في وجهه! إنه الأصم الذي كنت أراقبه في حارتنا أيام الطفولة، هاهي تضاريس وجهه الضحوك لم تتغير مع تغير الزمن، وابتسامته لم تفارق محياه منذ أول مرة رأيته فيها، كان الرجل الأصم مشهوراً بحارتنا، كان يوزع علينا الابتسامات بمجرد مروره أمامنا ونحن نلعب، وكذلك عند رجوعه وجلوسه أمام عتبة باب دارهم.
خمنت فتيقنت أن الصبية الذين معه هم أبناؤه، الحمد لله، لقد تزوج الرجل الأصم، فقلت اذهب والقِ عليه التحية كي يتذكرك، فتوجهت نحوه، وبمجرد أن رآني أعطاني الأحضان والقبلات، وكأنه شاهد عزيزاً مفقوداً. المشكلة التي واجهتني، أني لا أفهم لغة الإشارة، فساعدتني السيدة التي كانت معه (زوجته)، وبعد دقائق معدودة رجعت إلى أهلي، وحتى جاء الفرج الوقتي وحصلنا أخيراً على مكان شاغر. عيوني ما زالت ترصد تحركاته، أنا مستغرب من ابتساماته الكبيرة، والتي يوزعها على من حوله، إنه ينظر للحياة بابتسامة غير طبيعية، لكن كيف؟
أوووه!! تذكرت وعرفت لماذا وكيف يوزع ابتساماته على الجميع، (إنه أصم) والأصم لا يسمع الأصوات التي من حوله، إذاً هو لا يسمع الإزعاج، ولا يعرف طعمه وتأثيره على آذانه، وهذا ما نعاني منه الآن في المول المزدحم المزعج، وكأن الطبلتين تودان الانفجار، نحن والله في خلطة مركبة من (أصوات الناس وصوت الألعاب وصالة التزلج وزبائن المطعم وصراخ الأطفال وأجهزة الألعاب، إضافة إلى صراخ ابني الذي يريد وجبة الجانك فوود).
برهة أرمق المارة وأخرى أرمق ابتسامته، وأقولها دون خجل (الدموع وقفت في عينيّ) عندما تيقنت الحقيقة المرة التي يعيشها هذا الرجل: (إن صاحبنا لم يستمع قط للراديو أو التلفاز! إنه لا يعرف ولن يعرف بما يجري حوله.. هو لا يعرف معنى مصطلح (إزعاج أو ضوضاء)، ولم ولن يشعر بما يقال في الأخبار اليومية، كما يجري في حصار غزة واقتتال أفغانستان والمشردين من فيضانات باكستان ومآسي العراق وحرائق روسيا وأوكرانيا وانفصال جزيرة جرين لاند، واتساع ثقب الأوزون، وحتى لو شاهد بأم عينيه صورة أو مشهد (محمد الدرة)، فهذا لن يؤثر كما نحن نواجه مع أصوات وصرخات الثكلى من الأطفال والنساء.. ولن أنسى كذلك، إنه لا يسمع ثرثرة زوجته عند رجوعه من عمله (مع احترامي لكل الزوجات في العالم)، وصرخات ابنه الصغير المريض! وابنه الكبير الذي يريد شراء جوال جديد! وإزعاج أبواق السيارات وصفارات سيارات طوارئ النجدة اليومية. إذاً وأعيدها إذاً (كل الأصوات من حوله في وضع الصامت Mute)، إنه كمن يعيش داخل صندوق زجاجي عازل للصوت مائة بالمائة، آه آه.. بادرني سؤال حيرني، هل هو سعيد بوضعه؟ أم العكس؟ ربما (نعم) ويبتسم لنا كانعكاس لما يدور داخله من وناسه، أو ربما (لا)، هو حزين ويعوض حزنه بابتسامات مقنعة (تعوضه النقص)، لأنه بمعزل عن الحقيقة المرة، وهي عالم بضوضاء (وجنة من غير ناس ما تنداس).