Al Jazirah NewsPaper Monday  06/09/2010 G Issue 13857
الأثنين 27 رمضان 1431   العدد  13857
 
عاشت الفلسفة ماتت الفلسفة!
د. عبد الرحمن الحبيب

 

إذا قال لك خصمك في الفلسفة إن عباراتك باطلة لكان ذلك مما يثير أعصابك، أما إذا قال إنها عبارات لا معنى لها، وإنها في حقيقتها لغو، لكان ذلك أسوأ من مجرد إثارة أعصاب.. (هنتر ميد).

ويذكر ميد أن أول ما يتبادر بذهن التجريبي المنطقي هو «ما الذي تعنيه» العبارة وليس خطؤها أو صوابها.. وأدت هذه المطالبة الدائمة إلى فقدان التجريبيين المنطقيين شعبيتهم بين أقرانهم الفلاسفة. فإذا كانت العبارة استنباطية مستندة على العقل الخالص وغير قابلة للاختبار بواسطة أية طريقة يمكن تصورها من الطرق العلمية كالملاحظة الواقعية والتجريب، فإنها في نظر المناطقة التجريبيين بلا معنى. والعلم وحده عبر منهجه الاستقرائي القابل للاختبار هو الذي يمتلك المعنى، فلا توجد وقائع لا تتحدد تجريبياً، إلا إذا كان الموضوع في المسائل غير المادية (الميتافيزيقية) التي لا يمكن اختبارها، فلا يلتفت إليها لأنها بلا معنى إذ لا يمكن اكتساب المعرفة إلا من خلال التجربة في نظر المناطقة التجريبيين (الوضعيين).

هذا المنطق العلمي التجريبي الصارم لا ينحصر في الخطاب الفلسفي بل في كافة أنواع التخاطب من المصيرية إلى الفرعية. لنأخذ مثلاً الازدحام المروري بمدينة الرياض، العقل الخالص يستنبط الحل بتوسعة الطرق، بينما العقل التجريبي الاستقرائي يرى أن هذا الحل لا معنى له في أرض الواقع حتى وإن كانت سليماً منطقياً، لأنه لم يجرَب، ويطالب بالتجربة العلمية، لأن الدراسات البحثية والوقائع في بعض البلدان أوضحت أن الأفضل هو في توسعة المواصلات العامة وأن توسعة الطرق تأتي في المقام الثاني مع أساليب أخرى.

حلول الأزمات عبر المنهج الفكري الاستنباطي الذي لا يعتني بنتائج الدراسات العلمية ولا البحوث التجريبية في مجالات العلوم كالاجتماعية والسياسية والاقتصادية ولا بلغة الأرقام والإحصاءات، تغدو في النهاية حلولاً بلا معنى على أرض الواقع.. وبالمناسبة هذا النوع من الحلول يزدهر في عالمنا العربي من غالبية المفكرين والمثقفين العرب!

استنتاجات كثيرة وصل إليها المنطق الاستنباطي والفلسفة المستندة على العقل الخالص في كافة مناحي الحياة المادية والفكرية والنفسية ثم أثبت العلم الحديث بطلانها. ومن هنا ظهرت أكبر المآزق التي تواجه الفلسفة الحديثة لتنبثق منها مقولة «موت» الفلسفة، بمعنى تراجع أهميتها، وليس موتها الحرفي لغوياً.

وهذا يقودنا إلى السؤال عن العلاقة بين الفلسفة والعلم، حيث تتنحى الأولى لمهمة مساعدة للثاني، وتنزل من عرشها المبجل كأمّ العلوم. فمهمة العلم تختص ببحث سلوك الأشياء والعلاقات السببية وصياغة الفروض وتحقيقها، بينما الفلسفة تقوم بكشف العلاقات المنطقية بين هذه الفروض، أي أنها تحلل المفاهيم والمصطلحات. فالفلسفة -بهذا المنطق- ينبغي أن لا تدخل في المواضيع بل في طريقة تحليلها، فهي لا تستنتج ولا تقرر بل توضح أفضل الطرق للاستنتاج والقرار..

لقد فنَّد برتراند رسل بأن العبارة الاستنباطية قد تكون سليمة من ناحية المقدمات والبرهان والإثبات والاستنتاج، مما يجعلنا نقبلها ولكن لا تنجح في أن تقول شيئاً على أرض الواقع. ومثال ذلك ما سلف ذكره عن الحل الاستنباطي للازدحام المروري. بل أننا نعلم من أمثلة عديدة أن العبارة الاستنباطية يمكن أن تقول الشيء ونقيضه، كالمثال الفلسفي المشهور: قال الكريتي: «كل الكريتيين كذابون»، فإذا كانت العبارة حقيقة فهي كاذبة، وإذا كانت كاذبة فهي حقيقة. هذا مهد الطريق للمناطقة الوضعيين إلى رفض المنطق الاستنباطي والميتافيزيقا بالجملة، بإعلانهم أن العبارات التي تمثل أقوال الميتافيزيقيين خير تمثيل لم تكن باطلة فحسب بل هي أيضا خالية من المعنى.

نيتشه، أحد أعظم الفلاسفة، انقلب على كل التيار العقلاني في الفلسفة الغربية بخاصة في فلسفة الأخلاق، حيث رأى أن النظم الأخلاقية (تحديد الخير والشر) من حيث الشكل تجري على غير نسق معلوم وهي غير معقولة لأنها موجهة إلى «الجميع»، وتعمم حيث لا مجال للتعميم في ظل التنوع الهائل في القيم بين الشعوب واختلاف الأزمنة والأمكنة... فلم يوجهوا أنظارهم مطلقاً إلى المشكلات الحقيقية للنظم الأخلاقية التي لا تظهر إلا حين نقارن بين هذه النظم بعضها ببعض. وقد مهد نيتشه لكل ما بعد الحداثيين من أمثال فوكو، وديلوز، ودريدا. وعلى الرغم من اختلاف هؤلاء المفكرين في ما بينهم إلا أنهم يتفقون جميعا على نقطة واحدة: ألا وهي إدانة الفلسفة الإنسانية البورجوازية التي سيطرت على الغرب منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم (هاشم صالح).

هل يقصد دعاة «موت» الفلسفة أنه يجب دفنها؟ كلا، ففي مقابلة مع دريدا تهكم ساخراً من أولئك الذين يظنون أنه ضد تدريس الفلسفة، وأوضح أنه وبقوة مع تدريسها. ففكرة موت الفلسفة لا يقصد منها عدم ممارستها قدر ما يقصد أن طرائقها بخاصة الميتافيزيقية (العقل الخالص) قد استنفدت. وهي لا تقترح أبداً إلغاء الفلسفة قدر ما تعني أنها لم تعد موضوعاً للمعرفة العلمية.

من التوصيفات الجديدة للميتافيزيقا ما طرحه وزدم بأن القضية الميتافيزيقية نوع من الباطل المنير، أو المفارقة الحادة التي تستعمل اللغة بطريقة جديدة لكي تجعلنا ننتبه إلى الاختلافات والمتشابهات التي تحجبها طرائقنا المألوفة في الكلام. ويقارن فتجنشتين الرأي الميتافيزيقي بابتكار نوع جديد للأغنية. ومن هنا تكون أهمية الميتافيزيقا هي اقتراح استعمال أو تأمل في التحول في أفكارنا، ومراجعة مفاهيمنا بطريقة جديدة للنظر إلى العالم.

موت الفلسفة يعني تراجع دورها من كونها أمَّاً للعلوم أو علماً للوجود إلى أن تصبح منهجاً وطريقة في التحليل. ويعني أيضاً أن الفلسفة أصبح لها دور المساعد أو المحفز بدلاً من دور الجوهر أو دراسة الجواهر. وخارجاً من الدور الموضوعي للفلسفة فلها دور فني أدبي، إضافة إلى أن دراسة الفلسفة تمنح العقل القدرة على المناقشة باستقلالية مع مزيد من الموضوعية والانفتاح العقلي. وهي أيضا تستحث الذهن على التفكير المنظم والمركز وعلى إطلاق روح المبادرة.

ثمة فكرة فلسفية جديدة تقول إنه طالما هناك احتدام فلسفي في النقاش حول موت الفلسفة، فذلك يعني أن الفلسفة موجودة لم تمت بل حية تنبض بالنشاط، فلو ماتت لما احتدم النقاش.. ربما الطرق الغربية للفلسفة ماتت وعليها أن تنتهج طرقاً جديدة.



alhebib@yahoo.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد