Al Jazirah NewsPaper Saturday  11/09/2010 G Issue 13862
السبت 02 شوال 1431   العدد  13862
 
المسجد وأعداؤه
كيفين كاساس زامورا (*)

 

واشنطن العاصمة

إن معارضة الخطط الرامية إلى بناء مسجد بالقرب من موقع برجي مركز التجارة العالمي اللذين سقطا في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، تأتي في أشكال وهيئات متعددة. والحق يُقال إن الكثير من المعارضين تجنبوا التعصب الوقح الذي أصبح سمة ثابتة في خطاب جناح اليمين في الولايات المتحدة. ولكن حتى أولئك الذين اختاروا الاعتدال في انتقاد بناء المسجد (وهو في واقع الأمر مركز ثقافي إسلامي يشتمل على غرفة للصلاة ويحمل اسم «بارك 51») يكشفون في سردهم لحججهم عن افتراضين مشكوك في صحتهما بقدر تأصلهما في الخطاب العام السائد في الولايات المتحدة.

أول هذين الافتراضين الخاطئين يتلخص في التهوين من شأن التعصب الاجتماعي باعتباره تهديداً للحرية. فرغم أن معارضي المشروع يتقبلون أوراقه الرسمية التي لا تشوبها شائبة من الناحية القانونية، إلا أنهم يطالبون بتغيير موقعه على اعتبار أن حتى السلوك القانوني قد يكون مسيئاً لمجموعة من المواطنين رغم استيفائه لكافة الشروط. وهذا في واقع الأمر مسار خطير لا يجوز لمجتمع ليبرالي أن يسلكه.

قبل أكثر من مائة وخمسين عاماً مضت، هَدَم جون ستيوارت مِل في مقاله «عن الحرية» اعتقاداً مفاده أن البحث عن الحرية الفردية هو في المقام الأول صراع ضد الدولة. بيد أن هذا الاعتقاد لا يزال بارزاً بوضوح في الترسانة البلاغية التي يتسلح بها المحافظون في الولايات المتحدة، وخاصة في التصريحات الملتهبة التي يلقيها أعضاء حركة حزب الشاي. ولكن كما يستطيع أي فرد ينتمي إلى جماعة مضطهدة تاريخياً - من المثليين إلى اليهود إلى الغجر - أن يشهد، فإن التعصب الاجتماعي قد يفضي إلى تقليص أو بتر الحقوق المدنية مثله في ذلك كمثل أي قانون.

والواقع أن الزواج بين الأعراق المختلفة كان يُعَد غريبة من الغرائب حتى ولو سمح به القانون، إلى أن أصدرت المحكمة العليا في عام 1967 قرارها بإلغاء كافة القوانين المناهضة للاختلاط بين الأجناس أو التزاوج فيما بينها في مختلف أنحاء الولايات المتحدة. والواقع أن الغالبية العظمى من الأميركيين كانت ترى أن مثل هذه الزيجات مسيئة، وعلى هذا فإنهم كانوا يتوقعون من كل زوجين من عرقين مختلفين أن يظهرا ما يطالبون المسلمين بإظهاره في مانهاتن اليوم: أو احترام مشاعر الآخرين. وإنه لمن قبيل النفاق والظلم في أمة يحكمها القانون أن نسبغ على أحد الحقوق حمايتنا القانونية - في حالتنا هذه حق العبادة على النحو الذي يراه كل من لائقا - ثم نبادر إلى فرض حظر انتقائي على الممارسة الفعلية لهذا الحق لأن أغلبية أو أقلية من الناس يجدون في ممارسته إساءة لمشاعرهم.

وعلى هذا فإن الأصوات الحادة التي تطالب بوقف مشروع بناء المسجد تشكل تهديداً خطيراً للحرية مثلها كمثل أي حظر قانوني صريح. وإذا كان لنا أن نمنع المسلمين من بناء أي شيء يحمل طابعاً إسلامياً في أي مكان بالقرب من موقع سقوط البرجين، فيتعين على هؤلاء الذين يشعرون بالإهانة أو الإساءة أن يناضلوا من أجل تغيير القانون من خلال عملية ديمقراطية مفتوحة حيث يمكن عرض وتفنيد الأسباب الداعية إلى الحظر القانوني علناً ومن دون «أوراق التوت». وهذا أقل ما يجب في أي مجتمع ديمقراطي حقيقي.

أما الافتراض الثاني الأكثر بشاعة وإثارة للغضب والذي خرج علينا به معارضو مشروع بناء المسجد المذكور فيتعلق بما حدث في سبتمبر/أيلول 2001. إذ يزعم بعض خصوم المشروع أنه لابد وأن يتوقف لأنه سوف يكون بمثابة التكريم للجناة الذين ارتكبوا تلك الفعلة الدنيئة. وتستند هذه الحجة إلى فكرة مفادها أن الهجوم كان عملاً دينياً واضحاً نفذه أهل عقيدة إيمانية معادية، وأن أتباع هذه العقيدة - حتى أولئك الذين استنكروا تلك الجريمة الفظيعة - ملوثون ويستحقون تقييد حقوقهم الدستورية..!! وانطلاقاً من الشعور بعدم الارتياح لهذا المنطق، ذهب معارضون آخرون إلى نفي الطبيعة الدينية لهذا النزاع، وأوضحوا أن نزاعهم لا يحمل أي خصومة للإسلام. وعلى هذا فقد استندوا في معارضتهم لبناء المسجد إلى حساسية مشاعر أولئك الذين تضرروا من هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول. وبطبيعة الحال، إذا تتبعنا حُجة هذه الفئة من المعارضين إلى نهايتها المنطقية فسوف يتبين لنا أن السماح ببناء المشروع سيكون بمثابة البيان الأشد قوة ووضوحاً في التأكيد على أن هذا النزاع لا يتعلق بالدين على الإطلاق. بيد أن المشكلة الحقيقية تكمن في مكان آخر. ففي اللحظة الحالية يكف المرء عن النظر إلى الهجمات الإرهابية في عام 2001 باعتبارها بياناً دينياً محضاً، ويضطر إلى مواجهة الحقيقة الساطعة الجلية: ألا وهي أن الهجمات كانت في الأساس بمثابة بيان سياسي. وإذا تحرينا جذور هذا البيان فقد يكون بوسعنا أن نتوصل إلى قرارات ملموسة اتخذتها حكومة الولايات المتحدة على مر السنين وإظهار عدم المبالاة عموماً بالمحنة التي يعيشها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة.

لمدة عقد من الزمن تقريباً، كانت أي محاولة لإعادة صياغة المناقشة حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، بعيداً عن السرد العقائدي السائد، توصم بالتخريب وانعدام الحس الوطني. وما علينا إلا أن نتذكر الانتقادات اللاذعة التي وجهت إلى القس أرميا رايت أثناء الحملة الانتخابية الأخيرة بسبب موعظته المختلف عليها الآن والتي قال فيها إن دجاجات السياسة الخارجية الأميركية عادت إلى مأواها في الديار مع وقوع الهجمات.

قد نختلف مع رايت وأمثاله، ولكن الحقيقة التي لا تقبل الجدال هي أن الحوار العام في الولايات المتحدة فشل تماماً في الانخراط في مناقشة جادة حول القضايا السياسية المزعجة الكامنة وراء الهجمات - ولو أن لا شيء على الإطلاق قد يبرر هذه الهجمات. ولعل هذا هو السبب الذي دفع أغلب معارضي بناء المسجد إلى اللجوء إلى السرد الديني للهجمات الإرهابية. ففي حين يطالبنا هذا السرد بتعطيل ملكاتنا الانتقادية، فإنه يمنح بركاته التامة لهؤلاء الذين يكافحون ظاهرياً في سبيل التنوير. ويبدو أن الخيار الآخر - الزعم بأن السياسة التي تتبناها الولايات المتحدة تجعلها في مرمى الإرهابيين - بالغ الإزعاج في نظر المعارضين إلى الحد الذي يجعلهم عاجزين عن مجرد تصوره أو التفكير فيه.

والآن لا نملك إلا أن نأمل أن يرفض الرأي العام الأميركي، ليس فقط النداءات الملحفة المطالبة بعرقلة مشروع بناء المسجد، بل وأيضاً الافتراضات المشكوك في صحتها والتي يستند إليها معارضيه. وآنذاك فقط سوف تتأكد قيم الحرية والتسامح الأميركية، وتصبح الولايات المتحدة طرفاً فاعلاً أكثر قوة وجدارة بالاحترام في الخارج.

(*) نائب رئيس كوستاريكا الأسبق
خاص (الجزيرة)


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد