Al Jazirah NewsPaper Saturday  18/09/2010 G Issue 13869
السبت 09 شوال 1431   العدد  13869
 

أوتار
ثقافة الصمت
د. موسى بن عيسى العويس

 

للعرب فلسفة عريضة وعميقة عن الكلام، متى يحسن بالإنسان أن يتحدث أمام الآخرين؟ ومتى يجمل به لزوم الصمت؟ حتى عدو منطق الإنسان ولسانه نصف تكوينه، وهي المعادل لصورة اللحم والدم، كما عبر ذلك الشاعر الحكيم (زهير بن أبي سلمى)، .....

..... في قوله: (لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادهُ....)، وقد وصف الكاتب والمفكر (عبدالله القصيمي -عفا الله عنه-) العرب بأنهم ظاهرة صوتية، فهم أكثر الشعوب لغواً وكلاماً، ومن أكثر الشعوب نثراً وشعراً، وغناءً وطرباً. والموروث الفكري، والثقافي، والأدبي، والتاريخي قد يسدد هذه المقولة، وإن كان الكاتب يهف، أو يشير إلى عدم الموازنة بين الأقوال والأفعال، والجانب التنظيري والعملي، ومن الشائع أن (البوذيين) من أكثر الأديان، أو الشرائح الاجتماعية الصامته، وربما كانت ثقافتهم محرضة لهم على ذلك وحاثة عليه، والواقع يكشف أنه كلما اقتربت الشعوب من الصمت واتخذته مبدءاً كانت أكثر إنتاجاً، وتفكيراً، وإبداعاً، خلاف المجتمعات الصاخبة، أو صاحبة الضجيج. على أننا نرى أن مثل هذه الأحكام، أوالمقولات المعممة من بعض الكتّاب ظالمة لبعض حقب التاريخ الممتدة المشرقة عند العرب والمسلمين.

في كثير من الأحيان الصمت (هيبة وترفّع)، وفي بعض المواقف (ضعف وهوان)، وتارة (هروب وانسحاب)، وبخاصة في حال عدم القدرة على الإقناع، أو مجابهة الخصوم، ومنه ما قد يكون تواضعاً، أو وفاءً، أو محبة، أو انكساراً. وفي كثير من المواضع يولّد الصمت الاحترام والتقدير عكس الصراع والجدل، الباعث على التنافر، والحقد، والتغامز، والتنابز.. ومن هنا قال جبران خليل جبران (من لا يحترم سكوتك لا يحفل بكلامك)، ومن أجود ما قيل في هذا الباب، أمام اللغط الكثير، والجدل العقيم بين الناس تلك الأبيات المنسوبة للإمام الشافعي رحمه الله:

قالوا سكت، وقد خوصمت قلت لهم

إن الجواب لباب الشرّ مفتاحُ

والصمتُ عن جاهل أو أحمق شرفٌ

وفيه أيضاً لصون العرض إصلاحُ

إذن الانسحاب من الكلام التافه، والضجيج المؤذي، والهتافات الفارغة غير المجدية، إنما هو انسحاب إلى العقل ولغته في كثير من المواقف التي تعترض حياة الإنسان في علاقاته مع الآخرين.

مع تلك السياقات، والشواهد، والأدلة التي تؤيد ثقافة الصمت، وتعلي من شأنه، وتعتبره (لغة العظماء) إلا إنها بطبيعة الحال تخالف في الأغلب الطبيعة البشرية التي تحب المكاشفة والصراحة والوضوح التي غالباً ما يكون الكلام هو سلاحها وأداتها، فهذه الفئة إذا حافظت على زنة الكلام قبل إلقائه، فإنها تجد في الغالب ميلا إليها، وتعاطفا معها، ومن المسلم به أن الإنسان لا يستطيع أن يكشف عن أفكاره، ومشاعره، وثقافته عندما يكون السكوت أو الصمت إهابه وحليفه. وتقل أهمية الصمت أو السكوت حين تفرض بعض المواقف ضرورة الحديث والصدع بالحق، ورفع الضيم أو الظلم حال نزوله، وعلى قدر فهم الإنسان ووعيه، وفهمه وثقافته وإدراكه، ودوره في المجتمع، وقدرته على التغيير والتأثير فيه تأتي المعادلة، أو الموازنة بين الصمت، أو السكوت، والتعبير عن الرأي بكل صراحة وشجاعة، وبمنتهى الشفافية، مهما كان ثمن ذلك، والساكت عن الحق كما قيل (شيطانٌ أخرس)، وعلى هذا فتقييم الموقف هو المحك الفاصل.

dr_alawees@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد