Al Jazirah NewsPaper Monday  20/09/2010 G Issue 13871
الأثنين 11 شوال 1431   العدد  13871
 
إلى الأمام
حديث الشيخ الشمري عن أهل العراق
د. جاسر عبد الله الحربش

 

في زمن ليس ببعيد، قبل توحيد هذه البلاد الشاسعة على يد ابنها البار البطل المؤسس عبدالعزيز بن سعود -رحمه الله- كانت علاقات أهل هذه الديار ببعضهم أقل تواصلاً وأهمية من علاقاتهم بمجتمعات الجوار. كان أهل الديار الحجازية يجدون جدوى علاقاتهم المباشرة في التجارة والمصاهرة وتبادل المعارف مع المجتمعات المشاطئة للبحر الأحمر ومع تركيا، وأهل المنطقة الجنوبية لهم علاقات أعمق مع امتدادات المخلاف السليماني واليمن والحبشة، أما سكان نجد واليمامة وشرق الدهناء فكانت علاقاتهم أوثق مع العراق وبلاد الشام.. أظن أن هذه المقدمة على بداهتها مهمة ومفيدة لجيل الشباب من القراء الذين تنقصهم أحياناً أبسط المعلومات عن الواقع الاجتماعي لوطنهم قبل وعند بدايات توحيده في أوائل القرن العشرين الميلادي. بدون هذه المعلومة البسيطة عن العلاقات الاجتماعية في الماضي وتواصلها مع مجتمعات الجوار بشكل أكثر جدوى من التواصل الداخلي بحكم الضرورات الاقتصادية والأمنية، لن يفهم القارئ الشاب ما سوف يُقال له في السطور التالية:

ذات يوم قبل عشر سنوات تقريباً حضر إلى عيادتي شيخ بين الثمانين والتسعين من العمر متوقد الذهن، من قبيلة شمر الكريمة، وقد قدم من مدينة الخفجي الحدودية إلى الرياض لإجراء الفحص الطبي. آنذاك كان العراق محاصراً وأطفاله جوعى وفرق التفتيش الغربية الصهيونية عن أسلحة الدار الشامل المزعومة تعبث فيه غادية ورائحة، والعرب في أفضل الأحوال صامتون.

كان الشيخ الشمري بحكم أصوله الشمالية وسكناه في الخفجي الحدودية يعرف العراق القديم جيداً، ولذلك دار بيننا حديث قصير من ذكرياته القديمة عن العراق وأهله، كيف كان وكانوا ثم صار وصاروا، وسبحان مبدل الأحوال.. لا أزال أذكر رنة الحزن العميق في صوت الشيخ وهو يتحدث عما آلت إليه أحوال العراق بسبب الحروب وتحديداً بسبب الحصار مقابل النفط.. مع ذلك لا بد من تذكير القارئ بأن أحوال العراق على سوئها يوم ذاك كانت أحسن كثيراً من أحواله الآن.. كان الشيخ يتحدث عن الأحوال مقارناً بالزمن القديم، ويسهب في حديثة عن أهل العراق وشهامتهم وكرمهم يوم كانت أحوالهم (غذائياً على الأقل) أفضل من أحوال جيرانهم بدون استثناء.

مما حدثني به الشيخ الشمري قوله إن أهل نجد كانوا يقصدون العراق في قديم الزمان (بين الحربين العالميتين الأولى والثانية) راكبين وراجلين في قوافل، لعلمهم أنهم سوف يعودون منه إلى قراهم الجائعة بشيء من الرزق مثل التمور والسمن والشعير وبعض الأواني والأقمشة.. كان الشيخ الشمري ينظر بحزن في سقف الغرفة ويحدثني كيف كان أهل العراق من الساكنين في القرى الحدودية الجنوبية يتعاملون بكرم ونُبل مع (الجماميل)، أي أصحاب قوافل الشمال القادمين من نجد طلباً للرزق. ركز الشيخ كثيراً على أن أهل تلك القرى كانوا يتركون الأبواب الخارجية لدورهم مواربة بعد أن يضعوا بعض الطعام والشراب في الحوش (الفناء) الأمامي للدار، حتى إذا جاءهم الليل أقفلوا الأبواب الداخلية لدورهم وأخلدوا للنوم تاركين الأبواب الخارجية نصف مفتوحة.

لماذا؟.. سألت محدثي المسن فقال لي: يا دكتور يجب أن لا تنسى أن هؤلاء من أحفاد الصحابة الأُول الذين أسسوا البصرة والكوفة وبغداد وأنهم أهل نخوة وكرم وشهامة. كانوا يتركون الزاد خلف الأبواب المفتوحة لكي يجد القادم ليلاً من الصحراء الجائعة آنذاك ما يسد به رمقه ويطفئ عطشه. نعم كان عند أهل العراق يا دكتور سَلْمْ (عرف اجتماعي) على أن أهل الجزيرة العربية هم أهلهم الأُول ومنبتهم الأصلي.. كانوا يوصون بعضهم بأن يضعوا للجماميل ما يأكلونه ويشربونه إذا وصلوا في الليل عطاشى وجوعى.. ختم الشيخ الشمري حديثه بالدعاء لأهل العراق: الله يذكرهم بالخير ويغيث لهفتهم ويفك كربتهم ويعيد عليهم نعمته فإنهم امتداد صحرائنا ويشبهوننا حتى في أشعارهم وأمثالهم ومفرداتهم الدارجة.. كانوا يقولون: (ذيب نجد مثل ذيب العراق.. إذا جاع عدا وإذا شبع هدا).. أمنت على الدعاء.. وانتهى حديث الشيخ الشمري.





 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد