Al Jazirah NewsPaper Tuesday  21/09/2010 G Issue 13872
الثلاثاء 12 شوال 1431   العدد  13872
 

وماذا بقي من «المتنبي»..؟
د. حسن بن فهد الهويمل

 

والمتنبي بكل ما هو عليه من قبول مطلق أو مقيد أو رفض مطلق أو مقيد شرع للنقاد بما أفاض به عليهم مما لم يكن عليه سلفهم، وفتق أذهانهم عن مصطلحات ومناهج لم تكن معهودة من قبل...

...فحين اتهم بالسرقة وألفت الكتب عن سرقاته وأسرف خصومه بالاتهام، نهض من يحرر مفهوم السرقة، ويضع لها ضوابط، ويحدد المقبول منها والمرفوض، فكان أن عرف الخلف كيف تعالج مشكلة السرقات، حتى لقد ألفت أطروحات علمية عن هذه الإشكالية التي كانت من قبل المتنبي اعتباطية ومرتجلة.

والمتنبي الذي وضع لبان عمالقة الشعر ك»جرير» و»الفرزق» و»الأخطل» و»البحتري» و»أبي تمام» سرق الأضواء من بين أيديهم واستقطب النقاد والشراح، بحيث مثَّل مرحلةً مفصلية تغيرت فيها المناهج والآليات والاهتمامات، حتى كان بوسع المؤرخ للنقد الأدبي أن يفرق بين سمات النقد وخصائصه قبل المتنبي وبعده، إذ كان أقدر الشعراء قاطبة على إحداث متغيرات يراها المعنيون رأي العين.

ولم يكن النقد بهذا الزخم ولا بتلك النوعية إلا لأن مجاله الجديد قد هيأ له مزيداً من الرؤى والتصورات، ولم يظفر شاعر من قبله ولا من بعده باختلاف الأنصار والخصوم وكثرتهم وثراء النقد فيما بينهم، وتلك مؤشرات تقطع قول كل خطيب، والأحكام المرتجلة، والأقوال القطعية لا يمكن القبول بها في ظل هذا الكم الهائل من القول ونقيضه.

والنقد بكل أنواعه ومستوياته الذوقية والانطباعية والمعيارية والتحليلية والوصفية والحكمية، الموضوعية واللغوية والفنية والشكلية خاض معترك شعره، وتوصل كل ناقد إلى مسلمات لم تتهيأ لغيره، ولم تزل فيه بقية، بل بقايا لمن تسول له نفسه خوض لججه، ولقد أدرك المتنبي مقاصد خصومه من شعراء ونقاد وسلقهم بلسان حاد أخمل طائفة منهم، وحرض المقتدرين من العلماء والأدباء، والنقاد على تجنيد كل طاقاتهم للنيل منه وافتراء الكذب عليه، ويكفي توصل الكائدين له إلى اتهامه ب»القرمطية» والطعن في نسبه، وسيظل إشكالية نقدية مثيرة للجدل، في كل عوالمه الأديبة والاجتماعية والدينية والسياسية.

والسؤال المشروع: ما الذي بقي من المتنبي بعد هذه القرون الحبلى بالمفارقات العجيبة والغريبة؟ لقد مر على وفاته أحد عشر قرناً تخللها جزر ومد وأخذ ورد ومطارحات جادة وأخرى هازلة، فمن الناس من سيقول: بقي فيه كل شيء، ومنهم من سيقول لم يبق فيه شيء و:

(ما ترانا نقول إلا معاراً

أو معاداً من قولنا مكروراً)

وذلك شأن العظماء الذين يتهافت عليهم المبتدئون، ويبادرهم المتضلعون، وتختلف نوايا الراحلين إلى عوالمهم، فمن كان هجرته لبناء شهرة أو إثبات وجود فلن يكون كمن أراد اكتشاف جواهره المليئة بالمستجدات اللغوية والتعبيرية والأسلوبية والدلالية.

والمقاصد كالمطايا تكون بقدر النوايا، وإن عرض للحق سوء تعبير، والذين اتخذوا من تباين الآراء ذريعة لتمرير رؤيتهم الغرائبية لن يعدموا الأشياع والاتباع، إذ بمناسبة مرور ألف عام على وفاته، أي في عام 1354هـ نهض الأدباء والنقاد في مصر لإعادة قراءته على ضوء المستجدات ونَفَسُ المصريين لم يكن مع المتنبي لأنه خرج من بلادهم مغاضباً وأقذع في هجائهم وهجاء «كافور» غير أن هناك من أنصفه وذب عن عقيدته ونسبه وشاعريته، ومنهم من فضل «شوقي» عليه كما فعل صاحبنا.

والمؤكد أن نقاداً كباراً متضلعين كشفوا عن رغبات غير سوية، فهذا (طه حسين) امتطى لعبة التساؤلات والاحتمالات ليقول في نسبه ما لا يليق، ولقد تصدى له (محمود شاكر) وكشف عن زيف رؤيته وسطوه على منجزه في مجلدين كبيرين، وآخرون من ذات المكانة حدتهم إلى عوالم المتنبي رغبات خالص لوجه العلم، فما كان منهم ما كان من (طه حسين). ولما ضاقت عوالم المتنبي واستحكمت حلقاتها ظهر ما يسمى ب»نقد النقد» إذ أعيدت قراءة المتنبي على ضوء ما سبق من دراسات لمريدين ومناوئين، وهذا المنهج كشف عن اتجاهات ومذاهب نقدية لم يكن أحد يستحضرها بكل تفاصيلها. فالمتنبي بين نقاده في القديم والحديث كما المرآة في كف الأشل لا يدري المتابع مع من يكون، ولكن يتوفر على مناهج وآليات واتجاهات قد تساعد على اكتشاف عوالم شعراء آخرين، وإذ قيل: لولا الفرزدق لضاع ثلث اللغة، فإنه من المعقول أن يقال: لولا المتنبي لضاع نصف النقد العربي، لقد أسهم المتنبي في تحريك المشاهد كلها وتمخضت عن مدارس نقدية تشكلت في ظل شعره.

والمؤكد أنه لا أحد يستطيع أن يضيف معلومة إلى عالم المتنبي لم يسبق إليها، ولكنه يستطيع بكل بساطة أن يضيف حكما له أو عليه. والمتنبي الذي تكسرت النصال على النصال في جسم سمعته ومكانته تظل جاذبيته تجر أقداماً وتغري أقلاماً، والذين تتخطفهم سمعته ومكانته يكشفون عن هويتهم وإمكانياتهم فيما يظل المتنبي عصياً على الحسم النهائي، وكل نص مراوغ لا يسلم مخاتِله من التعري بكل منطوياته أمام النظارة. والمؤكد أنه يكاد يكون شعره مجالاً للتجريب النقدي أو سوقاً لترويج الاتجاهات، ومثلما أنهكت رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) بالدراسات التجريبية فقد لقي شعر المتنبي من اللغويين والبلاغيين والصرفيين والأدباء والشعراء المنافسين مثل ذلك، وخصومه المعاصرون قعدوا له كل مرصد، ولا سيما في بلاط سيف الدولة حتى أرهقوه وفجروا فيه موهبة العتاب المر:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي

فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

إذا ترحلت عن قومٍ وقد قدروا

ألا تفارقهم فالراحلون هم

وتاريخ المتنبي مليء بالأنصار المهووسين والخصوم الحاقدين، وأنصاره وإن بالغوا في الإعجاب والإغماض يتوفرون على صريح المعقول وصحيح المنقول فيما يظل خصومه في حومة الفرضيات.

ويكاد يكون المتنبي وحده الذي قتله شعره وخلَّده، وقدره أنه أوزاع بين هوج المريدين، ووهج المناوئين، ومهما أمعن الخصوم في تطويق عبق شعره ولملمة سيرورته فإنه كالليل المدرك للمتأذين منه، وكيف يتسنى لمحاصري شعره أن يحكموا قبضتهم وهو الأقرب لكل مستشهد ومنشد وخطيب ومتمثل.

وعظمة المتنبي تتجلى في تباين الآراء، وعبقريته تتحقق في الاختلاف حول ما لا يمكن الاختلاف فيه، لقد مضت قوافل الخصوم والأنصار وبقي المتنبي شامخاً كبواسق النخل ثابتاً كرواسي الجبال وعلى الأعزاء الذين اقتربوا من وهجه أن يتسللوا لواذاً فلا طاقة لهم بمغالبة شعره الذي استعصى مناله على أقوام أشداء.

ولولا ما لأبي عبد الرحمن من مكانة في النفس وفي المشاهد لمسه فيما أفاض به نقد يحز إلى العظم، ولقد تذكرت وأنا أفرغ من هذه الشحنة العاطفية قول الشاعر:

إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها

تذكرت القربى ففاضت دموعها

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد