(3) الحملة الصليبية الثالثة
588هـ-1192م
مرت حوالي أربعة عقود على نهاية الحملة الصليبية الثانية وخلال تلك الفترة تمكن السلطان نور الدين زنكي من مجاراة الصليبين عسكريًا والانتصار عليهم في بعض المعارك الحاسمة حتى إنه تمكن من الوصول إلى حدود أنطاكية ومحاصرتها وتهديد الصليبين الذين بها.
وفي سنة 559هـ-1164م اتجه التنافس الإسلامي الصليبي إلى وجهة جديدة وهي جهة الجنوب الغربي داخل الأراضي المصرية التابعة للدولة الفاطمية، وتمكن نور الدين زنكي من ضم مصر إلى بلاد الشام بعد إرسال ثلاث حملات عسكرية قام بها أسد الدين شيركوه الأيوبي، وصلاح الدين الأيوبي وذلك مابين عام 559-564هـ-1164-1169م.
ومن نتائج السيطرة على مصر أن أصبح أسد الدين شيركوه وزيرًا للخليفة الفاطمي، ثم خلفه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي في الوزارة بعد وفاته سنّة 564هـ-1169م، وكذلك سقوط الدولة الفاطمية في يوم الجمعة من شهر محرم سنة 567هـ - 10 سبتمبر 1172م.
وما لبث أن توفي السلطان نور الدين زنكي سيد صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ-1174م، فتمكن بعدها صلاح الدين الأيوبي من إعادة بناء الوحدة الإسلامية مرة أخرى منطلقًا من مصر، حيث استغرق ذلك حوالي عشر سنوات تمكن فيها من ضم دمشق وحلب والموصل وحارم وباقي مدن بلاد الشام مما كان ذلك له أكبر الأثر في تغيير موازين القوى بين المسلمين والصليبيين في بلاد الشام ومصر، وتمكن صلاح الدين من تحييد الصليبين من صراعه مع القوى الإسلامية الأخرى التي في بلاد الشام، وذلك بمهادنتهم لهم فترة وبتهديدهم بحربهم فترة أخرى.
وكان هدفه ألا يعيقه الصليبيون من بناء الوحدة الإسلامية ما بين بلاد الشام ومصر.وكانت نتيجة هذه الوحدة الإسلامية أن استطاع صلاح الدين الأيوبي أن ينزل بالصليبين هزيمة منكرة في معركة حطين سنة 583هـ-1187م، وأن يأسر ملوكهم وأمراءهم جميعًا، حيث أصبح الطريق أمامه مفتوحًا لاسترداد بيت المقدس وباقي المدن الإسلامية الأخرى.
لم يبق للصليبين من المدن الرئيسة في بلاد الشام سوى مدينة صور، فتجمعوا فيها وأصبحت مركزًا لهم.
وفي شهر شعبان من سنة 585 هـ - سبتمبر 1189 م حاصر الصليبيون الذين بصور مدينة عكة وشددوا الحصار عليها، حيث استمر حصارهم لها لمدة سنتين يحاولون اقتحام المدينة والاستيلاء عليها.
بعد استرداد بيت المقدس من الصليبين بدأت البابوية في أوروبا تنادي بقيام حملة صليبية ثالثة على بلاد المشرق الإسلامي لإعادة احتلال بيت المقدس، وتكونت هذه الحملة الصليبية التي شارك فيها ثلاثة ملوك من أوروبا وهم: الإمبراطور الألماني فيردريك بربروسا، وملك فرنسا فيليب أغسطس، وملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، وعُرفت هذه الحملة بالحملة الصليبية الثالثة.
وفي خضم الصراع العسكري القائم على مدينة عكة وصل الملك ريتشارد قلب الأسد إلى عكة في جمادى الأول من سنة 587 هـ - يونيو 1191 م، حيث تمكن الصليبيون بعد قدومه من الاستيلاء على مدينة عكة والغدر بالمسلمين الذين بها، حيث قتلوا ما يقارب ثلاثة آلاف مسلم بعد أن أعطوهم الأمان.
ويُعدُّ هذا العمل الذي قام به ريتشارد قلب الأسد عملاً خاطئًا، حيث أضر بالصليبين كثيرًا لأن معاملة صلاح الدين تبدلت وتغيرت مع الأسرى الصليبين، فبعد أن كان يحسن معاملتهم أصبح يأمر بقتل كل أسير يتم القبض عليه.
حاول الملك ريتشارد أن يسترد بيت المقدس إلا أنه عجز عن ذلك، ودارت بينه وبين الملك العادل الأيوبي شقيق صلاح الدين اجتماعات كثيرة لمناقشة موضوع الهدنة بينه وبين صلاح الدين، حيث كانت ظروف صلاح الدين وظروف الملك ريتشارد قلب الأسد متشابهة وقد تأثرا بقلة المؤن والدواب والمال، كما أن طول فترة الحرب سببت الملل للجنود، وهذه الظروف مهدت لعقد هدنة بين صلاح الدين الأيوبي والملك ريتشارد سميت بصلح الرملة وذلك في الحادي والعشرين من شهر شعبان سنة 588 هـ - 2 سبتمبر 1192، حيث تعد هذه الهدنة الأشهر في فترة الحروب الصليبية.
وبهذه الهدنة انتهت أحداث الحملة الصليبية الثالثة بالفشل الذريع، حيث لم يتمكنوا إلى من الاستيلاء على مدينة عكة فقط.
ولما عُقد الصلح بين المسلمين والصليبين ارتفعت أصوات الفريقين، وضجوا فرحًا وسرورًا، حيث تذكر بعض المصادر التاريخية أن ذلك اليوم كان يومًا عظيمًا، حيث اختلط الفريقان وزال بينهم الشنئان.
وكانت نتيجة هذه الهدنة التي مدتها ثلاث سنوات هو احتفاظ المسلمين ببيت المقدس، كما أعطت هذه الهدنة الفرصة للجيوش الإسلامية المرابطة في الشام أن تلتقط أنفاسها من عناء ومشقة الحرب.
وبهذه الهدنة عادت الحياة الطبيعية لبلاد الشام وبدأ عهد جديد من العلاقات السلمية بين المسلمين والصليبين في ذلك الزمن، ودبت الحياة الاقتصادية بين المسلمين في بلاد الشام والصليبين الذين في عكة وبدأت القوافل التجارية تنتقل بين الجانبين بكل يسر وسهولة ودون خوفًا من هجوم العساكر عليهم.
(4) الحملة الصليبية الخامسة
614-618هـ/1217-1221م
كانت الهدنة التي وقعها السلطان صلاح الدين الأيوبي مع الملك ريتشارد قلب الأسد في صلح الرملة سنة 588هـ/1192م قد انتهت مدتها، ثم توالى عقد الهدن بين الأيوبيين والصليبيين حتى قدوم الحملة الصليبية الخامسة سنة 614هـ/1217م.
أما الحملة الصليبية الرابعة فلم يكتب لها النجاح للوصول إلى البلاد الإسلامية، وقد ارتبطت الحملة الصليبية الرابعة بالبابا أنوست الثالث (1198-1216م)، وتم توجيهها إلى مدينة القسطنطينية، حيث كان هدفها توحيد الكنائس الشرقية مع كنيسة روما، وبالفعل تمكن الصليبيون من غزو القسطنطينية ودخولها سنة 599هـ/1203م والإطاحة بإمبراطورها الكسيوس الثالث، وكان العالم الإسلامي يتابع هذه الحملة بقلق وخوف شديد وخصوصا المسلمين الذين في بلاد الشام ومصر، ويخشون تقدم الصليبيين إلى أراضيهم، إلا أن الله وقاهم شرهم.
وفي عام 612هـ/1215م استنجد الصليبيون الذين بعكا بالبابا (أنوست الثالث) وطلبوا منه المساعدة ضد الأيوبيين في الشام، وخصوصا عندما انتهى الملك المعظم من بناء قلعة الطور، حيث أصبحت هذه القلعة تهدد كيانهم في عكا، فاستجاب البابا لهم، ودعا إلى حملة صليبية تكون وجهتها إلى مصر.
وفي سنة 614هـ/1217م وصلت طلائع الحملة الصليبية الخامسة إلى عكة برئاسة ملك المجر أندرو الثاني (601-632هـ/1205-1235م)، ولما علم الملك العادل الأيوبي الذي اُشتهر عنه حبه للموادعة والمهادنة مع الصليبيين بوصول الحملة الصليبية بدأ يعد العدة لمواجهتهم عسكرياً.
كان هدف الحملة الصليبية الخامسة مهاجمة مصر، ولذلك اتجهت الحملة الصليبية في شهر ربيع الأول من سنة 615هـ/مايو 1218م إلى مصر ونزلوا قبالة دمياط، ثم حاولوا العبور إلى الجانب الشرقي للاستيلاء على برج السلسلة، وفي خضم هذه الأحداث العسكرية توفي الملك العادل الأيوبي في شهر جمادى الآخرة من سنة 615هـ/أغسطس 1218م.
وبعد وفاته اقتسم أبناؤه الثلاثة مملكته، فكان نصيب الملك الكامل محمد (مصر)، والملك المعظم عيسى (دمشق والقدس والأردن)، والملك الأشرف موسى (الرها وحران وخلاط). وكان الملك الكامل هو كبير البيت الأيوبي، وهو الذي وقع عليه العبء الثقيل في مواجهة الحملة الصليبية ومقاومتها، فسار بجيشه إلى العادلية وعسكر بها، وأصبح يفصل بينه وبين الصليبيين نهر النيل.تمكن الصليبيون من مهاجمة معسكر العادلية والاستيلاء على ما فيه من مؤن وسلاح ومتاع وذلك في جمادى الأولى من سنة 615هـ/يونيو 1218م، كما تمكنوا في الخامس من شهر شعبان سنة 616هـ/نوفمبر 1219م من الاستيلاء على دمياط ، حيث غدروا بأهلها وقتلوا وأسروا منهم أعدادا كثيرة. وكان سبب حدوث هذه الأحداث هو عدم استقرار الأمراء الأيوبيين سياسيا بعد وفاة والدهم الملك العادل، كذلك عدم تقديم المساعدة للملك الكامل من أخويه في الشام.
ونظرا لتأزم الأمور أمام الكامل فإنه بدأ يعرض على الصليبيين الهدنة وبشروط مغرية جدا، حيث كان من ضمن العروض تسليمهم بيت المقدس، إلا أنهم رفضوا تلك العروض بسبب رغبتهم في احتلال مصر، وظنا منهم بأن الأيوبيين قد ضعفوا عسكريا وأنهم باستطاعتهم احتلال مصر.
في سنة 618هـ/1221م بدأ الصليبيون يتجهزون لمهاجمة مصر فنزلوا قبالة جيش المسلمين المعسكر في المنصورة، ولما علم الكامل بتحركهم كاتب أخوته وبقية أمراء البيت الأيوبي في الشام يطلب المدد منهم ويحثهم على القدوم عليه بأسرع وقت لإنقاذ مصر. فكان أول الواصلين عنده الملك الأشرف موسى، ثم الملك الناصر صاحب حماة، فالملك المعظم عيسى، والملك المجاهد صاحب حمص، والملك الأمجد صاحب بعلبك كل بجيشه وعتاده، وانضموا مع الجيش المرابط أمام الصليبيين في المنصورة، ولما رأى الصليبيون كثرة العساكر الإسلامية سُقط في أيديهم وزاد خوفهم وجزعهم، وأصبح العمل العسكري هو الفاصل بين الجانبين الإسلامي والصليبي، وأثناء تقدم الصليبيين من شرمساح (بلدة من نواحي دمياط) إلى مكان يسمى رأس الجزيرة وهو مكان تحيط به المياه من ثلاث جهات، استغل المسلمون هذا الخطأ العسكري من قِبل الصليبيين فطوقوهم وفجروا مياه النيل عليهم، حتى أصبحت الأرض التي هم عليها وحلا لا يستطيعون التحرك بسهولة، وعندما أحس الصليبيون بخطورة موقفهم لجأوا إلى طلب الهدنة من الملك الكامل، فوافق الكامل على طلبهم على الرغم من الاعتراضات من بعض الأمراء الأيوبيين.تم الاتفاق بين المسلمين والصليبيين على هدنة كانت أهم شروطها ما يلي:
- إعادة دمياط للمسلمين دون قيد أو شرط.
- تبادل الأسرى بين الجانبين.
- إعادة صليب الصلبوت للصليبيين.
- مدة الهدنة ثماني سنوات تبدأ في الثاني والعشرين من شهر رجب سنة 618هـ/العاشر من سبتمبر 1221م.
وكان سبب قبول الكامل لهذه الهدنة هو خوفه من قدوم مساعدات صليبية من أوروبا، كذلك ضجر الجيش الإسلامي المرابط أمام الصليبيين وتعبهم من القتال، حيث دام مقام الصليبيين في مصر ثلاث سنوات وأربعة أشهر.
وبهذه الهدنة فإن الحملة الصليبية الخامسة قد فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أهدافها، حيث احتفظ المسلمون ببيت المقدس وكذلك باقي المدن الإسلامية الأخرى.