Thursday  30/09/2010 Issue 13881

الخميس 21 شوال 1431  العدد  13881

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا     نسخة تجريبية
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

في كل مقالة أو قصيدة تتحدث عن الحبيب غازي أشعر بفرح وأحس أننا مثل بقية الأمم المتمدنة التي تبكي عظماءها وترثي شعراءها وتتألم لفقد مثقفيها ومفكريها، أحس بأننا نسيج واحد رغم كل محاولات التعصب

والتصنيف والإقصاء التي أصبحت ممنهجة ومُقْرِفَة...

نعم ابكوا أبا يارا بكل عبارات العزاء وتراكيب الحزن، ففي رزية موته المرزأ والمصاب الجلل، وبانطفاء نور علمه أفول لشمس العلم والإدارة الساطعة على الوطن، ويبقى الأدب وكأنما ركن منه قد انخلع، أو وتد من أوتاده قد انقلع... من ينسى صورة ذلك الوزيرالفتى الذي يقف وراء الملك خالد رحمه الله ويصرخ بصوت أصاخت لرجعه الجوزاء حينما ضغط جلالة الملك زرا «لقد أضأت ياجلالة الملك خمسة آلاف قرية» فالتفت إليه وحضنه كما يحضن الوالد ابنه لحظة نجاح..

والأجمل في غازي أنه كان وطنيا حتى في موته فبكاه القبائليون والطائفيون والبدو والحضر والمتدينون والليبراليون، الأعداء والأصدقاء، الوزراء وطبقة النبلاء والمعوزون وطبقة الكادحين والبولوتاريا، بكاه العرب والعجم على السواء، ولابد أن يكون هناك سر في قبوله المجمع عليه لا ندرك تفاصيله ربما يتعلق بشجاعته التي تجعله يتكلم في وجه الصمت وربما يتعلق ببداياته التي أسرت قلوب الناس وربما يتعلق بشيء مجهول، فحق لغازي الاستثناء بكل ما تحمله هذه الكلمة، وكان رحمه الله ذا تميز ثقافي خاص بحجم تميز الوزير الدكتور فايز بدر رحمه الله ،الذي مات بصمت قبل سنين وليس له مرثية سوى كلمات في افتتاحية لمقال جهاد الخازن في الحياة اللندنية ذات ربيع بعد سنين من موته أيضاً، قال جهاد في مقاله بعنوان «هل كان ابن خلدون محقاً» المنشور في 18 مارس 2009م: «نظرت من غرفتي في فندق قصر الرياض ورأيت أمامي مبنى مؤسسة الموانئ السعودية وهو من أدوار على شكل حاويات، وعادت بي الذاكرة إلى أوائل الثمانينيات والمبنى قيد البناء، وأنا لا أزور الرياض إلا وأرافق الدكتور فايز بدر، وزير الموانئ في حينه، رحمه الله، لمتابعة سير العمل في البناء. كان الدكتور بدر صديقاً عزيزاً على مدى سنوات وحتى وفاته، وكان من أذكى الناس وأصعبهم، فلا يرضيه إلا الأفضل في كل شيء ولا يتردد في محاسبة المقصرين وإبداء رأيه فيهم. لم تكن الموانئ السعودية تهمني كثيراً، فالدكتور بدر بعد أن عيّن رئيساً لهيئة الموانئ برتبة وزير، وأنهى في أشهر التأخير المزمن في تفريغ الشحنات الذي ترك البحر أمام ميناء جدة مرصعاً بالسفن على امتداد النظر. وكنت أتبادل مع الدكتور بدر حديث التراث والأدب والشعر ودقائق اللغة، وأيضاً السياسة العربية. ربما كان من رحمة الله أنه اختار فايز بدر إلى جواره فلا يرى ما أصاب الأمة منذ أوائل الثمانينيات...

إن أولئك الوزراء المثقفون استثنائيون يعطون أي مجتمع ينتمون إليه ميزة وثقة، ويعطرون بأريجهم أي مجلس أو هيئة تتشرف بعضويتهم لأنهم يضفون بعمقهم وثقافتهم وجماهيريتهم وخبراتهم الكثير للقرارات والاستشارات، وباختصار هم ومن على شاكلتهم قوة معنوية لمن يعملون تحت مظلته مما يؤكد وصف العباقرة للقائد العظيم بأنه من يحسن اختيار قياداته ومسؤوليه ووزرائه في صورة أشبه بصورة الوزراء في التاريخ الإسلامي حينما كانت تؤلف لهم الكتب ويهدى عليهم الأدب والشعر التأليف ورسائل الإخوانيات فيما بينهم...

كم من الوزراء يأتي ويمضي بهدوء، وكم من الشعراء يموت ولم يشعر بموته أحد، وقليل ممن جمع بين الحسنيين من يأتي ويحفر شخصيته في ذاكرة الوطن بسبب قدراته الشخصية وتميزه الثقافي وهمومه الوطنية، ولذلك نبكي فايز بدر وغازي القصيبي إيماناً بأهمية الوزير المثقف وضرورته الوطنية والإنسانية مثلما تبكي الأمم قادتها الفكرية وقاماتها الثقافية، ولا أدل على ذلك من عبارة أحد المثقفين الفرنسيين في تشييع (ألبير كامو) المتقشف الذي شارك فيه خمسة فقط من أصدقاء الكاتب، حسب وصيته، إذ قال: إن (كامو) لم يكن بحاجة إلى فرنسا ليكون كما كان، لكن فرنسا كانت بحاجة إليه ولأمثاله كي تكون فرنسا.. وأما رولان بارت فقد اعترف صاحب التاكسي الذي دهسه في بباريس مقابل جامعة السوربون، بأنه يستحق أقصى العقوبات لأنه لم يكن يعرف بأنه دهس فرنسا.. وحين ألقت سلطات الأمن القبض على سارتر في عهد الرئيس ديغول لأنه تزعم أكثر من مائة مثقف فرنسي لإدانة احتلال الجزائر، اتصل ديغول بوزير داخليته قائلاً له: من يستطيع أن يسجنه؟.. وأما ونستون تشرتشل فقد قال في أوج مجده السياسي: إن أكثر ما يزهو به هو كونه من بلد شكسبير. ولم يجد ستالين، على رغم نرجسيته وطغيانه، ما يخاطب به الروس عندما اقترب الألمان من موسكو غير عبارته الشهيرة، لقد اقترب الأعداء من قبر ديستويفسكي..

بكينا غازي بعاطفة جياشة وتحول بعض التأبين والرثاء من هول المصاب إلى ضرب من الخيال والمستحيل حتى قال إبراهيم البليهي (الناقد الاجتماعي): «إنني أدعو المتشككين في تفوق شاعرية القصيبي على شاعرية المتنبي أن يقوموا بالمقارنة مباشرة.. قصيدة بقصيدة وديواناً بديوان ليدركوا الفرق الهائل، فالمتنبي يصنع القصيدة صناعة، إنه كالنحَّات لذلك يستخدم أحياناً ألفاظاً غليظة خشنة لا تُناسب اللغة الشعرية وتحسُّ وأنت تقرأ بعض قصائد المتنبي بأنها مصنوعة بتكلُّف وجهدٍ مُرهق وليست تدفُّقاً تلقائيّاً بعكس قصائد القصيبي التي تلامس شغاف قلبك وتنفذ إلى أعماق نفسك وتُشعرك أنها تدفُّقٌ تلقائي، ومع أن أي إبداع لا يأتي إلا بعد اهتمام قوي مستغرق فإن إبداعات القصيبي تظهر وكأنها خالية من الصناعة والتكلف وزاخرة بالعذوبة والحيوية والتلقائية...»

إن (غازي) ليس بحاجة لكل هذا لأن تجربته الثرية تغنيه عن وضعه فوق أكتاف قامات تاريخية مثل قامة أبي الطيب، ولا توجد نقاط التقاء ولا حروف مقارنة بين المتنبي والقصيبي حتى ندخل الأخير في سباق مع الأول على جلالة منزلتهما..

نعم نحب (غازي) كما لم تحب أمة شاعرها، ولا نريد أن نكون مثل النقاد القدامى حينما قارنوا بين البحتري والمتنبي فعدوا الأول شاعراً والآخر حكيماً، في محكمة تفتقد أدوات العدالة والإنصاف متجاهلين النفس البشرية وظروفها عند الشاعرين... بل إن قدر أبي الطيب المؤلم أن يمدح حاكماً صغيراً مثل سيف الدولة لإمارة فقيرة مثل حلب، فأحرق روحه الشاعرية لكي يلفت انتباهه وطغت الحكمة على لسانه لأن المقام يقتضي هذا حسب ما يقتضيه أسلوب العيش وطريقة الحياة ولا أدل على هذا من طريقة الشاعر علي بن الجهم حينما مدح الخليفة بأسلوب فج (أنت كالكلب.. وكالتيس في... )، ولما تمدن في قصر وحديقة جاء بقارعة الدهر (عيون المها...)...

إن أبا الطيب لم يكن بطلاً من أبطال حكايات ألف ليلة وليلة ليرق شعره ويلين طبعه، ولم يقض حياته في حدائق سيف الدولة حتى يبدع في وصف الورود والزهور والغواني والعذارى التي زينت قصوراً من آلاف (الكيلو مترات) بل كان مخلوقاً فوق ظهر فرسه يجوب الفيافي يحمل آماله وهي لوافح، على يمين سيف الدولة وقادته في معاركه على الثغور فأشغل كفه بالسيف وأرهق ساعده بالرمح وليس عنده وقت للحب والغرام وتوزيع الورود في مواسم الحب، وهاهو يعترف في قصيدته الحمى أن الذي رماه غبار السرايا والدخول في القتام، ولم يرمه شوقه لحبيبة أو خسارة أسهم أو فقد منصب وزاري:

يقول لي الطبيب أكلت شيئا

وداؤك في شرابك والطعام

وما في طبه أني جواد

أضر بجسمه طول المقام

تعوّد أن يُغَبِّرَ في السرايا

ويدخل من قتام في قتام

المتنبي لسان لا تقارن صرخاته من الإقصاء والمؤامرات في البلاط الحمداني والإخشيدي بأي لسان، وهو القامة التي أصبحت على مر الزمن وحدة القياس في عالم الإبداع والتميز والثورة النفسية على الواقع المر، يظلمونه حينما يقارنونه بغيره ممن توافرت لهم عوامل الاستقرار.. أبو الطيب المتنبي كان فيلسوفاً وحكيماً، تقدم على زمنه شعراء ونقاد وتأخر عنه شعراء ونقاد، فجر خصومه فيه فاتهموه بالسرقات وطعنوا في دينه وبقي حاملاً راية الشموخ كالطائر المحكي والآخر الصدى، روى الدهر شعره وأشغل الناس بتجربته على مر العصور... رحم الله فايز بدر وغازي القصيبي... والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com
 

من (فَايز بَدَر) إلى (غَازِي القُصَيْبِي) وَالحُزْنُ فِي عَيْنِ العَاصِفة!!
عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا خدمات الجزيرة الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة