Thursday  30/09/2010 Issue 13881

الخميس 21 شوال 1431  العدد  13881

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا     نسخة تجريبية
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

           

إن حقيقة الأشياء وواقعيتها تحتفظ بدفئها في عقول العقلاء والمنصفين، وإن العبثية والقفز على الحواجز لا يمكن لها أن تضعف الحقيقة أو تجتزئها لحسابها، ذلك لأن الحقائق تقوم على جسور متينة من العلم والمعرفة، والدلائل القطعية التي لا تقبل الشك والتحريف.

وفي زماننا الحاضر ومع انصراف الأغلبية العظمى من الناس إلى وسائل الإعلام بشتى أنوعها واتخاذها مصدرا رئيسا لتلقي المعلومات والأخبار والأفكار، في وقت لا تتمتع فيه هذه الوسائل أو غالبيتها برقابة علمية أو معرفية تؤكد مصداقيتها أو حقيقة ما يرد فيها، فقد أصبح من السهل على أي إنسان أن يطرح أفكارا وآراء يشوه فيها الحقائق ويحرفها، أو يعتسفها لتتسق مع ما يقول.

لقد تربت الأجيال الحديثة على الثقة في وسائل الإعلام وما ينشر عبرها وكأنه مر على رقيب، وإن تقدمها وانتشارها الهائل، واقتران ذلك بعزوف الأجيال الحديثة عن الكتب والمكتبات، ومراكز البحث، يعد خطرا محدقا، ينتج عنه ضياع الحقائق والعبث بالثوابت والقيم وضياع الأمانة العلمية والأدبية والإنصاف العلمي والمعرفي.

إن ما نراه اليوم من تسابق وتهافت على حب الظهور والذيوع والسمعة قد طغى على حساب الفكر والثقافة، فقد تسنم المنابر من يجيد الحضور في كل مناسبة، ويحترف اللت والعجن في غير طائل ولا مفيد.

إن ارتفاع سقف الحرية في الحوار مطلب حضاري، ولكن ليس معناه أن يترك الحبل على الغارب، وليس معناه أيضا أن يسمح لكل من يغالط في حقيقة ثابتة وواضحة كالشمس، بأن ينفث أفكاره وتخيلاته عبر وسائل الإعلام الرصينة التي يقوم عليها أصحاب فكر ورأي واطلاع.

إن من يخالف الواقع والحقائق الثابتة إنما يبني مشروعا خاصا به على حساب الآخر، لينفذ من خلاله إلى أهداف خاصة به، وإن أمانة النشر تحتم على من يقوم عليها إنصاف الحقيقة ورفض التحريف والعبث.

لقد كثر الشطوط، وأصبحت نغمة التغير والتغيير عالية الصوت، لدرجة أفقدت الجو الفكري نعمة التأمل والرصانة، بل جرفت بعض عقلاء الفكر والرأي للاندفاع نحو مسار المنافسة والمزاحمة على الظهور من غير تأنٍ أو حصافة.

إن تقدم الأمم الأخرى التي يتخذها البعض مكبرا للصوت للتدليل على صحة ما ذهب إليه، لم تأتي من حراك بهذا الشكل، فأوروبا في العصور الوسطى أو كما يسمونها هم بالعصور المظلمة، بدأت بالاحتكاك بالحضارة الإسلامية، فكانت أوربا تتلقى آثار الثقافة العربية الإسلامية بوسائل وطرق كثيرة، كان من أهمها وأعظمها أثرًا: طريق الأندلس، حيث أقام العرب هناك جامعات زاهرة قصدها طلاب العلم من أوربا، ونشر هؤلاء الطلاب في بلادهم ما تعلموه من العرب، كما انتفع الأوربيون بدور الكتب الكثيرة التي كانت منتشرة في إسبانيا، مما ساعد على إحياء العلوم فيها فيما بعد، وطريق صقلية، حيث ظل المسلمون في هذه البلاد زهاء 130 سنة، فأصبحت المركز الثاني لنشر الثقافة الإسلامية في أوربا، وطريق الشرق، فقد كانت الحروب الصليبية (1099-1291م) والحج إلى بيت المقدس، مدعاة لاختلاط الأوربيين بالعرب فنقلوا عنهم الكثير من علومهم ومعارفهم وفنونهم وصناعاتهم، كما حصلوا على كثير من الكتب العربية، فساعد ذلك على ظهور روح البحث، ودراسة علوم الأقدمين وآدابهم وفنونهم.

وقد أكد علماء الغرب المنصفون أن الأوربيين تناولوا مشعل العلم من أيدي المسلمين حين اتصلوا بهم واطلعوا على حضارتهم، فاستضاؤوا بعد ظلمة، وبلغوا به بعد ذلك ما بلغوه من هذا التقدم العلمي العظيم الذي يعيشون فيه اليوم، ولولا هذا الاطلاع وهذا الاحتكاك لظلت أوربا ربما لقرون عديدة أخرى تعيش في الظلام والجهالة التي رانت عليها في العصور الوسطى. وقد أجمل المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب تأثير حضارة الإسلام في الغرب وأرجع فضل حضارة أوربا الغربية إليها وقال: إن تأثير هذه الحضارة بتعاليمها العلمية والأدبية والأخلاقية عظيم ولا يتأتى للمرء معرفة التأثير العظيم الذي أثره العرب في الغرب إلا إذا تصور حالة أوربا في الزمن الذي دخلت فيه الحضارة. وأضاف لوبون: بأن عهد الجهالة قد طال في أوربا العصور الوسطى وأن بعض العقول المستنيرة فيها لما شعرت بالحاجة إلى نفض الجهالة عنها، طرقت أبواب العرب يستهدونهم ما يحتاجون إليه لأنهم كانوا وحدهم سادة العلم في ذلك العهد.

ويقرر لوبون أن العلم دخل أوربا بواسطة الأندلس وصقلية وإيطاليا. وأنه في سنة 1120م أنشئت مدرسة للترجمة في طليلة بالأندلس بعناية) ريمولة) رئيس الأساقفة، وأن هذه المدرسة أخذت تترجم إلى اللاتينية أشهر مؤلفات المسلمين، ولم يقتصر هذا النقل على كتب الرازي وابن سينا وابن رشد فحسب بل نقلت إليها كتب اليونان التي كان العرب قد نقلوها إلى لسانهم، ويضيف لوبون أن عدد ما ترجم من كتب العرب إلى اللاتينية يزيد على ثلاثمائة كتاب ويؤكد لوبون فضل العرب على الغرب في حفظ تراث اليونان القديم بقوله: فإلى العرب، وإلى العرب وحدهم، لا إلى رهبان القرون الوسطى ممن كانوا يجهلون حتى وجود اللغة اليونانية، يرجع الفضل في معرفة علوم الأقدمين، والعالم مدين لهم على وجه الدهر لإنقاذهم هذا الكنز الثمين. وأن جامعات الغرب لم تعرف لها، مدة خمسة قرون، موردًا علميًا سوى مؤلفاتهم وأنهم هم الذين مدنوا أوربا مادة وعقلاً، وأخلاقًا، وأن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يفوقهم قوم في الإبداع الفني.

وأكد لوبون أثر الإسلام وأثر حضارته في كل بلد استظلت برايته قائلاً: كان تأثير العرب في عامة الأقطار التي فتحوها عظيمًا جدًا في الحضارة، ولعل فرنسا كانت أقل حظاً في ذلك، فقد رأينا البلاد تتبدل صورتها، وتزدهر فيها العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أي ازدهار. وأشاد لوبون بفضل العرب في نشر العلوم وفتح الجامعات في البلاد التي استظلت برايتهم فيقول: ولم يقتصر العرب على ترقية العلوم بما اكتشفوه، بل نشروها، وأقاموا الجامعات وألفوا الكتب، فكان لهم الأثر البالغ في أوربا من هذه الناحية، ولقد كان العرب أساتذة للأمم المسيحية عدة قرون، وأننا لم نطلع على علوم القدماء والرومان إلا بفضل العرب، وأن التعليم في جامعاتنا لم يستغن عما نقل إلى لغاتنا من مؤلفاتهم.

ويقول الفيلسوف الفرنسي ارينيه جينو الذي أسلم وتسمى عبد الواحد يحيى: والأثر الواضح الذي يثبت لنا انتقال المؤثرات الثقافية من المسلمين إلى أوربا هو تلك الكلمات العربية الأصل التي تستعمل لنقل الأفكار وإظهار ما تكنه النفوس فإن من السهل علينا أن نستنتج انتقال تلك الأفكار والآراء الإسلامية نفسها، وفي الحق أن تأثير الحضارة الإسلامية قد تناول إلى درجة بعيدة وبشكل محسوس كل العلوم والفنون والفلسفة وغير ذلك، وقد كانت أسبانيا مركز الوسط الهام الذي انتشرت منه تلك الحضارة. فالكيمياء احتفظت دائما باسمها العربي وعلم الفلك أكثر اصطلاحاته الخاصة ما تزال محتفظة في كل اللغات الأوربية بأصلها العربي، كما أن كثيرا من النجوم ما يزال علماء الفلك في كل الأمم يطلقون عليها أسماء عربية. ومن السهل جدًا أن نوضح أن كثيرًا من المعارف الجغرافية عرفت من الرحالة العرب الذين جابوا كثيرًا من الأقطار وحملوا معهم معلومات جمة. وأننا لنجد أثر الثقافة الإسلامية في الرياضيات أكثر وضوحًا، كما أن الأرقام الحسابية التي يستعملها الأوربيون هي نفس الأرقام التي استعملها العرب، وأن كثيرًا من المعاني التي جادت بها قرائح الكتاب والشعراء المسلمين أخذت واستعملت في الأدب الغربي، كما نلاحظ أن أثر الثقافة الإسلامية واضح كل الوضوح وبصفة خاصة في فن البناء وذلك في العصور الوسطى.

ولم تكن هناك وسيلة لتعرف أوربا الفلسفة اليونانية إلا عن طريق الثقافة الإسلامية، لأن التراجم اللاتينية لأفلاطون وأرسطو لم تنقل أو تترجم من الأصل اليوناني مباشرة وإنما أخذت من التراجم العربية وأضيف إليها ما كتبه المعاصرون المسلمون مثل ابن رشد وابن سينا في الفلسفة الإسلامية.

ثم ينتهي رينيه جينو بقوله: هذا جزء من كل من أثر الثقافة الإسلامية في الغرب ولكن الغربيين لا يريدون أن يقولوا به لأنهم لا يريدون الاعتراف بفضل الشرق عليهم، ولكن الزمن كفيل بإظهار الحقائق... نعم إن الزمن كفيل بإظهار الحقائق.

Alymni-111@hotmail.com
 

بين الحقيقة والعبث 1-2
عبد الرحمن عبد العزيز اليمني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا خدمات الجزيرة الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة