لست أدري، لماذا اخترت هذا العنوان؟ ألأني حديث عهد بكتاب «أنيس منصور».. «كانت لنا أيام في صالون العقاد»، أم لشيء آخر سمَّه توارد خواطر، أو وقوع الحافر على الحافر، ولك أن تُعدُّه من

السرقات الواضحات. المهم أنه عنوان راق لي واستهواني، لأنه في حكم المصطلحات الجامعة المانعة، ومثله يحدو المشاعر، ويجسد الانطباعات، فتلك الأيام التي عشناها في ربوع الطائف، أعادت لي الأيام الخوالي، يوم أن كنت في ريعان الشباب؛ إذ تلقيت دورة صيفية بعد حصولي على الشهادة الابتدائية قبل نصف قرن، وكنت أتصور الطائف كما عهدتها فهل تغيرتْ أم تغيرتُ أنا؟ كان ذلك في صيف عام 1381 هجرية، وعمري إذ ذاك تسع عشرة سنة، لقد راعتني المناظر الجميلة، وأبهجتني الأجواء الباردة، واستمتعت بالمأكولات الشهية، وحين عدت إليها بعد نصف قرن لم أجدها فيها إلا ما أجده في بلدي، قلاع خرسانية وخطوط إسفلتية وحدائق مصنوعة، كل شيء فيها من صنع الإنسان، لقد تلمست «الحماط» و»البرشوم» و»الكوارع» و»البرَّاد» والمقاهي المنتشرة في الشعاب والأودية، فلم أظفر بشيء من ذلك، وفوق ذلك بحثت عن شبابي بقوته وشهوته وفراغ باله، فلم أجد شيئاً من هذا ولا ذاك. لقد كنا نمشي على البطحاء الساعات الطوال ترفعنا النجاد وتحطنا الوهاد؛ لنصل إلى متنزهات أبكار لم تعبث بها يد الإنسان، نحمل معنا زادنا، ولقد تمر بنا مواكب الأمراء وكبار الشخصيات فنلوح لهم بأيدينا الفارغة فيبادلوننا الإشارة بمثلها، ولقد شهدت يوم ذاك موكب الملك سعود - رحمه الله - وضيفه الملك حسين بن طلال ملك الأردن على بضع سيارات تشق طريقها جيئةً وذهاباً وسط الرمال والأشجار الوارفة الظلال، وكان المارة يضيقون الخناق على الموكب ليشاهدوا الملك وضيفه، فيصفقون أو يلوحون بأيديهم، وكان الملك يبادلهم التحية، ولقد يضطر الموكب إلى التوقف أو التريث؛ حتى يُشبع المواطنون أنظارهم.. إنها أيام البراءة والطهر والعفوية والفطرية التي يحن إليها مَن ذاق بردها، جئت إلى الطائف بدعوة كريمة لحضور فعاليات سوق عكاظ؛ لنشم عبق التراث، ونلتقي بأحبة وخصوم شرفاء وسط مخاضات أدبية وفكرية يهمي صَيِّبُها النافع على آكام أدبنا وضرابه وشعابه، وتهطل ديمتها ماءً غدقاً على صحرائه؛ لتدحو أرضه بما ينفع الناس.

وبلادنا بما أفاد الله عليها من عراقة سياسية وأعماق دينية وجغرافية وسكانية واقتصادية تعيش ضجة المؤتمرات والندوات واللقاءات، وإذ تهفو إلى مقدساتها أفئدة الطائفين والعاكفين والركع السجود، فإن مؤسساتها الثقافية تخب وتضع صوبها زمر الأدباء والمبدعين والمفكرين، وإن تنوعت هجرتهم إليها بتنوع نواياهم، «وإنما لكل امرئ ما نوى»، وما كنت لأسيء الظن بقادم أجاب الدعوة، وسعى لتوطيد العلاقة، وحَفَد لمجايلة الأقران، وأخذ وأعطى على قدم المساواة، وبلادنا التي حباها الله بنعمه الظاهرة والباطنة، وأغناها عما سواه، عرفت حق الله، وحق السائل والمحروم، وحق شركائها في العقيدة، واللغة، والمصير المشترك؛ فكانت مثابةً لسائر الأطياف، وأمناً وردءاً لذوي الحاجات، وحُقَّ لها أن تسمى ب»مملكة الإنسانية»، وتدفق خيراتها ومساعداتها ومواساتها جعل المواطن يشفق على نفسه وعلى أولي الأمر من ذلك الحضور المتعدد الأغراض والمتنوع المقاصد.

ومثلي بسنِّه وحضوره الذي نيف على نصف قرن يُدعى لبعض المناسبات الثقافية، والقائمون عليها يأسرونني بأفضالهم: «ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا»، ولربما أكون عند مَن يغبطونني ك»جُندْب» الذي غبطه بعض خصومه فقال:

وإذا تكون كريهة أدعى لها

وإذا يحاس الحيس يدعى جندب

وما كنت لأفوت فرصة كتلك التي يلتقي على أديمها أطياف الفكر والأدب، ولا سيما أن وراء نجاحاتها أميراً تستبيه الكلمة الجميلة، شكلاً ومضموناً، أميراً عشق المبادرات والمفاجآت، وترك بصماته الواضحات على شواخص كثيرة هنا وهناك. ولقد شرفت بدعوتين: دعوة لحضور فعاليات السوق، وأخرى لحضور جلسة مشورة مصغرة حاول سموه استطلاع الرأي حول ما يستقبل من أمر السوق، وأحسب أن سر النجاحات يكمن في تداول الآراء على حد {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}، وذلك مكمن الأهلية؛ فسمو الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز، وهو الذي عاش الجزر والمد، يدرك تماماً أن المشاريع العملاقة في أمسّ الحاجة إلى تضافر الجهود، وبوادر السوق في دورته الرابعة تبشر بمستقبل رشيد. وإذا كان «المهرجان الوطني للتراث والثقافة» و»جائزة الملك فيصل العالمية» قد تجاوزا المحلية والإقليمية إلى العالمية، وحققا حضوراً فاعلاً في كافة المحافل الدولية، فإن «سوق عكاظ» حقيق أن يكون مضارعاً لهما؛ لمتكئه التاريخي، وأهلية القائمين عليه.

وأملي كبير في أن تتبنى الدولة من خلال وزارة الثقافة والإعلام، وأقسام الأدب والتاريخ والحضارة في الجامعات، وبخاصة جامعات منطقة مكة المكرمة، والأندية الأدبية الثلاثة، فعاليات السوق؛ إذ لم يعد السوق مناسبة ثقافية عابرة يزجي المحيطون بها وقتهم؛ فما شاهدته وشاهده المدعوون من فعاليات، وما أقيم ويقام في الموقع التاريخي من نشاطات ومنشآت يشي بما وراء ذلك من تطلعات تتجاوز الوقتية والإقليمية.

ولقد يكون من بوادر الخير التوجيه بإصدار مجلة فصلية محكمة باسم السوق تحمل اسم «سوق عكاظ» لخدمة الشعر الجاهلي وتاريخه وحيوات شعرائه بحيث تصدر كل ثلاثة أشهر، وتقدم إصدارات كل عام مجلدة لرواد السوق ومدعويه، على أن يتولى الإعداد لفعاليات السوق ومطبوعاته وتحكيم أعماله وإدارة ندواته وأماسيه نخبةٌ من الأدباء والعلماء والأكاديميين ذوي الاهتمامات التراثية من أدباء الوطن العربي ومن المملكة؛ فالسوق حق عربي، ومن الخير له أن يتغذى من روافد الأمة العربية. ومما أود الاهتمام به أطياف المدعوين؛ فالسوق ذو نزعة تراثية، ومن حق ذوي النزعات المشابهة أن يكونوا حاضري فعالياته، وليس هناك ما يمنع من التعددية المتوازنة؛ لتكون الفعاليات أكثر حرارة وجدلية؛ فالسمة الواحدة أدعى للحميمية والسكونية، وذلك ما لا نودُه لأي احتفالية بهذا المستوى.

ولأن مفرزات الكواليس (واللوبيات) أقوى تأثيراً وأجدى فإن تعدد الأطياف وتوازنها يعطيها مزيداً من حرارة الحراك وقوة التفاعل، ولقد كنت في معمعة الجدل في أبهاء الفندق مستمعاً وراصداً ومقوِّماً، وقليلاً ما تكون لي مداخلات أشبه بالإطفائية التي تتوخى الترشيد والواقعية وتفادي الإطلاقات الطائشة والتعميمات المهومة، ولأن السمة البارزة في نوعية المدعوين الشبابية فإن جدلهم مناقض تماماً لطبيعة السوق، وما أوده من السوق نقل التراث، لا الانتقال إليه، ولا الانتقال منه، وكم هو الفرق بين الترثنة الخالصة والعَصْرنة الخالصة ومحاولة التوفيق بين الشتيتين، وفوق هذا وذاك لابد من تحديد معالم الموقع والمحافظة عليها دون أي تدخل، وتنفيذ بعض الفعاليات عليها كما كان يفعل الأولون من التحكيم المباشر؛ إذ لابد أن يكون هناك أماسي وأصبوحات على أديم الموقع وبين أكماته، وبذات الشكل الذي يمارس من خلاله إنشادهم في السوق، ومع كل النجاحات فما اختلف مدعوون كاختلاف ضيوف السوق حول القصيدة الفائزة والمسرحية الرئيسة، وهو اختلاف مشروع ومعتبر؛ إذ القصيدة والمسرحية مظنَّة الاختلاف لما تنطويان عليه من مفارقات واحتمالات وقراءات، والاختلاف حين يكون حول فاضل ومفضول لا يكون مثيراً كما لو كان بين خطأ وصواب، ولا أحسب المسؤولين عن الفعاليات والتحكيم يضيقون بهذا الاختلاف؛ لأنه مؤشر تألق وتفوق، ولقد كنت، ولما أزل، متحفظاً على القصيدة لأسباب متعددة، ولكنه تحفظ لا يتجاوز اختلاف وجهات النظر، والحث على وضع ضوابط أكثر دقة، تحول دون إثارة اللغط وفتح أبواب المناكفات، وترك الذَّوائق الأخرى كالمعلقة.

وبعدُ: لقد قضيناها أياماً مليئةً بالمفاجآت، ومشيناها خطوات مفعمة بعبق التاريخ؛ فللأمير شكرنا الصادق على مبادراته ونجاحاته، ولأهل الطائف ثناءنا العاطر على الحفاوة وملء الفارغات بالمفيد والمبهج، ومزيداً من النجاحات والمناسبات الثقافية الثرية.