Sunday  17/10/2010 Issue 13898

الأحد 09 ذو القعدة 1431  العدد  13898

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

قال أبو عبدالرحمن: أهل الكتاب غير أهل الإسلام الناسخ للأديان قسمان: يهود، ومنهم أهل العمل الظلامي، وهم أهل التضليل العبقري، وهم أهل الفساد في الأرض، وهم أهل العصبية العرقية مع أن بني إسرائيل قلة مغمورون بينهم من أهل المشرق، وهم في المرتبة الدونية عندهم، والنفوذ ليهود الأجناس البشرية الأخرى كيهود الخزر، وهم أعدى عدوٍّ للنصارى والمسلمين، ولم يعبؤوا بالمسلمين، ونابذوهم العداءَ والعدوان علناً أمام الضمير العالمي الميِّت.. والنصارى يعلمون شدة عداوة يهود لهم، ولمسوا آثار عدوانهم منذ تحريفهم وتبديلهم وإسقاطهم الأحكام والأخبار من دينهم التي هي مِن تصرُّفاتهم في كتبهم.. ولكن يهود أذكياء جداً - وذكاؤهم مما يخزيهم عند الله -؛ فرأوا ما منحه الله النصارى من العلم المادي، وكثرة العدد، وسعة الممالك (ويهود قلة شذاذ آفاق بينهم)؛ فأعلنوا خدمتهم للنصارى، والولاء لهم بحق المواطنة، وشاركوا في العلم المادي؛ ولكنهم جدُّوا في تحصيل مقوِّماتٍ تعوِّض عن قلة عددهم، وتحقِّق لهم النفوذ والقوة؛ فكانوا ماهرين في جمع المال وتنميته بالربا والقمار، ماهرين في الأخذ بزمام الإعلام، ورأوا ما انتهى إليه دين النصارى من تحريف وتبديل وإسقاط وما هو غير معقول يأباه ما بلغوا من عبقرية في اكتشافهم ما أذن الله به من اكتشاف قوانين كونية جزَّؤوها إلى عناصر كيميائية أعانتهم بعد الله على الاختراع العبقري، والصنع الذي حقق القوة، وضرورات الحياة وكمالياتها، والمتعة؛ فكانت الرِّدة عن الدين، والشك في المعرفة هما قَدَرُ النصراني الذي أتقن العلم المادي، وعجز عقله عن التصور الديني؛ فكان ذلك فرصة في التضليل بعقولهم العبقرية.. على أن العقل الذي يُسعد دنياً وينفع آخرة لا يكون إلا بهداية دين صحيح؛ فأعملوا حِيلهم الذكية على هذا النحو:

1 - العمل الظلامي المحوط بسرية جهنمية يعجز عنها شياطين الجن، ومن هذا العمل الظلامي اتَّحد الهدف لدى كل يهود في منفى الشتات.

2 - ميلاد الصهيونية العالمية التي تستبيح كل وسيلة محرمة في الأديان والعقول لتحقيق مآربهم، وتلك المآرب غاية رَذْلة ظالمة ليست مما أنزله الله على موسى ومَنْ جاء بعده من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

3 - ومن العمل الظلامي أحكموا التدبير لجمع ذوي العبقرية منهم (وفيهم كثير من ذوي العلم المادي) لشغل العالم بفلسفات تتجدد بأسماء مذاهب، وتوليد مصطلحات، وتوليد فروق وعلاقات تنقضي الأعمار في فهمها ومحاكمتها، وينبهر الحُواة بمجرد فهمهم لها.. ولكن هدف هذا الفكر الفلسفي واحد هو الكفر والإباحية وجنون المعرفة الذي رسَّخ الحسبانية، وقد استغلوا التنافي المتناقض المعترِفَ به أهل الكتاب الآخرون بين الدين والعلم والعقل؛ فكانت فلسفتهم حرباً على الكنيسة، وعلى بقايا من المتمسكين بها نصروا الدين والمعرفة مثل أوغسطين صاحب (مدينة الله)، وتوماس الأكويني صاحب (الخلاصة اللاهوتية) وهو في ثلاثة مجلدات مطبوعة عام 1891م باللغة العربية، وهو صاحب الرد على إلحاد ابن رشد الذي ترجمته على حسابي، والله يعينني على إتمام تحقيقه - وكان ابن رشد وفلاسفة الشرق من بلاد المسلمين رُوَّاد النهضة الأوربية في القرون الوسطى -.. ومثل أنسلم الأنطولوجي، وكُتب رينيه ديكارت أب الفلسفة الحديثة مع الوَشب في كل تلك الأعمال؛ ومن هذا العمل الظلامي حصل التآخي الحميم مع عباقرة أهل الكتاب الآخرين؛ فكانوا صهاينةً غيرَ يهود.

4 - لا جدوى لهذا العمل الظلامي بدون سلوك عملي مؤثِّر، ولا ضمان لبقاء الأثر الفعَّال لذلك الفعل مع بقاء الهيمنة للكاثوليكية التي كانت روحانيتها في روما وسلطتها في فرنسا، وهكذا هيمنة الأرثوذكس في الشمال الشرقي من أوربا، وهكذا الخلافة الإسلامية في تركيا؛ فباسم التصحيح المعرفي للتناقض بين دين غير صحيح وبين العقل والعلم منذ بدأ ظهور مُنْجزاتهم: بدأ التعاطف مع مَن بطشت بهم الكنيسة باسم الهرطقة، ثم أُحكم الإخاءُ الصهيوني غير اليهودي الخالص القبضةَ بعملهم الظلامي؛ فكانت كارثة سقوط الكاثوليكية في فرنسا وإفناء ملايين البشر، وكارثة إسقاط دولة الأرثوذكس بأيدي قوم كفروا الله مطلقاً، وحكموا بأن كل دين هو أفيون الشعوب، وكان المتنفِّذون من ذوي الإخاء الصهيوني، وفيهم وفي منظِّريهم صهاينة يهود خُلَّص؛ فكان من كفرَ اللهَ من الماركسيين، ومن كفر بالله من أهل الكتاب حلفاء (وهذا أمر لا يقبله دين صحيح)، ثم أسقطوا خلافة المسلمين، وإنك لتقرأ مذكرات الأسد الجريح عبد الحميد العثماني -رحمه الله- مكتوبة بنزيف قلبه، وإنك لتعجب من أناس جعلوهم رموزاً إسلامية كابن صفدر (جمال الدين الأفغاني البهائي) وهم من قادة العمل الظلامي، ومن دعاة التناقض في تصحيح كل الأديان بالواقع الراهن في تحريفه وتبديله وإسقاطه بمقولة: (كل الطرق توصِّل إلى روما) لا بقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} (19) سورة آل عمران، وقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (85) سورة آل عمران.. وكارثة تركيا المسلمة أخف من كارثة روما؛ لعنف هتلر، ولكن القبضة شديدة على تركيا المسلمة بنفوذ يهود الدونمة القادمين من الأندلس؛ فعُلْمِنَتْ تركيا، وعُزلت عن أشقائها المسلمين، ولكن الإسلام اليوم ينمو فيها يقيناً بِجدٍّ ورجولة معاً.. ولا شأن لهم بامتداد الدولة الصفوية؛ لأنهم عسكرياً العدو الألد للخلافة الإسلامية، وقد ناصروهم في بعض البقاع عند تجزئة بلدان الخلافة الإسلامية وابتداع الحدود السود، ولهم أكثر مِن ماضٍ غيرِ مُشَرِّف كفاجعة التتار، وكهيضة البرتغال على شرق جزيرة العرب.. ولا شأن لهم بدينهم؛ لأنه يندرج في (الإخاء الصهيوني التضليلي)، ولا شأن لهم بذوي الأديان الوثنية، ولا يريدون منهم أن يخرجوا من دينهم؛ لأنه سند لذلك الإخاء؛ وإنما أحكموا عليهم القبضة عسكرياً بمنطق تحليلي نفعي غير أيديولوجي، وكان الاهتمام الأيديولوجي جزئياً: إما بدعوة تبشيرية من القلة المتمسِّكة بدينها من النصارى - وإما بتشويه صورة الإسلام إذا رأوا نموَّه.. وأما يهود فلا تبشر بدينها؛ لأن دينها عرقي ولا عرقية لهم على أرض الواقع، بل هم خليط جمهوره غير ساميِّ الأصل.. ناهيك عن أن يكون إسرائيلياً من ذرية يعقوب عليه السلام.. ومن العمل الأيديولوجي ابتداع مذاهب في دائرة ذلك الإخاء كالبابيَّة والبهائيَّة؛ للتنغيص على الأمة المسلمة المجاورة، أو التنغيص بابتداع ظلامي من داخلها.. ولولا أن اليابان حليفة هتلر ما كانت كارثة هيروشيما.. وأما الدولة الأرثوذكسية فلاقت أعظم ظلم على وجه الأرض على أيدي الماركسيين؛ فكانت ضحايا مجزرة المجر وحدها فوق مليونين.. وبعد ذلك سيطر الإخاء الصهيوني على وجه المعمورة، وسقطت الدول التي تحمي الإسلام والنصرانية، وليس لليهود يومها دولة؛ فبدأت تستفحل أعمال الإخاء الصهيوني بالتدريج.

5 - أول عمل وأظهره وأخطره إسقاط حق الله الشرعي في حكم المعمورة؛ فساد عند المتدينين القلة - بعد إفناء دولتهم وأقطابهم، وتملُّك مُقوِّماتهم المادية - مقولة: (الدين لله والوطن للجميع)، وحل محل الجهاد الاستعمار بالمنطق التحليلي النفعي.. وساد عند الأكثرية الذين كفروا الله بإطلاق مقولة نيتشه: (مات الإله)، تبارك ربي وتقدس وله الحمد والتقديس أبد الأبد بلا نهاية.

6 - ترتب على سيادة الإخاء الصهيوني - ويهود يضحكون مِلء أفواههم - ابتداع دين وضعي أساسه ظاهرة طبيعية في البشر وليست حتمية في حياتهم، وهي شهوانية الإباحية، وشبهات الحسبانية.. بينما غرائز الحق والجمال والخير أكثر، وهداية الشرع والعقل وتعويضات الشرع توازن بين الغرائز وتُوجِّهها للتي هي أقوم؛ فجعلوا ظاهرة الشهوة الحيوانية والحسبانية الجنونية (وهما ظاهرتان جزئيتان لا حتميتان) حقاً طبيعياً بنوا عليه الدين الوضعي دستوراً وقانوناً بنظرية (الحق القانوني)، ونفذوه بنظرية العَقْد الاجتماعي الذي فلسفه أمثال جان جوك رسو؛ وبهذا العَقْد أصبحت السيادة للقانون لا أحد يستطيع الخروج عنه، وأصبحت مخالفة القانون جريمة كبرى بإجماع قسري فرضه التصويت غير الصادق على مُقتضَى العقد الاجتماعي، وأصبحت الحرية قيمة مع أنها موضوع تحكم فيه القيمة.

7 - حيل بين القوم وبين الهداية إلا في ظواهر من أفرادٍ نزعوا إلى الحق؛ لأنه من المحرم إنشاء (هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، والدعوة إلى الله بدين صحيح، وإنما يُلقى على العجائز مواعظ في الكنيسة بمنطق (الدين لله والوطن للجميع)، وحل محل ذلك ممارساتٌ قذرة.

8 - لم يبق لضرورات العقل بعد القانون الطبيعي البهيمي إلا التنظيم الفكري عن طريق السلطة لما هو غير معقول سلوكاً ومعتقداً.. وبقي أيضاً التنظيم العبقري (حسب مرادهم لا حسب مراد الله الشرعي) لإدارة الأعمال، وعبور المارة، وتنظيم الحروب العدوانية، والمراوغة في سياسة لا أخلاق لها تبيح العدوان ونهب الموارد، وفرض سوق التصدير المجحفة.

9 - الانصراف الكلي من قبل الإخاء الصهيوني إلى الإبداع الغزير في فلسفات الإلحاد والإباحية والحسبانية وفتح الباب على مصراعيه للعدمية، وإبداع مرادفات الرجعية لكل صوت ولو كان مبحوحاً يريد أن يهدي إلى فلسفة سوية.

10 - تحمَّل صهاينةٌ يهودٌ خُلَّص العبءَ الأكبر في تحقيق النَّقْلة الأخيرة بالديانة النصرانية إلى ديانة بروتستانتية أبدعها يهوديان من مُعطيات لاهوتهم الذي يزعمون أنه إلهي ولاهوتهم الطبيعي، وأحكموا اللقاء بينه وبين العهد الجديد؛ فدان بذلك معظم العالم النصراني ولا سيما الولايات المتحدة.

11 - ظلت المعمورة محكومة بسلطتين إحداهما كتابية، وأخرى علمانية من صُنع الصهيونية،، ومُنحتْ فلسطين ليهود باسم إسرائيل الدولة التي مُنحتْ لهم من الدولة الكتابية، وبالرضى الباطني من الدولة العلمانية وإن كان هذر التضليل الإعلامي خلاف ذلك.

12 - لا نزاع في وجود التنافس على المعمورة من الدولتين، وبعد التجزئة لبلاد العرب والمسلمين وحصول التحرر الشكلي مع بقاء الضغط الخفي وإعداد الزعامات وزرع العملاء ووجود جيشين سريين متسلطين مفسدين في طرفي الشرق والغرب: وُجِد زعماء ذوو غيرة قومية وطنية - وبعضهم ذو خير لا يستطيع إعلان التوحُّد على دين الإسلام، ولا على إنشاء جامعة للعالم الإسلامي - مع طموح للوحدة قبل اتِّحاد الهدف؛ فكانت جامعتهم العربية المدخولة بمن نعدُّه شقيقاً وهو غير مؤتمن.. فهبَّ هؤلاء الزعماء يحاولون أن تعتدل الكفة بالاستنجاد بالقوة العظمى العلمانية المظهرة تعاطفها معهم، وعلى الرغم من كل تلك الأعباء كان وضعنا أحسن نوعاً ما، وظللنا في حدود احتلال عام 1948م.

13 - توالت أحداث في أمتنا أكثرها صراع بين الأشقاء حتى كانت كارثة 1967م بتواطؤ الحليفين، واتسعت رقعة الاحتلال اليهودي، ودُفنتْ سُمعة العرب في التراب، ونزع الله من قلوب أعدائهم المهابة.

14 - ههنا اتجه الإخاء الصهيوني إلى عمل إيجابي مشهود الأثر عِياناً، مقروءة أدبياته بكل وضوح، مجهولة تدابيره الظلامية؛ فسقطت الماركسية (الدولة العظمى)، واختفت (الماوية)، وعادت الأرثوذكسية بقناعات بروتستانتية.. وتلك الأدبيات إنباءات لا نبوءات بما سيحدث في شرقنا، والتقى العهد القديم والعهد الجديد - بعد عداوة شديدة بينهما - حتى حصل عند كل زعيم من الدول العظمى المتنفِّذة قناعة بأن أصل الديانة العهد القديم، والعهد الجديد مصدر ثانوي يُؤَوَّل بالعهد القديم، وكانت الدولة العظمى سبتية بلا مواربة، وكان الجميع على عقيدة واحدة هي الإيمان بالمعركة العالمية النهائية الفاصلة التي يظنون أنها لسيادة شريعة عيسى عليه السلام بمضغٍ صهيوني، وتُضمر يهود سيادة الملك الداودي - وأين ذرية داوود عليه السلام من يهود الخزر؟!-، وعقد الجميع العزم على أن إقامة دولة إسرائيل دَين شرعي ربَّاني يتحمل وزر الإخلال به الزعيم ودولته معاً.. وكان العرب يحلمون بخارطة الطريق الهشَّة، ولم يحصل لهم ما دون الخارطة.. ومهما كانت ثعلبية السياسة وتحذلق المحللين فالعزم ماض على جعل فلسطين كلها دولة إسرائيلية، وكل زعيم ممن ذكرتهم يعلم أن هذا الحلم الميتافيزيقي مشروط بمظالم مروِّعة، والذي وقع منها على فظاعته نزر، ولا يهمهم أن يكون السبيل النهائي حرباً كونية ثالثة مُبيدة، وهم مُصرِّحون بأن ذلك مشيئة الرب سبحانه، وأنهم أمناء على تنفيذها.. وقد سقط في وقت مبكر ما عرف بدول عدم الانحياز، وسقط في وقت متأخِّر الدعوة إلى الحد من الأسلحة النووية.. ولم تحتج إسرائيل إلى ما اعتادته من ضغوط أهل المال والبنوك والشركات الجوهرية والأضابير السرية والترويع بمثل الموساد، ولا يهمهم من يلي الأمر في الولايات المتحدة؛ فليكن مَن يكن فهو عندهم في عنق الزجاجة، والسياسة إنما هي عقيدة توراتية محرفة وتلمودية مخترعة.. وقد نجحت إسرائيل في الاستضعاف والابتزاز للمال والأسلحة حتى أصبحت اليوم ترسانة تهدد أمريكا وأوربا معاً.

15 - هم يؤمنون بميتافيزيقا تاريخية لم تصدر عن دين صحيح، ونحن أشد إيماناً بما هو عن دين صحيح بأن المشيئة في كون الله لله وحده، وأن القوة الظالمة مهما عظمت إنما هي مُقْتضِيات مروِّعة ولكن ما عند الله فوق ذلك كمقتضيات مضادَّة وموانع مفاجئة، ولا مساومة في عقيدتنا وديننا، وفي ديننا الصحيح أن الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً، وأن هناك طائفة منصورة ظاهرة وهي على الحق لا يضرها من خذلها، وذلك بدفعٍ من الله لا بقوة مادية تملكها، وقد رأيت بأم عيني في أطراف بعض البلدان الإسلامية باديةً في حِرفتهم وهم حاضرة في زِيِّهم فرَّوا بنسائهم ودينهم إلى البر يرعون أنعامهم، ويحرثون الأرض من المطر والآبار، وقناعتهم بنظافة اللباس لا تزويقاته المدنيَّة، وفرشهم وأوانيهم من الخوص وصناعة الجذوع والخشب، وأصواف الأنعام وأوبارها وجلودها، ويُعلِّمون بنيهم وبناتهم ما نتعلَّمه لدى أصحاب الكتاتيب، ويتهجَّون القرآن حتى يمهروا في تلاوته، وهم من جهة الرزق أسعد حالاً مِن أهل المدن، وأكثر تحمُّلاً للشدائد.. فعلوا ذلك لأنهم بُلوا بأكفر وأظلم قانون في البلاد الإسلامية يسلب من الأبوين قَوامتهما على ذريتهما.. وعندهم شيئ قليل من البدع التي بُلي بها أهل القبلة، ولا يعدمون بعض أنصاف من العلماء يهدونهم إلى الحق بالتدريج، ومع هذا فهم مصدر ثروة للقُطر؛ فعسى أن يكونوا من الذين قال فيهم رسول الله: (فطوبى للغرباء).. ونؤمن بأن الجهاد حق لم يُنسخ، وأعظم جهاد اليوم إنما هو صَدُّ الظلم عن أنفسنا.. ولكن لما أذن الله بالجهاد حال القدرة، وعاد الدين غريباً كما بدأ، وكان عندنا اليقين من دين ربنا أن العقبى للمسلمين حتى تقوم الساعة على شرار الخلق: كان نتيجة ذلك في الجهاد أن يكون كما كان حال غربة الإسلام الأولى ثم حال القدرة والإذن بالجهاد.. وما دخل في أمتنا من عمليات انتحارية، وعنف باسم الجهاد تضرَّر منه المسلمون أنفسهم وممتلكاتهم فإنه لم يغير من الواقع شيئاً، ولن يدفع من القوة المتغطرسة شيئاً، وطال ليل من يرون هذا العمل الذي ليس من الدين في شيئ وهم يعدُّونه جهاداً، والجهاد الذي ألفناه في شرع الله لا يطول؛ وإنما هو نصر يتبعه نصر، وتراجع قليل يتبعه نصر أكبر وأكبر.. والذي بيد المسلمين اليوم الحكمة في السياسة، ودفع الأضرِّ بما هو دونه، واللوذ بالطائفة المنصورة، وإحكام إعلامنا بالدعوة برزانةٍ ومنطق ووعظ فكري ودعوة إلى وحدة الهدف ليتحد الصف، ولا سيما بين دول المواجهة، وإشاعة ما كان عليه رسول الله والشيخان رضي الله عنهما، ومن ضمن الله له الجنة من المهاجرين والأنصار؛ لأن الشعوب إذا اتَّحد هدفُها اتَّحد هدف القيادة؛ فكانت وحدة الصف حتمية.. وتُشِيع الغيرةُ القومية مفهومَ الوطنية؛ لأن الظلم اليوم واقع على أوطان المسلمين، والمواجهة مع أعداء الله حاصلة، وتتميم المسيرة مضمون؛ لأن النصوص قاطعة على أن العقبى للمسلمين، وسيذوق يهود البأس من حلفائهم قبل أن يُسلط الله عليهم المسلمين؛ فيا إلهي هل ستكون ميتافيزيقاهم الخرافية تقدمية، ويكون إيماننا بديننا الصحيح الناسخ رجعية؟!.. والحسبانية التي ولَّدت الإلحاد الحديث بما أسلفته لكم من إحالات دينية مفتراة على الله لم يقبلها الدين والعقل؛ وبهذا السبب كان طموح العقل الغربي إلى لمس الحقيقة ما غاب منها وما حضر.. كيف لا وهو ذو الإنجاز الباهر في الكشف الكوني والعلم المادي؟!.. إن غيب الله أكثر وأعظم مما أذن الله بمعرفته مشاهدةً، وهم يريدون علماً حسياً فيه التكييف والتحديد، وأنى لهم ذلك وفي أنفسهم التي يعونها ما لا يُحيطون بكنهه، وكثير مما يشاهدونه في صيرورة وتغيُّر لا يدركون أكثره إلا بعد استقرار الصيرورة إن كان ذلك سيحصل في أعمارهم المحدودة، وهذا معنى أن البشر يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا.. وهذا الغبن المعرفي يعني عندهم التخلي عن الإيمان الذي هو إرادة الله؛ ولهذا قال (القديس بول): (أتحدث باعتباري مجنوناً أكثر من أي شخص آخر)؛ فلما عجز طموحه الأرعن عن مشاركة الله في علمه - تقدس ربي، وله الحمد بالكمال المطلق - عدَّ نفسه مجنوناً؛ لأن المجنون لا يعرف بعض الظواهر التي يلمسها.. ورسائل هذا القديس عُرفت بالكرونتية أوَّل بها بعقله القاصر مأثوره الديني تأويلاً لم يرتضه أهل الدين أنفسهم.. وما دام العقل عندهم لا يعرف المعرفة التي يطمحون إليها وجب عندهم تعطيل العقل، وأن يكون البديل هو (اللامعقول)، وهذا اللامعقول تمجيد لجهود العقل الذي لم يعرف المعرفة التي يطمح إليها؛ ولهذا قالوا: (لا وجود لذهن كبير لا يمتزج معه الجنون)!!.. وهذه الظاهرة عند مَن نسميهم العقلاء هي المصدر لكل فلسفات (اللامعقول)، و(آداب اللامعقول).. إنهم يقرؤون الفحش والرذائل منسوبة إلى المصطفين الأخيار من الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ فكيف لا يعتور عقولهم التناقض في أخبار وأحكام دينهم؟!.. ويرون نسبة النقص إلى الرب الجليل ذي الكمال المطلق فكيف يثقون بعدله ورحمته؟!.

وعقيدة المسلمين وشريعتهم تقوم على أنهم على دين صحيح شاهد لما بين يديه من الأديان السابقة قبل أن يتلاعب بصفائها مَن استُحفِظوا كتاب الله فضيَّعوه، ولو نشأ العلم المادي بين أمتنا لكان الدين في سلام مع العلم والعقل؛ وإنما قد يعارض ذي علم غير متمكِّن في فنه كما نسب بعض مطاوعتنا بعض المنجزات العلمية إلى السحر، ولكن الأمر سيستقر بالإجماع الجزئي للعلماء الربانيين المجتهدين الذين فقهوا دينهم الصحيح، وعلموا أن العقل مخلوق يتربى بالتعليم والتعلم، ثم يتوقف: إما بِهِجِّيرَى أرذل العمر، وإما بانتهاء الأجل.. ويعلمون أن المغيب يُعرف وجوده بأثره ووصفه الصادر عن تواتر أو خبر معصوم، ولا ينسبون إلى الدين إلا بعد التمحيص الثبوتي والدلالي.. ولا سبيل إلى العلم بالمغيَّب علم تحديد وتقدير، وهذا علم تجريبي؛ لأن ما عرفنا وجوده بالوصف بالتواتر (والتواتر تجريبي) لا نعرف منه إلا ما دلَّ عليه الوصف؛ فإذا شاهدناه عرفناه كيفية وتحديداً بأكثر من دلالة الوصف وإن كان الوصف مطابقاً، وكل مجهول أصبح معلوماً إنما انطلقنا إليه بدلالة من علم لنا مُسْبق شهدناه بالحسِّ، وبراهين الله الكونية في الآفاق والأنفس، وهي كافية في الإيمان بالمغيَّب على الوصف الشرعي.. ومع الوصف الشرعي نعلم وجود ربنا بصفة الوحدانية بالكمال المطلق والتقدُّس المطلق من آثار صنعه عظمة ولطفاً وقدرة وواحديةَ قصدٍ وتدبير؛ ومن ههنا يحصل الاصطفاء والعصمة لمن ثبت بالبرهان أنه رسول من ربه، ومن ههنا ثبتتْ العصمة للشرع في أحكامه وأخباره.. كل هذا ببراهين العقل التي وعاها من المشاهدة بالتفصيل؛ فلا دور للعقل بعد ذلك إلا التمسُّك بالإيمان المُسبق؛ لأن العقل رياضيُّ الترتيب، ثم التمحيص الثبوتي والدلالي للشرع، ودقة الفهم والتمييز.. وما جعله الشرع لمواهب البشر في عقولهم ومهاراتهم لعمارة الأرض، وتنظيم الوقائع المستجدة التي لم يرد بها شرع لا بالنص على الاسم ولا بالنص على المعنى.. وكذلك المحاولة لاكتشاف ما يمكن اكتشافه من قوانين الكون، وكذلك اختراع وصُنْع ما ينفع الناس: فالشرع يبارك ذلك ولا يمنع منه؛ وإنما يمنع الشرع مما هو مُحرَّم ضار من أجل استمتاع مؤقت، ويتدخل في توظيف ما أنجزه العقل والمهارة من اكتشاف وصنع لما يرضي الله ويسعد الإنسان في دنياه وآخرته؛ فلا يبيح من الصنع للمتعة إلا ما كان متعة مباحة، ويمنع من استخدام مصنوعات الدمار في حرب تتعدى سياسة الحرب الرحيمة التي شرعها الله لعباده؛ فما بالك بتدبير القنبلة التي يتعدى ضررها غير المعتدي، وما بالك بالإشعاعات النووية التي يتبرأ منها القوي ويُهلِك بها الضعيف؟!.. وتغيير الفطرة مما جعل الله للبشر القدرة عليه لا يرضاه الله، وأعظم تغيير للفطرة ظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.. وهداية العقل الذي خلقه الله، وهداية الشرع الذي نزَّله الله أن يتلاءم الإنسان مع فطرته ولا يحيف عليها.. والأرض مِنَّةٌ علينا من خالقها ربنا سبحانه ننتفع بها، ولكن ليس ذلك على الإباحة المطلقة؛ فلا نأكل منها ما يَقْتُل أو يُمرض، ومباح للفرد ما أحياه من الأرض ولكن بشرط أن لا يكون مسبوقاً بحق عام أو خاص؛ إذْ ليس لِعِرْق ظالم حق، وبشرط أن لا يفتات على إمامٍ مسلم جعل الله من أمور ولايته تنظيم الإحياء بالعدل، وفي النهاية فالعقل المسلم مُعافى؛ لأنه يعلم أنه مخلوق مرهون بأجله؛ فلا يطمح إلى تكييف وتحديد ما هو مغيَّب عنه مدى عمره، وهو يعلم أن الله جعل له من إدراك العقل الكفاية للمعيشة وعمارة الأرض، والكفاية لعبادة الله عن بصيرة، وإلى لقاء، والله المستعان.

 

من الكفر والإباحية إلى عقوبات العدميَّة ( 3-10)
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - عفا الله عنه -

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة