Sunday  24/10/2010 Issue 13905

الأحد 16 ذو القعدة 1431  العدد  13905

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

فاجأني الصديق العزيز الدكتور عبد العزيز الدخيل، الكاتب والمحلل الاقتصادي المرموق.. ب «هديتين» قيمتين، هما أحدث ما خطَّه قلمه الموضوعي الحصيف، «الأول».. يتحدث فيه عن «سوق الأسهم السعودي» بصورة موسعة، امتدت بصفحاته المتوسطة الحجم إلى ثلاثمائة وتسعين صفحة، و»الثاني»

يتحدث فيه باقتضاب.. وفيما لا يزيد عن ثلاث وستين صفحة من الحجم الصغير.. عن وزير البترول السعودي الأول، ونجم نجوم النفط السعودي بصفة خاصة.. والعربي بصفة عامة، وأحد مؤسسي (منظمة الدول المصدرة للبترول - أوبك).. مشاركة أو مناصفة مع زميله وزير البترول الفنزويلي «جوان بيريز الفونسو»: الأستاذ أو الشيخ عبد الله الطريقي.. فهو كلاهما .بداية ب «معرفته» ودراساته (بكالوريوس كيمياء وجيولوجيا، وماجستير في جيولوجيا المملكة)، ونهاية ب»تطبيقاته» العملية والوظيفية (مراقباً، فمديراً، فعضواً لمجلس إدارة أرامكو، فوزيراً، فمستشاراً) التي راكمت خبراته وتجاربه.. عبر السنين والمواقف، لتجعل منه - ودون أدنى قدر من المجاملة - خبير النفط العربي الأول.

ولأني لست من المعنيين ب»سوق الأسهم» ومضارباتها وسُعارها.. وكل الذي بقي في ذاكرتي منها - عبر متابعاتي الصحفية لها - عند لحظة انهيارها على رؤوس أولئك «الغلابة» الحالمين بالمليون والمليونين أو الثلاثة ملايين ممن دخلوها دون دراية أو معرفة، هي صورة أحدهم.. الذي ذهب إلى «البنك» ليسأل عن «محفظته»، فقيل له بأن رصيدها قد أصبح صفراً.. وأن عليه أن يسدد مليوناً أو مليونين أو ثلاثة قبل أن يتم الحجز على منزله وبيعه في المزاد العلني.. فجنَّ جنونه، وخرج إلى الشارع.. ليخلع أو يقطّع ملابسه على الرصيف قطعة بعد قطعة وبصورة «هستيرية» لم تعرفها شوارعنا.. حتى أصبح كيوم ولدته أمه، وهو يصيح أو ينوح.. ويضرب رأسه ووجهه وصدره بكلتا يديه إلى أن تداركه بعض المارة فستروا عورته حيث تم اصطحابه لأقرب مخفر من مخافر الشرطة لمعرفة ما الذي حدث..؟!

لذلك كله.. وضعت كتاب «سوق الأسهم» جانباً، وأقبلت بشغف وعطش.. على كتابه الآخر عن الشيخ عبد الله الطريقي لألتهم أو أشرب على وجه الدقة صفحاته الستين ونيف في ليلة واحدة.. لأتعرف وبسرعة على ذلك الذي كتبه الدكتور الدخيل عنه.. خاصة أنه شاقني في مقدمة الكتاب، قوله عن نفسه، بأنه وبعد أن انتهت مرحلة «حماية المصالح الوطنية في عقود الامتياز» بنجاح ب «جهود رجالها وعلى رأسهم عبد الله الطريقي وزير البترول السعودي آنذاك»، وأصبحت إشكالية النفط بعد ذلك هي في تحديد الأسعار.. الأمر الذي جعله يختاره موضوعاً لرسالته التي تقدم بها لنيْل درجة «الدكتوراه» من جامعة إنديانا بعنوان: (قاعدة مثلى لتحديد السعر الأمثل لبترول الشرق الأوسط).. وهو ما قاده بالضرورة لدراسة وتأمل كل ما قام به الشيخ عبد الله الطريقي وأداه من مواقعه الوظيفية المختلفة في جدلية «السيادة الوطنية على موارد النفط وحماية المصالح الوطنية».. ليتعرف أو ليكتشف في النهاية كم كان «عبد الله الطريقي نموذجاً وطنياً»، قبل أن يلقاه شخصياً وتقوم بينهما صداقة ومودة.

لكأن هذه الثنائية التكاملية بين من حصل على الماجستير في الأربعينيات من «تكساس» لمعرفة جيولوجيا النفط وأسراره.. ومن حصل على الدكتوراه في السبعينيات من «إنديانا» بحثاً عن آلية أمثل لسعر البرميل الواحد من النفط، وكلا الأمرين يصدحان وطنية.. هي من بين، أو في مقدمة دوافع الدكتور الدخيل لكتابة هذه «الورقة» البحثية، وتوزيعها على بعض أصدقائه.. في أعقاب وفاة الشيخ عبد الله الطريقي في شهر سبتمبر من عام 1997م بمنزله الذي اختاره في «معادي» القاهرة, ثم ليعيد إصدارها بعد ثلاثة عشر عاماً.. في هذا الكتاب الصغير: الهام في موضوعه.. والجميل في تذكره لواحد من أبرز رموز الوطن ورجالاته الكبار، مختتماً مقدمته.. قائلاًٍ: «كان أقل ما يمكن أن أقوم به لتخليد ذكرى هذا الراحل العظيم.. وريقات تحكي جزءاً من تاريخ كفاحه من أجل مبادئ وقيم آمن بها لخدمة وطنه وأمته».

كانت «الوريقات».. التي أصبحت هذا «الكتاب» الصغير في حجمه والكبير في قيمته وشجاعته، والذي صدر عن «دار الفارابي» البيروتية قبيل أيام أو أسابيع من هذا الشهر.. يتضمن إلى جانب «مقدمته» و»خاتمته»، «ترجمة» مختصرة مركزة لحياته.. متسعة فاحصة ل «فكره»، ثم يأتي في أعقابها فصلان.. الأول: عن أدائه البترولي «في المجال الوطني»، والثاني عن أدائه «في الساحة الدولية» بعد مغادرته ل «الوزارة» الذي لم تدم إقامته فوق كرسيها بأكثر من خمسة عشر شهراً.

لقد كانت ترجمة حياة الطريقي.. طفلاً، ملفتة مثيرة.. فابن رمال قرية الزلفي وصحرائها، النحيل والقصير والثالث لأبيه من زوجته (الثالثة عشرة)، والذي لم تجد جدته - التي تولت رعايته بعد أن طلَّق والده والدته فتزوجت بآخر - أمامها.. غير أن تذهب به إلى مطوع القرية (ابن عمر) وكتّابه ليحفظ القرآن ويتعلم شيئاً من أمور دينه، لكن هذا الطفل الذي أحب الحمام وصيده.. كان وكأنه يبحث عن شيء آخر، ليجد نفسه فوق ظهر جمل بصحبة أبيه وهو في السادسة من عمره.. في طريقه إلى «الكويت»، ليلتحق بمدرسة «الأحمدية الابتدائية»، وليقفز منها بعد خمس سنوات.. إلى «بومباي» المدينة الهندية الفوارة وعاصمة التجارة والسياسة.. وإلى دارة وتجارة زعيم القصيميين عامة والعنيزيين منهم خصوصاً الشيخ عبد الله الفوزان، الذي كانت داره وتجارته مطمح أبناء شرق المملكة في تلك السنوات الشحيحة من سنوات الثلث الأول من القرن العشرين، ومنها.. قفز إلى «القاهرة» - موصى عليه من الشيخ الفوزان - لإكمال دراسته الثانوية ب «مدرسة حلوان الثانوية»، والتي أتمها عام 1938م، ليعود إلى الوطن.. فيبتعثه وزير المالية ورجل الدولة الكبير آنذاك الشيخ عبد الله السليمان إلى «جامعة القاهرة» للدراسة بكلية العلوم (تخصص جيولوجيا).. ربما قبل أو أثناء برنامج الابتعاث إلى كل من القاهرة وبيروت، الذي بدأه السيد طاهر الدباغ.. مدير عام المعارف آنذاك، وباركه الملك عبدالعزيز، ليحصل في عام 1943م على درجة (البكالوريوس في علم طبقات الأرض والكيمياء) ويعود إلى أرض الوطن ثانية.. ليعمل في وزارة المالية وبالقرب من وزيرها عبد الله السليمان.. وليخوض معه مستمعاً أو مشاركاً في جدلية الحقوق والامتيازات التي تمَّ التوقيع عليها في عامي 1933 أو 1935 ليتم ابتعاثه بعد عامين وبتوصية من الملك عبدالعزيز إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتحضير لدرجة الماجستير في (هندسة الجيولوجيا البترولية).. فيحصل عليها بعد ثمانية عشر شهراً.. ثم يبقى بعدها عاماً للتدريب في شركات البترول في كل من «تكساس» و»كليفورنيا» ليكون أول مبتعث سعودي لأمريكا وأول خريج منها.. ليعود عام 1948م إلى أرض الوطن، وقد أعجبته أمريكا وحياتها.. فقد كانت تصحبه زوجته الأمريكية السيدة اليانور نيكولاس التي ستمنحه ابنه الوحيد (صخر)، ولكن يبدو أن الأمريكيين ومنذ ذلك الوقت المبكر.. لا يقبلون الجمع بين حب المبتعثين لأمريكا، وإخلاص هؤلاء لأوطانهم وعروبتهم، ولذلك فقد كان على حق الأستاذ محمد عبد الله السيف الذي كتب عن عبد الله الطريقي كتابه (صخور النفط ورمال السياسة) الذي أعادني لاستكمال قراءته كتاب الدكتور الدخيل.. عندما قال: (منذ سنة الماجستير.. بدا لشركات البترول، بأنه خصم المستقبل)..!

عندما عاد إلى أرض الوطن.. مسلحاً بالمعرفة البترولية في أرقى مستوياتها (دراسة وتدريباً) بدأ مشواره (في المجال الوطني) عبر التسلسل الوظيفي الهرمي الذي أشرت إليه سابقاً، حيث بدأ معركته في الحصول على ما فوق مبدأ المناصفة (الفيفتي فيفتي) الذي تم تطبيقه على الطريقة الفنزويلية.. وهو ما تحقق له عبر اتفاقية الامتياز مع الشركة اليابانية للبترول في «المنطقة المحايدة» برفع حصة المملكة إلى 56%، ثم باستعادته لخزينة الدولة نسبة ضريبة الدخل لعشر سنوات سابقة، والتي كانت تستولي عليها شركات الامتياز دون وجه حق، ثم بإقامته لأول مرة مؤتمرات النفط.. في كل من القاهرة وبيروت، لتشكل جبهة وطنية أمام تكتل شركات الامتياز، لكن ذروة أعماله.. التي أشار إليها الكتاب هي إقامة منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك)، التي استردت لأصحاب الأرض سيادتهم على إنتاجهم النفطي.. ليستردوا معه قراري الإنتاج وكمه، والسعر وحجمه..

لقد كانت «عروبة» الطريقي.. حميمية عالية، لم تنل منها كل النكبات.. التي تعرضت لها الأحلام والأماني العربية، إلا أن ذلك لم يجعل من فكر الطريقي البترولي متشنجاً منحازاً أو راديكالياً متطرفاً كفكر «مصدق» في التجربة الإيرانية.. كما قال الدكتور الدخيل، بل أسس فكره على (الرغبة الصادقة المخلصة في خدمة وطنه وأمته)، وعلى (الإيمان القوي بحق الحكومات والشعوب في السيادة على مواردها)، مع (الاعتراف بحق الشركات الأجنبية في الحصول على عائد ملائم يتناسب مع مخاطر استثماراتها).. مرتكزاً (على المعرفة العلمية والعملية).. ومعتمداً (التخصص والمنهج العلمي في بحث القضايا وإيجاد الحلول).

كم كان الوطن - وما يزال - في حاجة إلى رجال مثله علماً ونزاهة ووطنية.. ولكنه مات عزيزاً بأنفته.. كبيراً بجهاده.. وعظيماً بإنجازاته.

إن كتاباً جميلاً وشجاعاً كهذا الذي كتبه الدكتور الدخيل.. إذا تمَّ توزيعه، لا يكفي - في تقديري - للاحتفاء بهذا الجبل الأخضر الذي اسمه عبد الله الطريقي.

ولكن السؤال يبقى.. كيف نحتفي بذكرى هؤلاء الكبار في وطننا.. والرموز في تاريخنا.. وما أكثرهم..؟

 

عبد الله الطريقي.. وذكرى الرجال الكبار
د. عبد الله مناع

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة