Tuesday  26/10/2010 Issue 13907

الثلاثاء 18 ذو القعدة 1431  العدد  13907

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

طاف الإنجليزي لورد ماكولي بلاد الهند عرضاً وطولاً، وعندما عاد إلى عاصمة بلاده «لندن» ألقى خطاباً أمام البرلمان البريطاني في الثاني من فبراير - شباط من عام 1855م قائلاً: «لقد جبت بلاد الهند طولاً وعرضاً، فلم أرَ فقيراً يشحذ، ولا لصاً، لقد رأيت الغنى، والقيم الأخلاقية الراقية، فأنا

لاأعتقد أبداً أننا سنقدر على غزو هذه البلاد وفيها هذا النوع من البشر، إلا إذا تمكنا من كسر العمود الفقري للأمة المتمثل في تراثها الثقافي والروحي؛ لذلك أرى أن نستبدل بنظام تعليمها القديم وثقافتها نظاماً إنجليزياً رثاً نزعم أنه الأفضل لها ولتطورها، وبذلك نتمكن من السيطرة عليها، بعد أن تكون قد فقدت احترام ذاتها»...

الهند بلاد العجائب والعرقيات والأديان واللغات الكثيرة، ومع ذلك لم تجد صعوبة في توحدها وراء رجل وطني مثل المهاتما غاندي الذي وجد الطارئ على يديه ممانعة في فرض أدواته الاستعمارية على تراب لا يقبل غرس ما ليس منه وله، ليتأكد للاحتلال أن أقسى مقاومة أن تستحضر الأمة والمجموعة رموزها التاريخية وتراثها الثقافي، وموروثها الذي يلهب العاطفة الشعبية، ويذكرها بالحرية، ويرفض الوصاية، وكان المهاتما غاندي بصورته العفوية، ونظارته البسيطة وقطعة القماش الهندية التي تستر جسده الهزيل أحد المتحمسين لحملة إحراق الأقمشة الأجنبية صيانة للأقمشة الهندية التي أثارت حفيظة بعض النخب من أمثال الشاعر طاغور الذي استنكر الحملة، وهو ما أثار دهشة غاندي الذي بعث برسالة إلى صديقه شاعر الهند الكبير طاغور أكد فيها قناعته بضرورة أن يعود الهنود إلى مغزلهم اليدوي ليصنعوا ملابسهم بأنفسهم. قال غاندي مخاطباً طاغور: «عندما فقدنا مغزلنا فقدنا رئتنا اليسرى، ولذلك نحن نشكو الآن مرض السل، ولن نستطيع وقف هذا المرض حتى نعيد المغزل».

القضية ليست مغزلاً ولا خيوط صوف ولا سنارة، وصورة استقلال الوطن بألوانها الزاهية أزهى بكثير من صورة قطعة قماش يستر بها الزعيم عورته، إنها درس أخلاقي للشعوب قاطبة، يشرحه أستاذ مفعم بالوطنية وإنكار الذات، أستاذ لم يختصر الهند بأعراقها ودياناتها ولغاتها في إقليم أو قبيلة أو طائفة، أستاذ سطر مفردات ملحمته بيده المنهكة في صنع المستقبل والاعتماد على الذات واستغلال القدرات، ولذلك وصلت الهند بسبب البناء السليم على شح مواردها وكثرة كائناتها إلى أن تكون بلداً في النادي النووي منذ خمسين عاماً تقريباً ثم تربعت على عرش أنظمة الاتصالات والشبكات، وأصبح العقل الهندي مثيراً للدهشة في ابتكاراته واختراعاته...

الشعوب المحترمة لذاتها تعتد بماضيها (عمودها الفقري) ليكون أساساً لمستقبلها المشرق، وتقاوم بعبقرية كل رياح التغيير الهدامة، وعمليات تجريف التضاريس ابتداء من الحفاظ على فولكلورها الذي يتجاوز مفهوم النشاط الشعبي المتعلق بالأزياء والأطعمة والطقوس الاجتماعية إلى مفهوم الحيوية الوطنية الملهمة للاستقلال ومقاومة الخلع من الجذور وطمس الهوية وانتهاء بالحفاظ على تعاليم دينها ولغتها وكتبها الصفراء، وهذه الحيوية تكون موضوعية في بعدها الإنساني حينما لا تعبأ بكل محاولات الانسلاخ والتحول والتقليد الأعمى، موضوعية في الاستعصاء على أن تعود تلك الرياح بالوطن المأهول بمقدساته إلى غمده الجغرافي وينحسر على نفسه حتى يتبخر لتمطر خيراته وثرواته على الطارئين...

إن مسألة التراث والهوية الممنهجة تغرس الثقة في الأجيال، وتدفعهم لتحقيق مزيد من الامتداد الحضاري لأسلافهم، وبخاصة إذا كان الأسلاف ركيزة من ركائز الحضارة الإنسانية على مر العصور، وصناعاً للقيم والأخلاق والتمدن، وكل ما في الهوية الحقيقية يؤكد أنها أكبر من أن تختصر في رقصة، أو ملابس مزركشة، أو نشيد، أو بيت شعر، أو صقر على يد فارس، أو شجرة نسب، أو مقتنيات في متحف أو وثائق في أرشيف...

ومتى ما فهمت الأمة هذا العمق الحيوي للتراث والهوية، وأنهما أكبر وأرقى من الفنجان الأول وصدر المجلس، فستدرك أن التميز سيادة والتقليد الأعمى للآخر المختلف ضياع، فالصورة دائماً ليست كالأصل، وتؤمن من خلال التجربة أن الفرق بين المغزل والفنجان الأول كالفرق بين الضرورة والترف، بين التوكل والتواكل، بين العمل والبطالة، وعلى الأمة أن تفحص كل المصطلحات والسلوكيات والثقافات التي تبتلى بها وعدم الاكتفاء بأنها ممهورة بتوقيع طبيب يحدد وصفته دون النظر إلى الآثار الجانبية البعيدة التي تنعكس على طمس ذاكرة تلك الأمة، كثيرون هم الأطباء الذين يلبون رغبات المرضى في الشفاء العاجل ولو كانت النتيجة حقنة الرحمة كما يزعمون...

صدقاً إن المسافة هائلة والبون شاسع وكارثي بامتياز بيننا وبين تراثنا في ظل جيل يدعي الحداثة والتمدن وتقليد الآخر بانسلاخه من هويته حتى ظهرت في مجتمعنا الأصيل بعض السلوكيات الغريبة، مثل: «طيحني، وكدش»، وغيَّر الناس طريقة حياتهم وديكورات منازلهم وتربية أبنائهم انبهاراً بما عند الآخر في صورة لم يدرك خطرها إلا الأحنف بن قيس في قوله: «لا تزال العرب عربا ما لبست العمائم وتقلدت السيوف، ولم تعد الحِلْم ذلاً، ولا التواهب فيما بينها ضعة»، وكان قصده الهوية والانتماء، وهما أكبر من الزي والعادة، وأعمق من العمامة والسيف، ولذلك ختم العبارة بقيم عربية تؤكد على موضوعيتها...

إن الجيل المضروب في صميمه لا يبني وطناً، ولا يقاوم تغييراً، وسيكون معولاً صلداً في تهشيم جدار المجتمع، والانكسار الحضاري أقسى ما يكون حينما ينسى عباقرة حضارته وأدباء تراثه الإنساني ويعيش فارغاً أجوف، مهدداً بالسقوط لأنه مصاب بهشاشة الذاكرة التي لا ينفع معها كل كبسولات الكالسيوم، وهي أكثر ألماً من هشاشة قشرة جرح موشك على الاندمال...

وحباً في الفأل الحسن قد تنجح بعض المحاولات في اختطاف جيل من رحم أمته، وقد يضطر شعب ما إلى كظم الغيظ زمناً طويلاً، لكن ما إن تدب الحياة في الذاكرة القومية والشعور الجمعي حتى ينفض عنه غبار إجهاد التغريب وهذيان الزهايمر ويعود من جديد في سياقه كأروع ما يكون، وكان الله في عون أمة محمد... والله من وراء القصد.

abnthani@hotmail.com
 

أعِيدُوا لَنَا...المِغْزَلْ!!!
د. عبدالله بن ثاني

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة