Friday  29/10/2010 Issue 13910

الجمعة 21 ذو القعدة 1431  العدد  13910

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

جدد حياتك

           

سنواصل الحديث في هذا المقال عن الذوق، وفيه انتقيت لك قارئي العزيز مجموعة من المشاهد الخلاّقة والمواقف العجيبة في الذوق الرفيع والأدب الجم:

1 - موقف إبراهيم عليه السلام حينما تحدث عن نعم الله وآياته وقدرته فنسبها له سبحانه وتعالى، وجاء في سياق حديثه ذكر المرض فنسب المرض لنفسه تأدباً مع الله فقال: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ{78} وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ{79} وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ{80} وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}.

2 - أدب الخضر عليه السلام مع الله تعالى فهذا العبد الصالح يقول في حق السفينة: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا، ولما ذكر الخير نسبه إلى الرب تبارك وتعالى: {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا} فما كان من الخير أسندها الخضر إلى الله، وما كان في ظاهره النقص أو العيب أسنده إلى نفسه تأدباً مع ربه.

3 - وتأمّل في جمال وروعة ذوق يوسف عليه السلام عندما قال {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} وكان من الطبيعي أن يقول: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} كون محنة البئر أشد رعباً وأكثر خطراً. فلماذا لم يذكرها؟

لأنّ الحديث كان بحضرة إخوته والتذكير بحادثة البئر لاشك سيحرجهم وربما عكّر صفو علاقتهم التي تحسّنت، مكتفياًً بشكر الله وبحمده على أن أخرجه من الجب في سرِّه، ثم قال:

{وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}.

تصرفٌ جميل آخر يفيض ذوقاَ تجاه إخوته الذين نصبوا له الحبائل ودبّروا له المكائد، فلم يرد سيدنا يوسف أن يجرح مشاعرهم رغم أنهم أذاقوه صنوف اللوعة مغتفراً زلّتهم ومتغمّداً هفوتهم رغم اعتدائهم الصريح وتعمُّدهم البيّن.. فقال: {بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} فحمّل الشيطان مسؤولية ما حدث.

4 - ومن المواقف العذبة التي يحسر دون وصفها منطق موقف عيسى عليه السلام عندما سأله الله وهو عالم السر: {وإذ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فكان الرد الجميل بقوله {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ}، ولم يجب ب: لم أقله، وفرق بين الجوابين في حقيقة الخلق وكنه الأدب بين قول: لم أقل وبين قول: إنْ كنت قلته فقد علمته!

5 - ومن مشاهد الذّوق قول موسى عليه السلام: {فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} ولم يقل أطعمني تأدباً مع العزيز مستفيضاً ببحره ومنيخاً بفنائه.

6 - ومما يذكر في هذا الشأن قوله تعالى عن نبينا محمد اللهم صلّ وسلم عليه، حين أراه ما أراه فقال واصفاً حاله {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} يقول أبو القاسم القشيري في كتابه لطائف الإشارات وقد صدّر باب الأدب بهذه الآية: وفي هذا المشهد لم يلتفت الحبيب اللهم صل وسلم عليه جانباً ولم يتجاوز ما رآه وهذا كمال في الأدب, والإخلال به: أن يلتفت الناظر عن يمينه وعن شماله أو يتطلّع أمام المنظور فالالتفات زيغ والتطلّع إلى ما أمام المنظور: طغيان ومجاوزة، فكمال إقبال الناظر على المنظور: أن لا يصرف بصره عنه يمنة ولا يسرة ولا يتجاوزه..

7 - ومنه قول أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فقد بدا صابراً وثنى متأدباً فرغم ما حلّ به كرب الآن أنه ظل ساكن القلب هادئ الجأش، فبنى فعل المس بالضر للمجهول رغم أنّ كل ما يحدث لنا في هذه الدنيا مرجعه إلى الله، ثم قال وأنت أرحم الراحمين وهذا القول أعظم أدباً من أن يقول: فعافني واشفني.

8 - وكذلك الصالحون من الجن الذين اغترفوا من نهر الذّوق عندما قالوا: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً}، فقالوا: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ} وما قالوا: «أشر أراده ربهم بهم، أم أراد بهم ربهم رشداً».. فجعلوا الفعل مبنياً للمجهول تأدبّاً مع الله عزّ وجلّ.

9 - النبي صلى الله عليه وسلم الذي ارتفع قدره بسموّ خلقه، كان إذا أنكر سلوكاً من أحد، لم يذكر اسمه صراحة، بل تجده يعرّض بالقول ويلمّح به فيقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا» ولا يصرّح بأسمائهم رعاية لمشاعرهم.

10 - ويروى عن حيوة بن شريح - وهو أحد أئمة المسلمين - أنه كان يقعد في حلقته يعلّم الناس وكان يحضر له المئات، وفي وسط الدرس كانت تدخل عليه أمه والتي أصيبت بلوثة في عقلها فتصيح به: «قم يا حيوة، فألق الشعير للدجاج، فيقوم وقد ألقى عليها برقته وتحد به ويترك المجلس ويفعل ما أمرته أمه!!»

11 - ومن المواقف الجميلة ما يُذكر أن فقيهاً، كان يمشي في الطريق، وعلى رأسه قبعة، فجاء أحد اللصوص، وخطف القبعة، ومضى هارباً! وفكر الفقيه في أنّ هذا الرجل قد صار في نظر نفسه، وفي نظر الآخرين لصاً من أجل شيء تافه، فماذا فعل...؟ ما كان منه إلاّ أن صار يجري خلف اللص، ويقول له: وهبتُك القبعة... قل قَبلتُ. وهبتُك القبعة... قل قَبلتُ..!! واللص هارب، أطلق ساقيه للريح لا يلوي على شيء.

12 - ما أورده المنفلوطي في النظرات من قول أبي عيينة الكاتب المعروف في عهد الدولة العباسية، وكان كفيف البصر: اختلفت إلى القاضي أحمد بن أبي دؤاد أربعين عامًا فما سمعته مرة يقول لغلامه عند تشييعي، خذ بيده يا غلام، بل يقول اخرج معه يا غلام.

ومضة قلم

الإنسان لا لحمه يُؤكل ولا جلده يُلبس، فماذا فيه غير حلاوة اللسان وجمال الخلق؟فجر قريب

khalids225@hotmail.com
 

فجر قريب
مدارس الذّوق
د. خالد بن صالح المنيف

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة