Saturday  30/10/2010 Issue 13911

السبت 22 ذو القعدة 1431  العدد  13911

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

تُعَدُّ البقايا المدمَّرة من مساكن ومساجد ومدارس وقصور منتصبة مخلّفاتها في حي الطريف بالدرعية، نصباً تذكارياً شاهداً على نشأة الدولة السعودية الأولى والدعوة الإصلاحية. وهذا من أبرز مسوّغات ما أقدمت عليه منظمة الأمم المتحدة للتعليم والثقافة (اليونسكو) التي تعنى بترقية التعاون الدولي في شؤون الثقافة والتربية...

... وقد شاركت فيها الدول العربية ومعظم دول العالم، وعرفت بحسن سمعتها وشدَّة تمسُّكها بتطبيق المعايير, حينما قررت تلك المنظمة، تسجيل مدينة الدرعية في قائمة المدن التراثية العالمية.

وإنه لمن المؤسف حقاً ألاّ نجد إلاّ صدىً ضئيلاً لهذا الحدث المهم في وسائل الإعلام المختلفة، فقد بذل آل سعود كل ما في وسعهم لتأسيس دولة مستقرة موحّدة، ونشروا دعوة إصلاحية عَمَّ أثرها العالميْن العربي والإسلامي، حتى أنّ الدارس لها يقف مدهوشاً أمام النتائج التي حققتها مع أنها لم تطرح أي مطلب سياسي أو إقليمي أو قبلي، ولم تأتِ بجديد لما تدعو الناس إليه، غير أن يجعلوا الدين محور حياتهم.

ومن محاسنها أن وأدت البدع، وأمَّنت البلاد التي انتشرت فيها، ومنعت نهب الأعراب بعضهم بعضاً، وجمعت القبائل من حضرموت إلى الشام، ولم يكن طريق قادة تلك الدولة سهلاً لتحقيق غايتهم، وإنما كان مليئاً بالأهوال والصعاب فهذه الآثار المنتصبة اليوم في هذه الأرض الطيبة، كانت مساكن ومساجد ومدارس وقصور أولئك الذين حازوا الإعجاب، وخلدوا ذكراهم بعد أن مثلوا دورهم على خشبة مسرح الأحداث، ودفعوا ثمناً يضاهي سمو رسالتهم تحت قيادة زعيم معه جمع كبير من أسرته، الإمام عبد الله بن سعود، الذي أحسّ حينها أنه غير قادر على النصر فاختار الشهادة وقَدَّمَ نفسه للموت فاستحق أن يكون أول من اصطدم بسلطة متخلفة سياسياً، حتى وإن تجاهل ذلك الكثيرون، وماذا عليه أن أسر وعُذِّب وطيف به في شوارع استانبول ثم قُدِّمَ لمحاكمة صورية، حكمت عليه بالإعدام واستشهد من استشهد من أسرته في مراكز الدفاع والصمود!! أما بقية الشيوخ، والنساء، والأطفال، والأسرى من آل سعود، فقد رُحّلوا وهجّروا قسراً عبر قفار نجد، إلى مصر أولاً، ثم إلى استنابول، تحت ضغوط نفسية أصابتهم بعد تلك الكارثة وتداعياتها.

ولكن لماذا وبأيّ ذنب ؟ وعلى العالم أن يجيب عن ذلك وإلا ظل الاستفسار قائماً إلى الأبد: لِمَ دمرت تلك المدينة وشُرِّدَ أهُلها وقادتُها وقتلوا؟ وكان كل ما اقترفوه في رأي أولئك أن أنشأوا مدينة ودولة من بين الفوضى والركام، وقبلوا التحديات؛ حاملين شعلة أسلافهم من كتف إلى كتف! والغريب أن مؤرّخين موالين ومعارضين على حدٍ سواء، عزوا أسباب تلك الكارثة إلى أنه بلغ السلطان العثماني أن آل سعود قد لقبوا بالإمامة التي هي صنو الخلافة التي يقوم عليها سلطانه، فندب كبار قادته لينضم بعضهم إلى بعض لحرب السعوديين في عقر دارهم، مع أنه لم يطلق أيٌّ من الحكام السعوديين، ذلك اللقب على نفسه إبان ازدهار قيام دولتهم، كما أنّ هذا اللقب كان شائعاً في بلاد أخرى كاليمن ومسقط !! ولم يكن اللقب لديهم منذ قيام دولتهم، مما يُهتمُّ به عندهم.

وعزا آخرون أسباب تدمير هذه المدينة وهزيمتها لعدم رغبة حكامها مهادنة السلطان العثماني، والقبول بالحكم تحت رايته وقالوا: لو أن أئمة آل سعود اقتصروا في دعوتهم على بلدانهم، وتركوا الحج تحت سيادة العثمانيين في الحجاز لما اهتم العثمانيون بهم ولما قاتلوهم!!

ونحن نرفض كل الأسباب التي قدمها الموالون والمعارضون من المؤرّخين، ونرى أن ما حدث كان فصلاً أخيراً للكارثة، وأن الصدام السعودي العثماني كان لابد أن يحدث، بموجب أهداف الدعوة وطموحاتها وكانت الحرب بينهما قديمة بدأت بولاة العثمانيين الأقربين إلى نجد والأحساء، لذلك تآمر علي باشا والي بغداد على حياة الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، ثاني حكام الدولة السعودية الأولى فكان اغتياله هدفاً سياسياً للسلطة العثمانية، ولو اتبع أولئك الزعماء سياسة المهادنة، لظل البيت السعودي مجرّد عائلة حاكمة، لا قدرة لها على المساهمة في تغيير خارطة العالم العربي والإسلامي، لكن البيت السعودي بما يرتكز عليه من مبادئ ثابتة، رفض التنازل عن هدفه وتبنّى ما أشار إليه ابن بشر فجعل الفتن جهاداً والنهب غزواً والمُلكَ رسالة، إذ بقي آل سعود يجاهدون ويحكمون، ولم يبق من سلالة السلطان العثماني، محمود، ولا من ذرية محمد علي باشا، أو ابنه إبراهيم باشا، أو طوسون عينٌ تطرف.

وبقيت الآثار قائمة شاهدة على عزمهم وتصميمهم وقوة إرادتهم وصلابة إيمانهم.. فعندما تخطو خطوة واحدة وأنت في وسط ساحة قصر الحكم في الرياض، أو في أي مكان آخر موازٍ متجهاً نحو الشمال الغربي لتقطع مسافة عشرين كيلاً، تجد نفسك بالقرب من مجرى وادي حنيفة، وهو وادٍ مثلم متعرّج، تتمايل على جنباته بقاع داكنة من بساتين النخيل وشجيرات السدر والأثل، التي تختلط بها أشجار الفاكهة.

وبينما أنت مأخوذ بهذا المنظر، تشاهد في طريقك ركاماً من الحجارة فوق تلٍّ، ويدعى ذلك الموقع (رجم سعود)، كان إبراهيم باشا يطلق منه مدافعه على بلدة الدرعية لقصف قلاعها وإرغام أهلها على الاستسلام والتخلي عن مراكزهم الدفاعية.

وفي الوقت نفسه سرعان ما تشاهد حافة الوادي الغربية وتبصر أمامك (آثار الدرعية) تتربّع فوق نتوء صخري واسع، تتوجه بقايا حصون وقصور متداعية منذ عام 1234هـ (1818م)، وحول قاعدته مدرجات تشبه السهل بها بساتين ومزارع النخيل على ضفاف الوادي الذي يمر عبرها، وقد قسّمها إلى جزء شرقي وآخر غربي وقد طوّق هذا الوادي بالحجارة حتى لا تجرف مياهه تربة الأرض الخصبة، ويدعى السهل المواجه للمرتفع (حي البجيري).

أما المرتفع، فيدعى (حي الطريف) مساكن آل سعود في عهد الدولة السعودية الأولى، يحيط به سور خارجي متداعٍ، وفي الوسط محيط حي (الطريف) موطن آل سعود، وتنتصب في جلال آثار متراكمة من الحجارة، تمثل أجزاء من المباني، جدار مزخرف هنا، وعمود منتصب هناك، وحائط بلا منزل في مكان آخر يحمل كوى مثلثة مثقوبة بأشكال هندسية مختلفة، وبقايا منازل بلا أبواب.. كلها مبنية من الطين.. أما الأعمدة، فمن كتل صخرية ثبّتت بالطين والجص تتخلّلها قصور عائلة آل سعود (قصر سلوى) وهو قصر الحكم الذي يتكوّن من وحدات سكنية متصل بعضها ببعض.

شُيِّدَ هذا القصر بإتقان ومهارة يفوق نسق المباني السائدة في الدرعية آنذاك، بل في المنطقة كلها إذ زوّد بأبراج عديدة، فبدا كأنه قلعة حصينة.كما عرف بينها أيضاً قصر للأمير تركي بن سعود بن عبد العزيز بن محمد، في الناحية الشرقية من قصور حي الطريف.

وقصر آخر لثنيان بن سعود، أخو محمد ابن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى.

وقصر للأمير فرحان بن سعود الأخ الأصغر سنّاً للإمام محمد بن سعود.. كل تلك القصور والمباني، كانت أهدافاً لمدافع إبراهيم باشا حين حصاره للدرعية، حيث حوّلت إلى مراكز دفاع، وحُوِّل بعضها إلى مستودعات للتموين.

ومن القصور المعروفة التي مازال الناس يتحدثون عنها, قصر (الغيّاضي) للأمير ناصر ابن الإمام سعود، يقع على ضفة الوادي الغربي، وهو من القصور المهمة التي تم استهدافها إبان الحصار، كان وما حوله مسرحاً مميتاً عندما دارت رحى الحرب بين جيش إبراهيم باشا والأهالي.

كما توجد قصور أخرى خارج النطاق العمراني لمستعمرة الطريف الأثرية، قصر (غصيبة) الذي يُعَد معقلاً تقليدياً لأسرة آل مقرن، حيث عرف الإمام محمد بن سعود أنه شيخ (غصيبة).

وبعد أن صفا له الجو، ونعم مجتمعه بالاستقرار في عهده، نقل مقر إقامته إلى حي (الطريف) وذلك قبل قدوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية، بعد أن استولى عليه من أبناء عمومته آل وطبان.

ويظهر أن اسم الدرعية بدأ يبرز في تلك الفترة ليشير لمدلولها الواسع، بعد أن كان يطلق على (غصيبة والمليبيد) أو (غصيبة) و(الطريف) معاً !! ومما ينبغي أن أذكره هنا أن الإمام سعود بن عبد العزيز، شيَّدَ قصراً عظيماً خارج الطريف، في معقلهم الأول (غصيبة).

ويذكر ابن بشر أن الإمام سعوداً حرص على تحصين ذلك القصر الجديد، فجعل له باباً من الحديد، وذكر الرحّالة مانجان أن ذلك القصر هو أكبر قصور الدرعية قوة ومناعة، لأنه يقع على مرتفع مهم.. وبناه الإمام سعود إبان ازدهار حكمه، وهو غير مسكنه في الطريف.

وتعدُّ قصور آل سعود في الطريف، وما يحيط بها من قلاع ؛ شاهداً تاريخياً خالداً، لدولة الأسلاف ودعوتهم الإصلاحية، التي عَمَّ أثرها في العالميْن (العربي والإسلامي).

وما تزال تلك الآثار تنتصب كتلاً وطاقة في تلك الأرض (قصور ومساجد وميادين وطرق) شهدت حياة قومٍ عمالقة، أدّوا دورهم، ثم مضوا بعد أن دوّنوا أسماءهم بوضوح في ملحمة رائعة، تزدان فصولها بالكثير من حقائق التاريخ ورسوخه!!

 

آثار الدرعية معلمٌ تاريخيٌ لنشأةِ دولة وتأييدِ دعوة
عبد الرحمن بن سليمان الرويشد

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة