Friday  05/11/2010 Issue 13917

الجمعة 28 ذو القعدة 1431  العدد  13917

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

 

شعار وضّاح
قصة قصيرة
صالح الصقعبي

رجوع

 

كانت سعادته غامرة وهو يخطو خطواته الأولى في هذا المصنع قبل أكثر من عشرين عاماً كلمة واحدة أخذ يرددها وضاح الباين من لحظة تسلمه خطاب التعيين في مصنع الأجهزة الطبية على كل من يقابله ويحاول الانتقاص من فرحته إما لقلة المرتب أو لصغر المنصب خاصة وهو جامعي وكان وضاح يرد بكل قناعة يكفي أنني سأعمل في مصنع هو الأول من نوعه في العالم وأختلط بعقول ذات علم وخبرة قال هذه العبارة آخر مرة بقناعة تامة وهو يترجل من سيارته في أول يوم عمل ليرى أفخم أنواع السيارات بأحدث موديلاتها تتجاور بتنسيق في الموقف المخصص لكبار موظفي المصنع بعدما تخلص من سيارته المتهالكه خارج المبنى حاول وضاح اختبار معلوماته في عالم السيارات وأنواعها وهو يتفحص أفخمها لم يتعرف سوى على القليل منها أطلق صرخة في الفضاء كما تعود في كل مرة تداهمه (نوبة الشفافية) كما يسميها.. .

قال كم الراتب قال...

يا عم شف وجه العنز واحلب لبن، آخر موديلات شفها صافة تقول بيالات.

واصل وضاح الباين رسم بقية معالم الصورة لهذا الصرح العلمي الهام ليتوقف عند سؤال ترى هل سأجيد التعامل مع هؤلاء العلماء..؟

ردد بقناعة تامة سأحاول، سأبذل جهدي كي أكون جديراً بمعرفة هذه الصفوة من العلماء والعيش معهم.

أفاق وضاح من شريط ذكرياته على صوت فليح المنتفش مدير مكتب المدير العام للمصنع وهو يؤكد عليه للمرة العاشرة بقوله :» اسمع يا وضاح لا تخلق لنا مشاكل مع سعادة المهندس قني المخندر. أنت تعرفه إذا زعل «.

رد وضاح بحدة اكتسبها مؤخراً: « إلا أريد أن سألك يا المنتفش إذا كان سعادة المهندس المخندر جلس أسبوعا مترددا في اختيار شعار لمناسبة روتينية رغم كثرة شعاراتنا وقلة بركتهن. ترى كم من الوقت يحتاج لإقرار زيادة أو نقص الإنتاج في إحدى الخطوط بالمصنع؟».

تلقى فليح المنتفش السؤال بتجهم واضح بعد ما كلت يديه وهو يشير لوضاح بأن يخفض صوته، ورد بذكاء مصطنع «أنت مستغنٍ عن عيالك ياا وضاح لا أحد يسمعك تسأل مثل هذه الأسئلة فما أهلك من كان قبلك سوى هذه الأسئلة المغرضة.

انصرف وضاح ليردف المنتفش بصوت مسموع « أشوفها طالت وشمخت يالباين!! «.

لم يكن هذا التحذير رادعاً كافياً لوضاح للابتعاد عن دوائر الشك والمقارنة ومحاولة فهم واقعه الذي يطال حتى قوت أبنائه، كما هدد بذلك فليح المنتفش بل العكس من هذا فلقد تحولت تلك العبارات التهديدية إلى محفز فعال لتوليد الأسئلة داخل نفس وعقل وضاح الذي لم ينتظر طويلاً فخلال عودته لمكتبه كان مطأطأ الرأس ويعبر بجسمه النحيل ممرات المصنع برشاقة وخفة إلا أن رأسه أخذ يزدحم بالأسئلة المطالبة بالإجابة خاصة وهو الذي أمضى زهرة شبابه في هذا المصنع حتى قبل أن يكلف المهندس الشهير ربيع الفاصل بإدارة هذا المصنع. نعم قالها بحرقه «حتى سيارة المخندر لم تكن ضمن سيارات كبار المسؤولين عندما دخلت هذا المصنع لأول مرة كان مهندس مغموراً سنيناً عديدة بدأ نجمه يلمع في عهد خاله ربيع الفاصل، وقف وضاح فجأه في وسط الممر، أخذ يقلب بصره في كل الاتجاهات دون مبرر وطرح على نفسه سؤالاً جعله يصارع طيلة يومه الحيرة والقلق حتى أنه لم يستطع إكمال طريقه للمكتب فاتصل بمحموله على سكرتيره وأبلغه بأنه يشعر بالتعب وعليه أن يؤجل بقية الأعمال إلى الغد.

حاول أن يطرد تلك الصور المستفزة التي بدأت تحجب الرؤية عنه وهو في طريقه للمنزل وجد في أبنائه مخرجاً مثالياً من تلك الدائرة اللزجه التي وقع بها أخذ يمازحهم ريثما يتم إعداد الطعام، ولكن فجأه دون سابق إنذار قال لزوجته أثناء تناول الطعام:» يا مزنة وش رايك لو كانت أمي أخت المهندس ربيع الفاصل؟ ما أكون أنا بمكان المهندس قني المخندر. ردت مزنة باستهتار واضح : «يا خلاف وش جاب واحد معه شهادة تاريخ وبتقدير مقبول مثل مهندس تعب وسهر وتغرب أقول لا تحلم كثيراً يا وضاح؟

توقف عن الأكل فجأة وأصدر تنهيدة قوية وقال :» بلاك والله ما تدرين يامزنة!!. ردت بانفعال واضح:» هذي عادتكم يا الرجال تظنون أن المعرفة والفهم لكم بس.! وراي ما أدري مالي راس وعيون ومتعلمة ولله الحمد، معي ثانوي وإلا نسيت؟

رد بتودد لا ما نسيت. ولكن أقصد الأشياء المخفية هي اللي تؤثر على القرار وليس الشهادة والكفاءة والاستطاعة..

شعرت مزنة بأهمية الموضوع ونظرت لوضاح وبين شفتيها سؤال عريض تتسابق حروفه للخروج من فمها فيخرج السؤال مختلطاً بحبيبات الأرز قصدك أن المخندر عين مدير عشان الفاصل خاله. ؟!

أجاب بحرقه:»هذا قصدي وهذي شهادته الفعلية».

ذابت مزنة مع ذاتها في لحظة تأمل وأخذت عيناها تبعث بريقاً غريباً ينم عن دهاء فطري وقالت بلغة واثقة:» خير ياطير ضاعت ولقيناها يا وضاح. بدال ما تغير أمك وإلا أبوك وتعيد تشكيلهم من جديد فكر بذكاء ينفعك وينفع عيالك يا حبيبي».

برقت عيناه هو الآخر طالباً من مزنة إيضاح فكرتها فواصلت أقصد يا عيوني خلك ذكي أخوك الحمدلله مهندس وشاب وسوف يتزوج في يوم من الأيام دور له وحده يكون عمها وإلا خالها مخندر أو فاصل وبهذه الطريقة ما تحتاج تغير أمك يا حبيبي.

ببراءة طفولية علق وضاح على هذه الفكرة» ساعتها أفرض الشعار اللي أبي ويكمش المنتفش ويصير أرنب. أحست مزنة بحلاوة النصر فأكملت لا يا زوجي الحبيب ساعتها تبدأ تآمر وتنهى واللي حولك عليهم الطاعة وليش ولدنا ما ينقصه شي فحل ولد فحل، وإن شاء الله بعد تسعة أشهر من العرس يرزقه الله بولد يصير خواله مهندسين ورزة والا.. لا... يا وضاح وتصير عم المهندس.

لم يلتفت لبقية تصورات مزنة متعللاً بتعبه وحاجته للنوم، حاول أن ينام أخذ يستبدل المخاد ظناً منه أنها غير مريحة رغم هذا لم يستطع النوم ليردد بحرقة» ما أبشع أن تجبر على تغيير جلدك وقناعاتك هل كنت طيلة عشرين عاماً جاهلاً بمفردات الحياة وأنا أخوض معاركها اليومية بنزاهة وشرف ألم أكن محقاً بالاقتران بمزنة لكون خالها رجل طيب مضيافا محباً للصدق ويعمل نجاراً أما عمها فإنه هو الآخر مكرماً للغريب قبل القريب ويعمل جزاراً لقد نالت قصداً من التعليم لابأس به يؤهلها لأن تكون أماً وسيدة منزل على أفضل ما تكون الأم أينقص من قدر مزنة لدي رصيد خالها أو والدها رحمه الله في البنك.. ؟!

أي مهندس غبي ذاك الذي يبني الثابت على المتحرك، أخذ نفساً عميقاً وقال:»نعم وألف نعم إن المبادئ والمثل ووضع الأشياء في مواضعها إن كان متعذراً تصوره في هذا المصنع المبتلى بالمتردية والنطيحة وما أكل السبع بكل تأكيد لن تتجمد الصورة على هذا النحو لكونها بطبيعتها متحركة وهذا يؤكد أن الأحاسيس الجميلة والمشاعر الصادقة لا يمكن بأي حال من الأحوال تشييدها وتصور ديمومتها وهي ترتكز على المصالح الآنية والأنانية أحياناً، هنا نهض وضاح من فراشه واتجه للشرفة المطلة على فناء فلته المتواضعة التي تبقى من أقساطها الشهرية نحو عشر سنين خلاف الخمسة عشرة سنة الماضية وهذا الالتزام الشهري المزعج أحد القيود المسيطرة على مجرى حياته العملية.

كانت مزنة تمارس دورها السيادي على الخادمة عبر العديد من المهام التي يجب إنجازها قبل أن تصحو من قيلولتها صاح بها وضاح:»يا مزنة.. يا مزنة... ردت بصوت خافت: «عسى ما شر فضحتنا عند الجيران»! قال بصوت جازم وقاطع «ما هو ابن باين اللي يبني بيته حسب توجه عاصفة المصالح.! لا يا مزنة. حتى لو طلبوا أن أغير لهم كل يوم شعار الثابت باقي يا مزنة والمتحرك زائل زائل....»

 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة