Saturday  13/11/2010 Issue 13925

السبت 07 ذو الحجة 1431  العدد  13925

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

قبل خمسين سنة غادرت قريتي وعمري لم يتجاوز السادسة عشرة سنة على إثر حصولي على الشهادة الابتدائية في نهاية عام 1959م - 1379هـ ولا أذكر أني قرأت كتاباً مطبوعاً خارج المقررات الدراسية التي كنت أشترك أنا وزميل آخر في بعضها لعدم توفر مقررات لكل طالب؛ عدا كتاب رياض الصالحين الموجود منه نسخة في أحد مجالس بيوت خالي الشيخ حسين - رحمه الله - الذي كان بيته الكبير يضم كثيراً من الكتب الدينية التي كان يشتريها إذا ذهب إلى مكة، أو تهدى إليه من قبل أصدقائه من المشايخ والقضاة الذين لا ينقطعون عن زيارته -رحمه الله-. كنت أعجب بشكلها وجدتها ونصاعة طباعتها، وهي مصفوفة بالقرب من المكان المخصص لجلوسه. وكان -رحمه الله- قارئاً نهماً كون ثقافة دينية عالية. كنت أرى أن ذلك الرجل الحاكم الحكيم الفقيه الورع الزاهد صاحب الشخصية الوقورة المهابة المحب للقراءة بشكل منقطع النظير ينطبق عليه قول الشاعر: وخير جليس في الزمان كتاب وهو سر سعة ثقافته. وكنت أستغرب أنه لا يعرف الكتابة ولم أرَ له سطراً مكتوباً قط، وكان له كاتب يكتب له رسائله إلى الحكام، وإلى المشايخ، وإلى أصدقائه، ويكتب الأحكام والاتفاقيات التي كان يملي نصوص أحكامها التي كان يصدرها للخصوم من أبناء قبائله؛ وكان يقرأ كل أنواع المراسلات التي ترد إليه مع مختلف خطوطها الحديث منها والقديم. وعندما كبر أولاده وأبناء أخته -وأنا أحدهم- كنا من ضمن كتبة رسائله.

كانت المرة الأولى التي رأيت فيها مجلة كانت تلك المجلة الممزقة من أطرافها والفاقدة لغلافها رمى بها أحد الأشخاص (1) على الطريق الواصل بين مدرستي ومنزلي فالتقطتها، ورأيت بها صوراً لأشخاص لأول مرة، منها صورة لفريد الأطرش وأخته أسمهان، وقصة وصولهما إلى مصر من بلاد الشام. كنت أتسلى بقراءة تلك القصة، والعوالم المجهولة في مسرح أحداث تلك القصة التي يصعب تصور موقعها، كنت أخفيها لكي لا يطلع عليها أحد فيعتقد أنها نوع من أنواع السحر، وأن الصور صور للشياطين.

أما الجريدة فرأيتها لأول مرة في أواخر عام 1379هـ-1959م.، وذلك في مدينة أبها عندما ذهبت مع بعض زملاء دفعتي المتخرجين من مدرسة أحد رفيدة الابتدائية لاستلام شهادات التخرج، حينما استضافنا في بيته أستاذنا الفاضل حسين بن أحمد جابر، فرأيت أعداداً من الصحف، أذكر منها البلاد والندوة، فعجبت من هذه الصفحات الطويلة المتعددة، وما تحمله من أخبار وصور للشخصيات الكبيرة وعلى رأسهم الملك سعود وسمو وزير المعارف الأمير فهد بن عبدالعزيز -رحمهما الله- في أشكال متعددة غير تلك الصور التي نراها لهما على بعض الدفاتر المدرسية. ظل في ذاكرتي مما قرأته في صحيفة البلاد إعلان عن وظائف شاغرة في مصنع للكندادراي على طريق الجامعة في الرياض، ورأيت صورة مشروب الكندادراي الذي لم نره ولم نتصور طعمه، حزنت فعلاً لحالنا -نحن أبناء القرى- ما ذنبنا لكي نكون منقطعين عن العالم، عن المدينة، عن المعرفة، عن وسائل المعرفة مثل الجرائد والمجلات والكتب، ونطل من خلالها على عالم المدينة. الشاهد في ذكر إعلان الكندادراي أنني بعد حوالي ستة أشهر أو أكثر بعد تجربة ثلاثة أشهر من الدراسة في متوسطة أبها، وقد كانت المتوسطة الوحيدة في المنطقة لم تعجبني الظروف للاستمرار في أبها، فعزمت على شد الرحال إلى الرياض، حيث تعد هذه المرحلة نقلة نوعية أولى في حياتي. وبانتقالي إلى الرياض كان الفصل الدراسي يشارف على الانتصاف، مما جعلني بقية ذلك العام أبقى بدون دراسة نهارية منتظمة، فالتحقت بفصل ليلي تابع لمدرسة تتبع لوزارة الدفاع طالباً مستمعاً غير منتظم وغير محسوب لي دراسياً، فأصبحت أشكو من وطأة الفراغ طوال النهار. وبما أن سكني كان مع أخي في منطقة الملز، ولمحت أثناء ذهابي شبه اليومي إلى البطحاء وهي مركز الرياض حينذاك مبنى مصنع الكندادراي فتوقفت عنده ودخلت أسأل عن وظيفة شاغرة قرأت عنها قبل أكثر من ستة أشهر في صحيفة البلاد - التي أصبحت منذ وصولي إلى الرياض صحيفتي المفضلة للقراءة كلما سنحت لي فرصة الحصول عليها - فكان سؤالي هذا مكان ما يشبه السخرية والاستهزاء من المسؤول عن التوظيف وهو من لبنان الشقيق على ما أذكر.

بحثت عن عمل في أكثر من مكان فلم أجد أولاً لصغر سني فلم يكن لدي سوى شهادة ميلاد حصلت عليها من إدارة جوازات الرياض، أمام وطأة الشعور بالبطالة أراد أخي -رحمه الله- أن يخفف عني هذا الشعور فخصص لي ريالاً مصروفاً يومياً، وهو ما يعادل ثلث مرتبه الشهري، فقد كان يعمل -رحمه الله- كاتباً براتب جندي في المنطقة السابعة بالملز، وكان الملز حينذاك أرقى أحياء مدينة الرياض.

كنت أذهب يومياً من الملز إلى البطحاء أوزع مصروفي كالتالي ربع ريال أجرة التاكسي من الملز إلى البطحاء، وربع ريال أشتري به كتاباً، وأحياناً كتابين أو مجلة من الكتب والمجلات القديمة المعروضة للبيع على رصيف الطريق في البطحاء، وربع ريال أشتري به براد شاهي من أحد المقاهي التي كانت تقع بين البطحاء وشارع الوزير. أشغل وقتي في المقهى في قراءة الكتاب أو المجلة القديمة التي أشتريها من على الرصيف بأسعار قليلة لا تتجاوز القروش والربع الريال الباقي أجرة تاكسي العودة إلى الملز. كنت أكتفي بوجبتين في اليوم هما الفطور والعشاء.

استمررت على هذا الحال عدة شهور، تمكنت في خلالها من رفع مستوى ثقافتي ولم أعد مشغولاً بشيء سوى القراءة والقراءة المتنوعة بتنوع ما أقتنيه من كتب ومجلات، وهي كتب ومجلات متنوعة منها ما هو في الأدب، ومنها ما هو في السياسة، ومنها ما هو في التاريخ والسير والروايات، وفيها المجلات القديمة أما الحديثة فلم تكن ميزانيتي تمكنني من شرائها. قابلت اثنين من الضباط يعمل أخي معهما في شرطة الملز وهما يحملان رتبة ملازم ثان أو أول لا أتذكر بالضبط الأول الملازم منصور العيدان الذي أصبح فيما بعد مديراً لشرطة الرياض والآخر هو الملازم عبدالله بن معيض القحطاني الذي تقلد مناصب عديدة؛ مدير شرطة القصيم ثم شرطة الطائف ومناطق أخرى. كنت أناقش معهما كثيراً من القضايا. أسعفني في المناقشة مع رجلين يكبراني تلك الحصيلة المبكرة من قراءتي، ورغبة منهما في تشجيعي كانا يعطياني ما قرآه من صحف ومجلات، ودخل عامل آخر في إثراء ثقافتي وهو الاستماع إلى المذياع إلى وقت متأخر من الليل مع العم سليم العمري -رحمه الله- وكان رجلاً في حوالي الستين من عمره على خلق عال يعمل قهوجياً عند الضابطين المذكورين، وكان مكان احترام الجميع. والجميل في هذا الرجل أنه من أبطال الجيش السعودي الذين حاربوا في فلسطين برتبة صف ضابط، ويحمل ذكريات ومعلومات كثيرة عن حرب فلسطين، وعن الرجال من القادة والجنود الذي زاملهم في ميادين المعارك، وكان يحنو عليّ لصغر سني ويعاملني كابنه، وكان زميل أخي في السكن. لن أنسى وقفات ذلك الرجل وحرصه علي، وانبساطه حين يرى مناقشاتي مع الضابطين المتميزين العيدان والقحطاني اللذين يزورانه كثيراً في شقته مقر مسكننا في نفس الدائرة الذي بني على انقاضه الآن مستشفى الأمن العام. أما الأخوان العيدان والقحطاني فقد استمرت صلاتي وصداقتي بهما إلى حين وصلا إلى مراتب ألوية وإلى حين تقاعد العيدان ووفاة القحطاني -رحمه الله- . في هذه المرحلة التي لم تتجاوز السنة كونت أول مجموعة من مكتبتي، ثم كانت النقلة الثانية في حياتي وحياة تكوين مكتبتي حينما انتقلت من الرياض إلى المنطقة الشرقية؛ وهذه قصة يطول الحديث عنها، وستحتل مساحة كبيرة من مسيرة حياتي، التي أنا مشغول بكتابتها الآن.

هناك في المنطقة الشرقية لم يكن لي كثير من الأصدقاء نظراً لوصولي حديثاً إلى هناك، ولكن صداقتي مع الكتاب تعمقت. ومن خلال محبتي للكتاب عرفت بعض الأصدقاء ومنهم بعض عمال أرامكو من زهران ومن حائل ومن غيرهما من المناطق حيث كنت أسكن في وسط مساكن العمال في كامب العمال السعوديين في الظهران، حيث استأجرت غرفة عامل تأهل فسكن مع أسرته في الدمام، فجاورت شباباً كانوا يعملون بجد في أرامكو ومحبين للقراءة، وكانوا يحضرون بعض الكتب فكانوا يعيرونني مايستعيرونه من مكتبة أرامكو التي لا يمكنني الاستعارة منها ولا حتى الدخول إليها أي مكتبة أرامكو وكانت تعد من أكبر المكتبات على مستوى المملكة بعد أكثر من خمسة عشرة سنة فيما بعد جئت إلى مكتبة أرامكو باحثاً. أثناء تحضيري لدرجة الماجستير وكان مصادر تكويني الثقافي سنواتي الأولى في المنطقة الشرقية إلى جانب الكتاب مجلة أرامكو قافلة الزيت، وتلفزيون أرامكو الذي هو أول تلفزيون في منطقة الخليج، وسينما أرامكو التي كانت تعرض الأفلام أكثر من مرة في الأسبوع في مساكن عمال الطبقة المتوسطة الذي يقع بين مساكن كبار العمال وبين مساكن العمال العاديين، وكان هؤلاء الإخوة وزملاء لهم آخرون ضمن عمال الدرجة الوسطى والذين أصبح البعض منهم أصدقاء لي يستضيفونني لدخول السينما ودخول المطاعم الأكثر رقياً.

كنت أذهب إلى الخبر أكثر من مرة في الأسبوع قبل أن أنتقل للسكن فيها والدراسة في متوسطتها، وكان لا يمر أسبوع دون أن أمر على أكثر من مكتبة في الخبر، ولم تكن المكتبات بها كثيرة، منها مكتبة متخصصة لبيع الكتب الأجنبية، وبدأت في تكوين مكتبة متواضعة خاصة بي؛ أذكر أنه في عام 1962م اشتريت رواية إحسان عبدالقدوس في بيتنا رجل، وهي رواية تزيد عن ألف صفحة، وكنت اشتريتها في مطلع رمضان وكانت أحداثها تدور في شهر رمضان. أذكر أنني قرأتها في أقل من ثلاث ليال ومازالت نسخة تلك الرواية ضمن محتويات مكتبتي وقرأها بعد ذلك ابناي وابنتيَّ.

بعد أكثر من أربع سنوات جميلة من العمل والدراسة والتكوين الذاتي في المنطقة الشرقية.قرأت خلال تلك المرحلة كثيراً من الكتب، واقتنيت عديداً منها، وكان من ضمنها كتاب متميز أثر فيّ كثيراً ذلك الكتاب له علاقة بالتكوين الذاتي ما دامت وردت الإشارة إلى التكوين الذاتي وعنوانه قريب من ذلك عنوانه: التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا. لمؤلفه سلامة موسى النسخة التي اشتريتها هي الطبعة السادسة عام 1964م. وما زال لذلك الكتاب مكانة متميزة في مكتبتي، وأتمنى أن يقرأه كل شاب وشابة من أبناء هذه الجيل فكأنه قد أُلف لهم وما يواجهونه من تحديات الجهالة.

العودة إلى الرياض

في الرياض كانت المرحلة الثالثة كما كانت المرحلة الانتقالية المهمة الأولى. هذه المرحلة هي مرحلة العمل الجاد من أجل تحقيق الطموحات والآمال التي رسمت خطوطها منذ المرحلة الأولى المبكرة للشباب، اتضحت معالم الخطوط المرسومة لها خلال سنوات المنطقة الشرقية. ففي الرياض أنهيت دراستي الثانوية واتضحت بجلاء معالم الطريق إلى الجامعة وبالتحديد جامعة الملك سعود التي كنت أرى الوصول إليها حلماً حينما كنت أمر على أولى كلياتها كلية الآداب في الملز أحياناً أكثر من مرة في اليوم أثناء سنواتي الأولى بالرياض وهي مازالت في سنتها الثالثة من ولادتها وأنا مازلت قروياً حديث عهد بالمدينة فخوراً بحصولي على الشهادة الابتدائية ولكن طموحي أكبر من سني، وأحلامي أكبر من شهادتي. كنت أقول لنفسي المحملة بثقل كبير من الطموح هو أقرب إلى الأحلام كلما مررت بكلية الآداب مهما طالت الأيام، ومهما واجهني من ظروف، ومهما شطحت بي الأحلام سيكون لي يوماً بك مقعد.

عملت وسهرت وتعبت، وأتعبتني أحلامي في الوصول إلى الهدف. سكنت في غرفة صغيرة في أحد فنادق البطحاء المتواضعة، وكانت كتبي أصدقائي ورفقاء دربي. تزوجت وأنا على أبواب دخولي الجامعة. الحلم الطويل بدأ يتحقق ويتحول إلى حقيقة. سكنت ورفيقة دربي في أهم مراحل ومحطات حياتي في بيت صغير مجلس وغرفة ومطبخ، كانت كتبي تحتل أهم مساحة منه. شاركتني رفيقة دربي طموحي، بل فاقتني في التضحية حينما آثرت أن تصطحب طفلنا الأول الذي أحببناه كثيراً وحملها الجديد وتعود إلى القرية لكي تمنحني فرصة تحقيق الحلم من خلال التفرغ للسنة النهائية في الجامعة لكي أحصل على المعدل الذي يؤهلني للعمل معيداً وأخلينا البيت الصغير الذي كان ينهكنا إيجاره وعدت إلى غرفتي القديمة في فندق النصر بالبطحاء. وبعد ذلك واصلت الليل بالنهار فتحقق الحلم ونجحت بالمعدل المطلوب للعمل معيداً، وبلغ الخبر رفيقة العمر ليلة ولادتها بابنتنا الأولى فسمتها نجاح تيمناً بهذه المناسبة. أما كتبي التي لا تتسع لها غرفتي في فندق النصر فقد أودعت أكثرها في غرفة فوق سطوح بيت أخي -رحمه الله-.

تعد سنوات الجامعة الأربع من أعز سنوات هذه المرحلة، فقد انفتحت أمامي عوالم مختلفة أثرت حياتي الثقافية والمعرفية. حينما كانت الجامعة تعج بكثير من الكفاءات العربية من جميع البلدان العربية، وكذلك غير العربية. كما شهدت عودة البواكير الأولى من الأكاديميين السعوديين الذين كنا نرى فيهم القدوة والأمل، والتطلع إلى مستقبل سيكون لنا -نحن طلاب تلك المرحلة- فيه دور فاعل نسير فيه على خطى أولئك الطلائع من الأكاديميين السعوديين كما كانت الجامعة خلال تلك السنوات تستقطب أساتذة زائرين منهم بعض المستشرقين فتوسعت دوائر الاحتكاك الثقافي والفكري، وزادت الرغبة في اقتناء الكتب في مختلف المجالات؛ وفتحت مكتبة داخل مبنى كلية الآداب، فأصبحت تغص بالباحثين والقراء، وكان بهو مبنى الكلية يشهد حلقات مناقشات فكرية بين طلاب مختلف الأقسام ونتبادل من خلالها أخبار أحدث الكتب.

انخرطت خلال هذه الفترة في التركيز بقوة على قراءة كتب التاريخ، خاصة الفترة الحديثة والمعاصرة، فاخترت منذ البداية مسار تخصصي، وذلك حيث تكمن رغبتي ووجدت ضالتي فيما اقتنته مكتبة الجامعة من كتب حديثه، وما قامت بشرائه من مكتبات خاصة خاصة مكتبة سليمان الصنيع أحد علماء الحجاز وأحد رجال التعليم في المملكة الذي ترك مكتبة رائعة زاخرة بالكتب التاريخية عن الجزيرة العربية، خاصة تاريخها الحديث. وممن ساعدني على معرفة الكتب النادرة ضمن مكتبة هذا العالم الزميلان الدكتور يحيى بن جنيد (الساعاتي)، والدكتور عبدالله بن سالم القحطاني اللذان كانا يعملان معيديين بقسم المكتبات قبل نشأته وهما من قاما بنقل مكتبة الشيخ الصنيع من مكة إلى الرياض، وحدثاني كثيراً عنها وعن محتوياتها ليس في مجال الكتب فحسب، بل في الجانب الوثائقي فقد كان الشيخ الصنيع على علاقات كبيرة مع معظم علماء عصره، وقد ترك -حسب رواية الزميلان- ثروة وثائقية مهمة لم يولا هذا الجانب من الاهتمام، فقد كان اهتمامهما منصباً على محتويات المكتبة من الكتب. سألت فيما بعد عن مصير وثائق مكتبة الصنيع حينما تحول اهتمامي إلى معرفة مصادر تاريخ الجزيرة العربية غير المكتشف أو غير الموظف في كتابة التاريخ والخروج من نمطية تكرار ما تقوله المراجع المعروفة التي تكرر نفس المعلومة مع بعض الاختلافات البسيطة التي لا تشبع نهم الباحث التاريخي. فلم أجد إلى الآن جواباً عن مصير وثائق مكتبة الصنيع ربما ضاعت في زحمة ضياع كثير من مصادر بلادنا الوثائقية.

يبدو أن الشيخ الصنيع اشتغل فترة مسؤولاً عن شراء الكتب، ومراقبتها، فكان يبقي ما كان يرى عدم إجازته من الكتب ضمن محتويات مكتبته، وخاصة ما يتعلق بكتب التاريخ الحديث المؤلف منها والمترجم، وهذا ما تمكنت من الاطلاع على بعض منها في مكتبة الجامعة المركزية بواسطة الزميلين الساعاتي والقحطاني والانكباب على دراستها لساعات طويلة داخل المكتبة. توسعت معلوماتي عن التاريخ الحديث والمعاصر أدخلني في إشكاليات مع بعض أساتذتي الذين يعتمدون على تدريس طلابهم ما يكتبونه من مذكرات في صفحات محدودة ملخصة في عدد محدود من المراجع تخلو -في كثير من الأحيان- من الإشارة إلى المصادر المهمة. حيث كان يتهمني البعض منهم بالخروج عن النص المدون في مذكراته المقتضبة في أوقات الامتحانات.

كان اكتشاف محتويات مكتبة الشيخ الصنيع في السنة الأخيرة من دراستي في قسم التاريخ، سنة الحسم التي أشرت إليها في الحديث عن عودة أحب الناس إلى قلبي زوجتي وابني إلى القرية وانقطاعي في غرفة في فندق النصر في البطحاء. كان لدي اهتمام بما كتبه المستشرقون والرحالة الأجانب عن بلادنا يعود إلى عام 1968م وأنا مازلت في السنة الثانية الثانوية، عندما قرأت في مجلة الحوادث البيروتية، وكانت أشهر المجلات العربية حينذاك؛ دراسة تحليلية لكتاب أصدرته المستشرقة الفرنسية جاكلين بيرن بعنوان: (اكتشاف الجزيرة العربية) ترجمة: قدري قلعجي. وقدم له الشيخ حمد الجاسر. أوردت المؤلفة قصة المغامرين والرحالة الأجانب الذين جابوا الجزيرة العربية ومن ضمنهم الرحالة الفرنسي الشاب موريس تاميزييه الذي يعد أول من كتب عن رحلة إلى عسير مرافقاً لإحدى حملات محمد علي باشا العسكرية على هذا الجزء من بلادنا. شدني هذا الكتاب، وشدتني قصة مغامرة هذا الشاب. بحثت في كل مكتبات الرياض عن هذا الكتاب فلم أجده، ولم تكن لي معرفة بالشيخ حمد الجاسر حينذاك لأسأله وقيل لي إن إقامته الدائمة حينذاك في بيروت. سافر صديقي النقيب محمد عبدالرحمن الشهري -العميد الركن المتقاعد حالياً- إلى بيروت فطلبت منه أن يحضر لي نسخة من هذا الكتاب، وفعلاً أحضر الكتاب. كنت سعيداً جداً بالحصول عليه وقرأته مراراً وقرأه معي أكثر من مائة شخص أو يزيدون، خاصة معارفي من أبناء منطقة عسير، وظلت في نفسي التواقة رغبة الحصول على كتاب رحلة موريس التي كتبها مفصلة عن عسير. قراءتي لمحتويات مكتبة الصنيع فيما بعد وما تضمه من كتب مترجمة عن الرحالة عمقت شغفي بهذه النوع من مصادر المعرفة وجعلني طوال سنوات البعثة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وخلال سنوات رحلاتي العلمية إلى كثير من البلدان والمدن في أنحاء كثيرة من العالم لا أحضر ببلد، ولا أرتاد مكتبة، ولا أحضر ندوة أو مؤتمراً أو حضور معارض الكتب النادرة إلا وكتب الرحالة وما كتب عنهم من خلال المتخصصين أحد اهتماماتي الكبيرة ومكتبتي نتيجة لهذا الاهتمام تضم معظم ما كتبه هؤلاء الرحالة عن الجزيرة العربية وعالمنا العربي والإسلامي أو ما كتب عنهم.

في الأيام الأولى من التحاقي بجامعة كانساس ذهبت إلى مكتبة الجامعة، وبحثت عن كتاب رحلة موريس تاميزييه إلى عسير فلم أجده، مع أن مكتبة الجامعة ضخمة جداً، وخدماتها متقدمة. أبلغتني إحدى المسؤولات في المكتبة قائلة: سنبحث لك عن هذا الكتاب في مكتبات الجامعات الأخرى عن طريق نظام الاستعارة، وبعد أسابيع تم الاتصال بي من قبل تلك المسؤولة تخبرني بأنه تم العثور على الكتاب ضمن المطبوعات النادرة في إحدى المكتبات المتخصصة، ويمكنك الاطلاع عليه أو حتى تصويره، وهذا ما تم. وعلى هذه النسخة اعتمدت في ترجمته إلى اللغة العربية وهي الترجمة التي لاقت استحساناً وقبولاً كبيرين من قبل الباحثين وحتى القارئ العادي. بعد عدة سنوات أعيدت طباعة الكتاب في فينا بالنمسا؛ وتوجد في مكتبتي النسخة المصورة عن الطبعة الأولى عام 1840م والنسخة المطبوعة في فينا عام 1976م، واعتبره من الكتب المحببة إلى نفسي.

وفي جامعة كانساس بدأت في تكوين الجانب الأجنبي في مكتبتي؛ فقد كان أستاذ كل مادة درستها في تاريخ الشرق الأوسط القديم والوسيط والحديث والمعاصر يقرر خمسة كتب لكل مادة منها الإجباري ومنها الاختياري. وكذلك الحال في بقية المواد التي درستها مثل تاريخ أوروبا الحديث والمعاصر، وتاريخ الولايات المتحدة، وتاريخ الدبلوماسية الأمريكية، وتاريخ شمال إفريقيا وتاريخ دول الساحل الإفريقي، وغير ذلك من المواد التي درستها إجبارية أو أخذتها اختيارية، كون المنهج الدراسي في الجامعات الأمريكية يمنح الطالب حرية مطلقة في دراسة أية مادة يرغب في دراستها وفي أي قسم أو كلية. كنت أحرص على شراء كل الكتب المقررة، إضافة إلى أنه يوجد بمركز الجامعة أكثر من مكتبة أو مركز لبيع الكتب، وكانت هذه المكتبات هي مكاني المفضل للتسوق.

بعد الانتهاء من مرحلة الماجستير في جامعة كانساس واجهت مشكلة شحن كتبي، وبذلت كثيراً من المال والجهد في سبيل شحنها فلم يكن يوجد في نظام الابتعاث بدل شحن. إضافة إلى ما أشرت إليه من الكتب المقررة وتلك غير المقررة، وما أهداه إلي أساتذتي وأستاذاتي من كتب بمناسبة حصولي على الماجستير وفي مناسبات أخرى. كنت قد قمت برحلات علمية إلى كل من بريطانيا وتركيا ومصر بحثاً عن مصادر إعداد رسالة الماجستير، فكانت حصيلة تلك الرحلات اقتناء كثير من الكتب والوثائق والمخطوطات. وهذه المصادر أصبحت من أغنى ممتلكاتي جمعتها بمشقة فائقة، وصنتها كما أصون أولادي، وحملتها بحب إلى كل مكان يحط بي فيه الرحال، وكان الحلم أن تحط بها الرحال في محطة نهائية وهي المحطة الحلم الذي يراودني منذ عقود من الزمن في محافظتي محافظة أحد رفيدة البالغ عدد سكانها ما يتجاوز المائة وثلاثين ألفاً وليس بها مكتبة عامة ولا خاصة. وكان الحلم أن تكون قريتي قرية المراغة الموقع المتوسط لقرى ومدن محافظتي مقراً لهذه المكتبة والحمد لله تحقق الحلم بعد خمسين سنة من لحظة اندهاش طفل في سنته الرابعة الابتدائية حين عثوره على مجلة ممزقة في بعض أطرافها على قارعة الطريق، فأحدثت فيه الدهشة الأولى بأن في العالم مجلات وجرائد وكتباً ومخطوطات ووثائق، ولكن الجهل والجهالة والتجهيل غيبتنا كلها عن معرفة هذه الحقيقة. أما كيف تحقق الحلم ومتى فلهذا قصة طويلة جديرة بأن أفرد لها مساحة خاصة أروي فيها نشأة هذه المكتبة التي أصبحت نواة مكتبة مركز آل زلفة الثقافي والحضاري.

سنوات كمبريدج

في جامعة كمبريدج الجامعة العريقة في المدينة العتيقة الغنية بمكتباتها الخاصة والعامة والأسواق الفصلية لبيع الكتب النادرة، وكذلك كثير من مكتبات بيع الكتب النادرة فمدينة كمبريدج تعد المدينة الأولى في هذا المجال. كنت طوال السنوات الخمس التي مكثتها في هذه المدينة من الرواد المداومين على ارتياد هذه الدور أو المكتبات لبيع الكتب النادرة وكتب الرحالة، ليس فقط أولئك الذي جالوا في الجزيرة العربية إنما كل رحالة جاب عالمنا العربي والإسلامي. كنت أحرص على اقتناء هذه الكتب، وكانت المشكلة تكمن في المبالغة في أسعارها حينما دخل أُناس مجال شراء الكتب النادرة وكتب الرحالة بشكل خاص، وهم من غير أصحاب الاختصاص، خاصة من بلادنا إلا أنهم يملكون المال، أو يملكون التفويض ممن يملكون المال وبعضهم سماسرة الكتب النادرة لجهات بعضها مؤسسات علمية وبعض هذه الجهات تودع هذه الكتب في مكتباتها ولكنهم يضعونها في أماكن عدم الاطلاع عليها. هذه المشكلة تعانيها حتى بعض المكتبات الجامعية، فأصبحت خزائن الكتب الممنوع الاطلاع عليها تحتل مساحات في تلك المكتبات.

هذه القضية تقودنا إلى قضية أخرى وهي قضية اللوحات الفنية النادرة، وكذلك الصور النادرة أو القديمة التي رسمها أو التقطها بعض الرحالة عن بلداتنا ومدننا العربية، وكيف بالغ سماسرة هذه اللوحات والصور في الأسعار، وصدقهم بعض القائمين على بعض المكتبات العربية، خاصة الخليجية والسعودية؛ وبعض هؤلاء المسؤولين تنقصهم ثقافة هذه الفنون. وهناك من القادرين من اقتنى بعض هذه اللوحات، وبعضها تعد من تراث الفن العالمي وهو في حالة عمرية معينة فتحول به الحال إلى حالة أخرى مختلفة من عمره بعبارة أخرى كان محباً للفنون أو هاوياً لجميعها ثم تحول إلى شخص تساوره شكوك التحليل والتحريم تجاه الفنون بشكل عام فآثر التخلص منها ليس بالبيع أو الإهداء إلى أحد المتاحف بل بالتخلص منها إحراقاً. وهناك من آلت إليه ملكية هذا التراث من الورثة الذين لا يقدرون قيمته الفنية فكان مصيره إلى الإهمال والضياع.

في هذه الأوضاع الفكرية والثقافية والحضارية «الكمبريدجية» الرائعة نما الركن الأجنبي في مكتبتي بشكل كبير، وكنت سعيداً بهذا، وكنت أقول لنفسي هذه هي الفرصة التي قد لا أجدها في قادم الزمان، وهذه الحصيلة قد تكون ذات فائدة ليس لي وحدي وإنما لمن أعدها لهم من أبناء وبنات جيلنا القادم الذين قد لا تواتيهم الفرصة كما تواتيني الآن. وسيكون لسنوات كمبريدج حديث مفصل، فقد كانت من أجمل سنوات النضج الفكري. والتتلمذ على أيدي كبار المستشرقين في جامعة كمبريدج العريقة. وفي هذه الجامعة التقيت كثيراً من كبار العلماء العرب والأجانب ممن كانوا يقومون بزيارات سنوية إلى جامعة كمبريدج مثل الدكتور عبدالعزيز الدوري، والدكتور إحسان عباس، والدكتورة وداد القاضي وجميعهم نالوا جائزة الملك فيصل العالمية، والدكتور عبدالله النفيسي، والدكتور محمود الغول، والدكتور المحقق العراقي معروف، والدكتور محمود السمرا من الأردن، والبروفسور عبدالله الطيب من السودان، والسيد أحمد الشامي من اليمن. كما التقيت كثيراً من كبار المستشرقين من أوروبا وأمريكا.

كما زاملت كثيراً من الطلاب العرب لسنوات أصبح بعضهم يحتل مراكز مرموقة في بلادهم مثل الدكتور خالد الكري من الأردن وزير الثقافة ثم مدير الجامعة الأردنية ثم وزيراً للتربية والتعليم ونائب رئيس الوزراء في الحكومة الأردنية الجديدة، والدكتور هادف الظاهري وزير العدل في دولة الإمارات العربية المتحدة، والدكتور أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات العربية المتحدة وغيرهم كثير من بلدان عربية وآسيوية وإفريقية وأمريكية.

وبما أن كمبريدج كانت المحطة الأخيرة من مشوار التحصيل العلمي العالي، وكانت الأطول من حيث الزمن والأغزر عمقاً في البحث العلمي والأهم في الحصيلة المعرفية، كون نظام التعليم العالي في بريطانيا يختلف عنه في أمريكا؛ ففي الأخيرة تمكن الطالب من الحصول على حصيلة عالية في منهجية البحث وفي الأولى أي بريطانيا تمكن الباحث من الاعتماد الكامل على جهوده في إعداد بحوثه والتعمق فيها والخروج بحصيلة علمية حول موضوع محدد يقدم قيمة مضافة للمعرفة. وسآتي في الوقت المناسب للحديث عن موضوع بحثي للدكتوراه، وقصة اختيار الموضوع ومع من الأساتذة الكبار تتلمذت، وقصتي الطويلة في مجال البحث في دور الأرشيفات الدولية بحثاً عن مصادر بحثي.

حصيلة الكتب التي اقتنيتها في الولايات المتحدة وتلك التي اشتريتها من إستانبول والقاهرة، ومن مكتبات كمبريدج ولندن ومدن بريطانية أخرى حيث كنت أذهب إلى كل مدينة تقام فيها معارض للكتب النادرة وكتب الرحالة ومعارض الصور القديمة، وكذلك الخرائط التاريخية عن منطقة الشرق الأوسط وتركيا والجزيرة العربية وكثير من مجلدات الوثائق الإنجليزية والتركية والفرنسية. هذا الكم الهائل من الكتب والمخطوطات الأصلية والمصورة من مكتبات عالمية مختلفة وأهمها مكتبات إستانبول ومكتبة جامعة كمبريدج التي وجدت بها مخطوطات عربية نادرة لم تلق عليها الأضواء من قبل الباحثين العرب أو لم يسمعوا بها البتة. آن لهذا الكم الكبير من هذه المكتبة التي تشكلت على مدى يزيد قليلاً عن عقد من الزمن؛ أن تعد للانتقال إلى الوطن مع نهاية آخر ارتباطي بجامعة كمبريدج بحصولي على درجة الدكتوراه في التاريخ الحديث.

لم يكن شحن مكتبتي بالأمر السهل؛ ولذا اتفقت مع شركة متخصصة في الشحن وكان مقرها لندن وبعثوا إليّ بشاحنة وأربعة أشخاص تولوا إنزال الكتب من شقتي الكائنة في الدور الثالث بتركيب سقالة لإنزالها بعد وضعها في كراتين بمواصفات خاصة، وكان مالك الشقة التي أسكنها وهو شخصية لطيفة يزورني من وقت لآخر يمازحني محذراً من أن كتبي ربما تتسبب في سقوط بنايته وأبلغوني بأنها ستشحن براً إلى اليونان، ومن هناك جواً إلى الرياض. كلفني شحن الكتب، وكذلك ما اصطحبته معي من صناديق تضم كثيراً من الوثائق المهمة أموالاً كثيرة. وكما ذكرت سابقاً ليس هناك بند في بدل الابتعاث خاص بشحن الكتب والخطوط السعودية لم تراع ظروفي في تخفيض رسوم بدل العفش الزائد.

وصلت إلى الرياض، وبعد حوالي أسبوعين وصلني خبر وصول مكتبتي إلى مطار الملك خالد في الرياض. كنت في هم شديد من سلطة الرقابة على الكتب، وكيف سيكون تفتيش الكراتين التي يضمها عدد من الحاويات متوسطات الحجم، وكانت لي تجارب عديدة مع بعض القائمين على رقابة الكتب في المطارات والموانئ البرية والبحرية منهم من يقدر ومنهم من يتشدد وتبقى الكتب أياما وأحياناً أسابيع، وأحياناً تبعث إلى وزارة الإعلام، وهناك يتخذ القرار للفسح أو رفض مالا يرون فسحه. أخذت القرار وذهبت إلى المطار؛ مع العلم أن بعض الأصدقاء والزملاء نصحوني بأن أجري اتصالات مع من يتوسمون فيه حب مساعدة طالب حديث التخرج، وتسهيل دخول كتبه الخاصة قبل أن أصطدم بطلب فك هذا الكم من الكراتين وفرزها تمهيداً للفسح أو المنع أو المصادرة. ذهبت إلى المطار وقابلت المراقب المسؤول فوجدته هاشاً باشاً متسامحاً مرحباً وكأنه يعرفني من سنين، وأنا منذ أن رأيته توسمت فيه كل خير. وقال أحضر لك شاحنة وخذ كتبك وبالتوفيق. بعد تقديم الشكر طلبت منه أن يمنحني فرصة أيام حتى أعرف أين سآخذها فأسرتي؛ في منطقة عسير وليس لي بيت ولا مأوى في الرياض، وكان هناك بعض المساعي مع مسؤول الإسكان في الجامعة الذي وعدني بشقة في عمارة مستأجرة من قبل الجامعة في شارع العليا. ولكن الأمر قد يأخذ بعض الوقت، فأخبرته بقصة كتبي التي هي أكبر همي الآن. كان متجاوباً متفهماً وأعطاني مفتاح الشقة فاستأجرت شاحنة كبيرة وذهبت بصحبة أحد الأصدقاء الذي دبر لي ثلاثة عمال ساعدونا في شحن الكتب من المطار وتنزيلها في الشقة. نمت تلك الليلة في تلك الشقة غير المؤثثة على طراحة اشتراها لي صديقي وذلك بناء على طلبي. نمت في غاية السعادة مع رفاقي الذين ربطت بيننا أقوى الروابط لمدة تزيد عن عقد ونصف من الزمن.

بعد فترة ضممت ما كان مخزوناً في بيت أخي من حصيلتي الأولى من الكتب قبل سنوات البعثة والتي يعود بعضها إلى عام 1960م، وخاصة الأعداد الأولى من مجلة العربي الكويتية. جاءت أسرتي من منطقة عسير وانتقلنا من الشقة المؤقتة التي استضافت مكتبتي لعدة شهور، وانتقلنا إلى شقق التأمينات في شارع العليا المستأجرة من قبل الجامعة، ورحلت مكتبتي إلى منزلها الجديد، واحتلت مساحة من تلك الشقة، ونقلت بعض الكتب التي لا أستغني عنها دائماً إلى مكتبي في كلية الآداب، وكاد مكتبي يضيق بها. انتقلت من سكن العليا إلى السكن الجامعي في مقر الجامعة بطريق الدرعية، وعانيت أكثر في مسألة النقل نقل المكتبة. استقر بنا الحال في السكن الجامعي إلى حين صدور الأمر الملكي الكريم بتعييني عضواً في مجلس الشورى عام 1417هـ، وأنذرتني إدارة الإسكان في الجامعة بالرحيل من الفلة التي كنت أسكنها في سكن الجامعة. كما أنذرتني كلية الآداب بإخلاء مكتبي بالكلية وبه جزء كبير من مكتبتي. استأجرت بيتاً صغيراً في مساحته قليلاً في عدد غرفه ولا يتسع لأسرتي ومكتبتي معاًً.

قبل تعييني في مجلس الشورى بعدة سنوات تحديداً في عام 1990م قررت أن أبني لي بيتاً في قريتي المراغة بمحافظة أحد رفيدة بمنطقة عسير، وشرعت فعلاً في تحقيق الحلم أن أبني لمكتبتي مقراً في هذه القرية، وأن أجعلها مكتبة مفتوحة لكل أبناء المحافظة وليس لأبناء وبنات القرية فقط بل لكل باحث ودارس من أبناء وبنات منطقة عسير وغيرهم من أبناء وطني، وكل باحث في تاريخ الجزيرة العربية الحديث، وأن أجمع شتات مكتبتي الموزعة ما بين الجامعة، ومسكني القديم في الجامعة وأن أجعلها في بيت واحد، وتحت سقف واحد لا تغادره أبدا. تحقق الحلم وتم بناء المكتبة وإلى جانبها المسجد، وتحيط بالمكتبة حديقة من أطرافها الثلاثة، وتم تدشينها في مرحلتها الأولى على يدي صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن خالد بن عبدالعزيز أمير منطقة عسير عام 1428هـ-2008م . كما سبق نشوء المكتبة قمت بترميم قصر النائب قصر والدي وجدي وتحويله إلى متحف دشن افتتاح هذا القصر بعد ترميمه وتحويله إلى متحف صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أمير منطقة عسير السابق أمير منطقة مكة المكرمة الآن. وهنا اكتملت مقومات مركز آل زلفة الثقافي والحضاري الذي أصبحت به قاعات كبرى للمعارض الفنية واللقاءات العلمية، كما يوجد به نُزل ريفي يتميز بمواصفات الفنادق الريفية ذات التميز الخاص. هذه جوانب غير مفصلة لقصة نشأة مكتبتي، وهذه جوانب من مسيرة نشأتها منذ الكتاب الأول عام 1960م إلى بيت يضم ما تم جمعه على مدى خمسين عاماً اسمه مركز آل زلفة الثقافي والحضاري بقرية المراغة محافظة أحد في رفيدة منطقة عسير بالمملكة العربية السعودية. وبالمثابرة والإرادة يتحقق الحلم.





 

أنا ومكتبتي ورحلة خمسين عاماً
د. محمد بن عبدالله آل زلفة

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة