Tuesday  16/11/2010 Issue 13928

الثلاثاء 10 ذو الحجة 1431  العدد  13928

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

ما مِنْ مُلمٍّ بشيء من التراث الأدبي إلا ويأتي على أسئلة لسانه التساؤل الضجر الذي فجَّره «أبو الطيب المتنبي»:

«عيد بأية حال عدت يا عيد».

والمتنبي الذي استبدل «كافوراً» ب»سيف الدولة» أحسّ بفداحة مقترفه وصلف عناده، فانطلقت تلك الصيحة المدوية التي اقترف بها مظالم كثيرة، ليست ببعيدة عن أخلاقياته، وفي كل عصر ومصر يجرجر البرمون من العيد تلك التأوهات الحرّى.

عيد بأية حال عدت يا عيد

بما مضى أم بأمر فيك تجديد

فهو لا يريد قربه وقد نأت بالأحبة عوارض الزمن، ولقد برر خروجه مغاضباً من بلاط «سيف الدولة» إلى بلاط «الأخشيدي» بسعيه وراء المعالي:

لولا العلى لم تجب بي ما أجوب بها

وجناءُ حرْفٌ ولا جرداء قَيْدودُ

ولكن الزمن النكد سلبه كل شيء حتى لم يبق فيه ما تتيمه عين ولا جيد.

وفي العيد -أي عيد- يعود شريط الذكريات المرة والعذاب لتجدد الموقف وتجسد المشاعر، وعيد الأضحى تلتقي فيه شعائر كثيرة يعظمها المستجيبون لداعي الله، فالحج والأضاحي والليالي العشر وما تتسع له من عبادات وتكبيرات مطلقة ومقيدة بعض تلك الشعائر، والناس في الحج يتسابقون على الهدي، وفي غيره يصطرعون على الأضاحي، وكل متسابق ومصطرع يلبي حاجة في نفسه، وإذ لا ينال الله لحومها ولا دماؤها فإن هيمنة العادة والإلف تغري الناس بالتسابق على النحر والتباهي بالأشكال والألوان والأسعار والأعداد دون وعي بالمقاصد.

فالأضاحي تحيل إلى مفاهيم قد لا يدركها إلا المتأملون لمقاصد التشريع. ولسنا ندعو إلى الترك، وإن كانت أحكامها تتراوح بين الوجوب والاستحباب والسنة، حَسْب ما يذهب إليه العلماء، وفي اختلافهم رأفة ورحمة، ما لم يجتالهم شيطان التعصب الآثم، وإنما ننظر في فلسفة الشعائر وحكمتها وما تبعثه في النفوس من تأمل.

فالعبادات كلها لها حكمتها التي يعلمها من علمها ويجهلها من جهلها، ومعرفة الحكمة تقود إلى تشرُّب روح العبادة وممارستها وفق مقاصد المشرع، والبحث عن الحكمة مدعاة إلى تفعيل الأداء والتجاوز به حد النمطية والشكلية.

ولقد تُخفى الحكمة على ملتمسها، وقد يظن البعض أن التماسها من باب سؤال الله عما يفعل، وكأن الباحث يقول: لماذا شرعت تلك العبادة؟

ولقد يتصور البعض حكمة ليست صحيحة، وكل التوقعات والتصورات لا تمنع من التأمل والتفكير ليكون للشعيرة عائد مصلحي للفرد والمجتمع، والفقهاء المتضلعون إذ يختلفون في الحل والحرمة والإباحة ثم لا يجدون حرجاً ولا تأثيما في ذلك، فإنهم حين يختلفون في الحكمة من باب أولى، وحديثنا ليس وقفاً على التماس حكمة الأعياد وما يواكبها من شعائر وما يهبه الله للأزمنة والأمكنة من فضل على غيرها، فذلك معروف ومألوف وإنما نريد تجاوز ذلك إلى تفعيل الشعائر ومد ظلها إلى جوانب من حياتنا المتصحرة والمأزومة، فنحن إذ نهب لإجابة داعي الله في أوامره ونواهيه فإن للدين ظلالاً ما كان لنا أن نحسرها عن جوانب الحياة. فالمستجيب لداعي الله يسخو ويضحي بما له وينحر أضحيته ويجد في ذلك متعة وطمأنينة، وكم يكون واعياً ومتحضراً لو أنه ضحى بقليل من الجهد والوقت والمال لوطنه وعشيرته الأقربين، وكيف لا يجود لوطن أقلته أرضه وأظلته سماؤه وتدفقت عليه خيراته ولمواطنيه الذين يشاطرونه الأفراح والأتراح. هذا الوطن الذي أوصى الله بحمايته ورعايته والدفاع عنه بالنفس والنفيس. وربط الإخراج منه بخروج الروح من الجسد لم نرع حقه ولم نمحضه النصح، إن الحب الجبلي فطرة فُطر الناس عليها، وتفعيلها في ممارسة الحب بما يتخطى به إلى عتبات المجد والسؤدد والعزة والتمكين ومشاطرة الإنسانية أعباء الحياة العصيبة.

فالمواطن حين يستمرئ الكذب والكسل والخيانة والاتكالية واللامبالاة لا يكون مضحياً وإن هتف بالأمجاد وأحيا المناسبات ولهج بالثناء. وكيف تتحقق الإنسانية السوية وفي النفس ما فيها من العثرات.

الوطن ليس حفنة تراب إنه قبضة قيم، فمن شارك بالثناء والهتاف ثم لم يستقم على الطريقة فإنه مخادع لكنه لا يخدع إلا نفسه، إن ترجمة لمواطنة في احترام القيم التي لا تتحقق حضارة الانتماء إلا من خلالها: قيم تشريعية في التعامل وقيم تشريعية في التعبد. فالأضحية قيمة تعبدية والتضحية قيمة تعاملية. فالدين المعاملة، والدين النصيحة والدساتير والقوانين والأنظمة والتعليمات واللوائح قيم لا تستقيم الحياة إلا بتمثلها والخضوع لها وحمايتها وإشاعتها، بل لا تتحقق الحرية المنضبطة إلا باحترامها والتقيد بها، وليست المواطنة في الاستقطاب حول الذات والانطواء عليها واستفحال الأثرة وإشاعة مبدأ «إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر» بل بإشاعة مبدأ «فلا نزلت علي ولا بأرضي.. سحائب ليس تنتظم العبادا» المواطنة في المشاركة والمشاطرة والإحساس بالمسؤولية الجماعية، فلتكن الأضحية مذكرة بالتضحية، حاملة على نحر السلبيات وإحياء الإيجابيات، ولنكن في مستوى شعائرنا، إن الغرب المادي ينظر إلى بعض شعائرنا نظرة ازدراء واستخفاف ومن حقه أن يتندر متى كنا نمارسها شعارات شكلية جوفاء لا يمتد أثرها إلى ما نأتي ونزر (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) فحين يقف الغافلون في الصف كالخشب المسنّدة ويمارسون الحركة ببلاهة وغفلة وجفوة تكون الصلاة عبثاً وعبئاً وإضاعة للجهد والوقت ويتحقق فيها قول المصطفى «ثم تلق كالثوب الخلق ويرمي بها وجه صاحبها» أو كما قال إنها مجموعة أقوال وأفعال لا تختلف عن أي ممارسة قولية أو حركية إلا بالنية والاحتساب والتمثل للمقتضيات، والحج حين لا يستشعره الحاج شعيرة وحدة وتوحيد وأخوة ومساواة ومودة ورحمة، يتجنب فيه الحاج الرفث والفسوق والجدال يكون تجمعاً فوضوياً ينقل الأوبئة ويشيع التنافر والتنابز ويهدر الطاقات والأموال. والأضحية حين يراق دمها ثم لا يعرف حق السائل والمحروم وذوي القرابة تكون تبذيراً لثروة البلاد وتلويثاً للبيئة ووصية الرسول «اتق لله حيثما كنت» تعني التلبس بفلسفة العبادة. إن الإسلام بشموليته وعالميته وصلاحه لكل زمان ومكان لا يتحقق أداؤه السليم كما أراد له المشرع إلا بوعي مقاصده وسعيه لجلب المصالح ودرء المفاسد، ومن أقام حروفه فعليه أن يقيم حدوده وأن يحفظ التوازن بين مطالب الروح والجسد.

وإذ أقام الله الكون عن سنن لا تتبدل ولا تتحول فإنه أقام الإنسانية على مثل ذلك، واتقان شفرة الحياة تحقق عالمية الإسلام وشموليته وصلاحيته، فلنكن حملة أمناء لهذا الدين نعظم شعائره ومشاعره بالانضباط والالتزام واحترام النظم والتعليمات ومشاطرة المسؤولين مهماتهم الجسام، فكل مواطن رجل أمن شاء أم أبى وإن لم يحمل هذا الشعور أصبح عبئاً وسقط متاع ووقف عند الأضحية ولم يتجاوزها إلى التضحية.

 

من الأُضحية إلى التَّضحية..!
د. حسن بن فهد الهويمل

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة