Tuesday  23/11/2010 Issue 13935

الثلاثاء 17 ذو الحجة 1431  العدد  13935

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

ملحق خاص

 

صاغه وكتبه خير من تمسك بمآثر والده المؤسس
جوانب إنسانية من شخصية الملك عبدالعزيز برواية السائر على دربه الأمير سلمان بن عبدالعزيز

رجوع

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الجزيرة -التحقيقات :

صدر مؤخراً عن دارة الملك عبد العزيز كتاب (جوانب إنسانية من شخصية الملك عبدالعزيز).. ونظراً لما يحمله صدور هذا الكتاب من أهمية تاريخية وثقافية فقد قال عنه الدكتور فهد السماري الأمين العام للدارة في تقديمه له:

حظي هذا الكتاب الذي نقدم له بمزايا متعددة، وقيم فريدة، ذلك أنه يتحدث عن الملك عبدالعزيز الذي قدم تضحيات كبرى لخدمة دينه وأمته، وبناء وحدة وطنه، والارتقاء بشعب عانى التفرق وفقدان الأمن، وستظل حياته ومنجزاته -رحمه الله- على مدار التاريخ منبعاً لدراسات متعددة، وبحوث كثيرة، لما تحويه شخصيته الفذة، وتكوينه الفريد من عظمة القائد، وصدق المؤمن، وحكمة الباني.

وقد زاد من قيمة هذا الكتاب، ومن شرف كاتبه، أن صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض، ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز -حفظه الله- قدم في كتابه هذا صوراً حية لمواقف تاريخية تعكس الإيمان الصادق الذي اطمأن في قلب الملك عبدالعزيز، وروح العدل التي سادت كل نوازعه، ويد الجود التي اكتست بها هباته الوافرة.. كل تلك المواقف خطّت سطورها في ذاكرة الابن عن أبيه الملك العظيم، والمربي الفاضل، والقدوة الحسنة، فأراد إظهارها لتظل منارات هادية للأجيال الآتية.

فكرة تدوين الكتاب

ويعدّ أصل هذا الكتاب محاضرة ألقاها صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز في رحاب جامعة أم القرى بدعوة من معالي مديرها الأستاذ الدكتور عدنان بن محمد وزان، وذلك مساء يوم السبت 21-3-1429هـ، الموافق 29-3-2008م.. ولأن سموه الكريم ألقى موجزاً بأبرز عناصر المحاضرة مراعاة لضيق الوقت، فقد رأت دارة الملك عبدالعزيز طباعة المحاضرة كاملة، متضمنة المداخلات التي تمت بعدها، وذلك لإتاحتها للجميع، وحصول الفائدة المرجوة منها.

استهلال ومدخل

استهل سمو أمير منطقة الرياض محاضرته عن الملك المؤسسة بقوله:

أجدها فرصة مناسبة للحديث عن ملامح إنسانية من سيرة الملك المؤسس والباني عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود -رحمه الله- التي اشتملت على كثير من الخصائص والخصال والقيم في حياته.. فتاريخه لا يقتصر على جوانب الكفاح وإنجازات التوحيد والبناء فقط، التي هي مهمة ومعلومة للجميع، وإنما يتضمن جوانب كثيرة تبرز فيها شخصيته الإنسانية، التي تنهل من سيرة نبينا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.

وبما أنني واحد من أبنائه، تربيت على يديه -رحمه الله- فإن حديثي سيكون معتمداً على ما وعيته وسمعته، وقرأته، واطلعت عليه من روايات الثقات من كبار الأسرة ورجال عبدالعزيز.. فشخصية الملك عبدالعزيز كسائر شخصيات التاريخ القديمة والحديثة لا تزال تحظى بالاهتمام والبحث دون توقف.. وأسمع دائماً مقولة: إن الملك عبدالعزيز لم يُكتب عنه كما ينبغي، وأقول لمن يتحدث معي في هذا الموضوع: إن رجال التاريخ وشخصياته مثل الملك عبدالعزيز تتواصل الكتابة عنهم خلال السنين، ويقدم عنهم إلى اليوم ومستقبلاً رسائل علمية ودراسات جديدة.

أساس الدولة

وتحدث سمو الأمير سلمان عن هذا الجانب الهام، فقال:قامت الدولة السعودية على أساس الكتاب والسنة، ولم تقم على أساس إقليمي أو قبلي أو أيديولوجي (فكر بشري).. فقد أسّست على العقيدة الإسلامية منذ أكثر من مائتين وسبعين سنة عندما تبايع الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله- على نشر الإسلام، وعلى التزام الكتاب والسنة اللذين هما أساس قيامها.

وقد كتب المؤرخ الفرنسي فيلكس مانجان سنة 1239هـ (عام 1824م) في إثر سقوط الدرعية في كتابه: (تاريخ مصر في عهد محمد علي).. معرباً عن توقعه عودة قيام الدولة السعودية قائلاً: «ولكن ذلك البلد.. يضم في جنباته بذور الحرية والاستقلال، فما زالت المبادئ الدينية نفسها موجودة، وقد ظهرت منها بعض البوادر، ومع أن أسرة آل سعود قد تفرقت، ومع أن الفوضى تعم بين الزعماء، فما زال هناك أُسٌّ خصب يمكن للزمن والأحداث أن تجعله يتفتح من جديد.. جاء الملك عبدالعزيز امتداداً للدولتين السعوديتين الأولى والثانية، اللتين هما أيضاً امتداد للدولة الإسلامية الأولى، التي أسسها المصطفى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونشرت الإسلام والأمن والاستقرار والعدل، واستمر ذلك في عهد الخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم، وفي عهد الدولة الأموية والدولة العباسية.. وبعد غياب الدولة الإسلامية، وظهور دويلات لا تتجاوز حدود قرية أو بلدة أو إقليم، وانعدام الاستقرار في المنطقة، ظهرت الدولة السعودية الأولى في منتصف القرن الثاني عشر الهجري، لتعيد الاستقرار إلى القسم الأكبر من الجزيرة العربية، ثم عادت إلى الظهور مرة ثانية في القرن الثالث عشر الهجري، وفي بداية القرن الرابع عشر الهجري أعاد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- تأسيسها على المبادئ الإسلامية ذاتها.

ولأهمية إيضاح هذا الجانب، فإنني أتحدث دائماً إلى الضيوف لأُبيّن لهم أن هذه الدولة لم تقم إطلاقاً على أساس إقليمي أو عصبية قبلية، وأنه على الرغم من انتمائنا إلى أسرة عدنانية، سكن أجدادها وسط الجزيرة العربية منذ مرحلة ما قبل الإسلام، وسُمي الوادي باسمهم (وادي حنيفة)، فإن انتماءنا هو في الأساس إلى كتاب الله عز وجل، وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وبسبب أساس الدولة السعودية وانتمائها هذا هاجمها أعداؤها منذ تأسيسها إلى اليوم، مستخدمين أساليب التشويه، وإلصاق التُّهم بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب الإصلاحية، التي هي في الأساس تدعو إلى الإسلام كما جاء في الكتاب والسنة.. لهذا ظهرت مصطلحات مثل (الوهابية) لتشويه تاريخ الدولة السعودية ومبادئها، وربطها بتلك الفرقة التي ظهرت في الشمال الإفريقي نسبة إلى عبدالوهاب بن رستم في القرن الثاني الهجري، وعرفت بانحرافها العقيدي، وخروجها عن سنة نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام.. وقد أوضح الدكتور محمد بن سعد الشويعر هذا الربط الخاطئ لتشويه الدعوة الإصلاحية في كتابه: (تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية).

وفي منى في سنة 1365هـ عند استقبال رؤساء وفود الحجاج، أوضح الملك عبدالعزيز هذا الأساس الذي تقوم عليه الدولة قائلاً: (يقولون: إننا وهابيون، والحقيقة أننا سلفيون محافظون على ديننا، نتبع كتاب الله وسنة رسوله).. هذا هو أساس الدولة السعودية منذ أن أُنشئت، والسؤال الحقيقي هنا: هل يستطيع أحد أن يجد في تراث الشيخ محمد بن عبدالوهاب أي شيء ليس مستمداً من كتاب الله وسنة نبيه المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم يُصدِّق مثل هذه التهم والدعايات؟

وبدأ الملك عبدالعزيز إعادة تأسيس الدولة السعودية في سن مبكرة، وبأفراد قليلين، ولأنه جعل كلمة التوحيد هي الأساس الذي اعتمد عليه في بنائها وتطويرها وخدمة شعبها، وفقه الله، ويسّر له سبل التوحيد والبناء.

فقد رعى -رحمه الله- تأسيس هذه الدولة وذهنه متعلق بمستقبلها وشعبها، وأدرك أن الطريقة الفعّالة التي يمكن بواسطتها تنفيذ التقدم وتشجيع التمدن هو وجود نظام الحكم المتطور المعتمد على شريعة الله السمحة، والواعي بمصالح الأمة، والذي يقوم باتخاذ خطوات التغيير الاقتصادي والاجتماعي، كما أوضح ذلك الدكتور وحيد حمزة هاشم في كتابه: (أنظمة الحكم والدولة في المملكة العربية السعودية)، وانبرى الملك عبدالعزيز يحقق تلك الوحدة عملياً في أغلب أراضي الجزيرة العربية، وفي مهبط الوحي معيداً إلى الأذهان تلك الوحدة التي حققها نبينا المصطفى، عليه الصلاة والسلام عندما أسس الدولة الإسلامية الأولى في الجزيرة العربية على الإسلام، وتوحدت فيها مجتمعات المهاجرين والأنصار دون اعتبار لعصبية.

عبدالعزيز وعلاقته بوالده

وعن أعظم علاقة بين والد وولده، تحدث سموه عما كان بين والده وجده، فقال:ولد الملك عبدالعزيز وتربّى في الرياض على يدي والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل، ووالدته سارة بنت أحمد السديري، رحمهما الله.. وحظي برعاية كبيرة من حيث التعليم والتنشئة الإسلامية، وغرس الشيم والقيم والمكارم التي هي أساس البيت السعودي.. وتمكن من إقامة شعائر الإسلام، والحكم بما أنزل الله تعالى، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وأمن السبل، وآخى بين المتناحرين، ودمج الأمة بعد أن كانت أجزاء متفرقة.. ولم يكن هدفه توسيع الملك لأجل الحكم فقط، وإنما لخدمة دينه وشعبه، وخدمة المسلمين في كل مكان.

عُرف عن الملك عبدالعزيز تأدُّبه مع والده، وتقديره له، فعندما تمكن من دخول الرياض استقبله قادماً من الكويت، وأعلن بكل أدب البيعة له في المسجد الجامع الكبير بالرياض، حاكماً على البلاد، إلا أن والده نهض معلناً البيعة لابنه لثقته به، فقبل عبدالعزيز مشترطاً جعل حق الرأي الأول في معالي الأمور المهمة لوالده الإمام.

ومن شدة احترامه له لم يكن يمشي في غرفة علوية.. بينما والده في الغرفة التي أسفل منها.. وقد أكد هذا محمد أسد -رحمه الله- في كتابه (الطريق إلى مكة)، إذ ذكر أن الملك عبدالعزيز لم يكن يسمح لنفسه ولا لغيره قط أن يضع قدمه في غرفة من القصر إذا كان أبوه في غرفة تحتها، ونقل عنه قوله: (كيف أسمح لنفسي أو لغيري أن يسير فوق رأس أبي).. وأشار عبد الله فيلبي -رحمه الله- في كتابه (قلب الجزيرة العربية) إلى أنه عند زيارته الرياض سنة 1336هـ (1917م) لاحظ كيف كان الملك عبدالعزيز يجلس بحضرة والده قائلاً: «وفي الحياة العامة عند مقابلة المواطنين كان الابن بحضرة أبيه يجلس في مكان منخفض».

وروى لي عبد العزيز بن عبد الله بن ماضي -رحمه الله- أنه كان في مجلس خاص بالملك فيصل -رحمه الله- عندما كان نائباً لوالده في الحجاز، وكان الحديث عن الملك عبدالعزيز، وقال له: كنا جلوساً على الحبوس (مواضع للجلوس من الحجر) والملك عبدالعزيز كان جالساً على الأرض، فاستنكر الملك فيصل ذلك، واندهش لهذا القول.. فأوضح ابن ماضي ذلك قائلاً: جئت مع والدي عبد الله بن ماضي -أمير روضة سدير- إلى الرياض للسلام على الإمام عبدالرحمن، والملك عبدالعزيز، وجلسنا على الحبوس التي وضعت في الديوانية لأجل جلوس الإمام بسبب الألم في ركبتيه، وعندما دخل الملك عبدالعزيز سلّم على والده، وقبّل يده، ثم جلس على الأرض في آخر المجلس احتراماً له، وهذا الذي أزال استغراب الملك فيصل.

وكان عبدالعزيز لم يقبل أن يطلق عليه لقب (الإمام) في حياة والده، تأدباً، وتوقيراً له.. وكان يلقب بالسلطان ثم الملك إلى أن توفي الإمام عبدالرحمن سنة 1346هـ، وأصبح عبدالعزيز يلقب بالإمام بعد ذلك إلى جانب كونه ملكاً.

ومن أدب الملك عبدالعزيز مع والده، وبرِّه به أنه كان يساعده كثيراً على امتطاء صهوة جواده، فيرفع قدميه بنفسه مع وجود مرافقيه، كما ذكر ذلك أخي الأمير طلال بن عبدالعزيز في كتابه (صور من حياة عبدالعزيز).. ونقل لنا السيد عبد الحميد الخطيب في كتابه (الإمام العادل) ما شاهده حينما جاء الملك عبدالعزيز، واستقبل والده عند مدخل باب السلام، وحلمه لكبر سنه، ودخل به إلى حيث مصلاه، ولم يشأ أن يتولى ذلك غيره.

وذكر أحمد حمدي الطاهر -رحمه الله- في كتابه (الحجاز مهبط الوحي) أن أحد العلماء من أهل مكة حدَّثه قائلاً: كان الملك عبدالعزيز مع والده الإمام عبدالرحمن في الحج فطافا معاً، لكن الأب أدركه الإعياء في آخر أشواط الطواف، فحمله عبدالعزيز ليتم بقية الشوط دون أن يترك ذلك لرجاله.

ولم يكن برّه بوالده أقل من برّه بوالدته، التي اهتم بها ورعاها، وحرص على رضاها أحسن ما يكون البر والرعاية.

تديُّنه من أسس نجاحه

ويعزو صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز في كتابه عن سيرة والده نجاحه إلى تديُّنه وتمسكه بكتاب الله وسنة نبيه قولاً وعملاً، فيقول: إن من أهم أسباب نجاح الملك عبدالعزيز في تحقيق ما هدف إليه من إعادة تأسيس الدولة السعودية ونشر الأمن والاستقرار، تدينه الذي جعله مرتبطاً بالخالق عز وجل عن معرفة ووعي.. وقد ذكر الشيخ عبد الله خياط -رحمه الله- في كتابه (لمحات من الماضي) أن الملك عبدالعزيز «إذا كان ثلث الليل الأخير تشعل له المصابيح الكهربائية، وينتهز هذه الفرصة الثمينة في قيام الليل، الفرصة التي يتجلى الله فيها لعباده، ويستمر في مناجاة ربه بآياته، ويضرع إليه، ويبكي بكاء الثكلى، ويستمر على هذا الوضع حتى قبيل الفجر، فيوتر، ثم يصلي الصبح في جماعة».

أما مجالسه فكانت تحفل بقراءة القرآن الكريم والمصادر الشرعية والتراثية من قبل علماء أجلاء، ويُعلق الملك، ويتأمل معاني ما قرئ لينصح به نفسه والحاضرين.

ويروي الشيخ عبد الله خياط في كتابه «أن قارئاً بدأ تلاوته بقول الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (46 سورة الرحمن) فاستعبر عبدالعزيز، وطال بكاؤه حتى أبكى من حوله.. ولحظ القارئ في جلالته هذا التأثر فأخذ يحتاط، ويتجوز في القراءة، ويقتصر على تلاوة آيات معدودات.. فاستدعاه وخاطبه بلهجته الصريحة المعهودة قائلاً: إن البخل شين وفي هذه المسائل أشين، إذا قرأت فطوّل، ذكّرنا بالله، وعظنا بآياته، القرآن كله بركة».

اهتمامه بالمرأة وأسرته

كان للمرأة في حياة الملك عبدالعزيز اهتمام خاص، إذ كان يستشير أخته الكبرى نورة -رحمها الله- في شؤون أسرته، وشؤون النساء، لقوة شخصيتها وتدينها ومحبتها للخير، ويقبل شفاعاتها للناس دون تردد.. ففي رسالة منها سنة 1339هـ نشرها الشيخ عبد العزيز التويجري -رحمه الله- في كتابه: (لسراة الليل هتف الصباح) نجده يوصيها بالاهتمام بوالدة أحد شيوخ القبائل الذي ناوأه واستقبالها، والحرص عليها، تقديراً لابنها ولأسرته، على الرغم من مواقفه المعادية.. تقول نورة في تلك الرسالة: (والذي جنابكم يوصي عليها، إن شاء الله ما أمرتم على الرأس، ونوخت علينا وهي الآن عندنا).

وكان -رحمه الله- يخصص للنساء من أسرته وغير أسرته وقتاً في المساء للاستماع إليهن، قضاء حوائجهن، ليطلع على أحوالهن على الرغم من مشاغله المعروفة.. وكان يزور الكبيرات من أسرته، صلة للرحم.. وكان ضمن برنامجه اليومي إذا انتهى عند الظهر من مقابلة الناس، وإنجاز العمل في قصر الحكم زيارة أخته نورة في بيتها، تقديراً لها.

وكان أبناؤه وبناته غير المتزوجين المقيمون ببيته يتناولون الغداء معه بشكل يومي، حرصاً منه -رحمه الله- على اجتماع أسرته، ويشاركهم من يرغب من بناته وأبنائه المتزوجين.. كما كان الجميع يتناولون العشاء معه بعد المغرب.. وكان ولي عهده الملك سعود -رحمه الله- يشارك أحياناً في العشاء مع والده، لأنه كان يقيم العشاء للناس ببيته، وكذلك الملك فيصل -رحمه الله- نائب الملك في الحجاز إذا حضر إلى الرياض.

لم تكن تربية عبدالعزيز لأبنائه تربية تَرَف، وكان -رحمه الله- يخصص اجتماعاً سنوياً لأسرته -رجالاً ونساءً- ليقدم لهم النصح، ويُذكّرهم بأساس هذه البلاد القائم على الكتاب والسنة والتزام ذلك والمحافظة عليه، كما كان يوجههم بحسن معاملة الناس، والاهتمام بالفقراء والمحتاجين، وحفظ حقوق الناس وإبراء الذمة.

كما كان يحرص -رحمه الله- على حضور حفل ختم القرآن لأبنائه، الذي يتم في بيته.. أو في غار المعذر المعروف، وحفل توزيع الشهادات الدراسية في نهاية العام، أو ينيب أحد أبنائه الكبار لذلك.

وينقل لنا خير الدين الزركلي -رحمه الله- في كتابه (شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز) قول الملك فيصل: «إن والدي في تربيته لنا يجمع بين الرحمة والشدة، ولا يفرق بيننا وبين أبناء شعبه، وليس للعدالة ميزانان يزن بأحدهما لأبنائه، ويزن بالآخر لأبناء شعبه، فالكل سواء عنده، والكل أبناؤه، ويحب جلالته المباسطة على المائدة خلال تناول الطعام، ويمازح أبناءه وجلساءه، ويحادثهم أحاديث لا كلفة فيها».

تعامله مع خصومه

وتحدث سموه عن خصلة كريمة كان يتحلى بها جلالة الملك عبدالعزيز، فقال: تعامل الملك عبدالعزيز مع من عارضه أو حاربه من أجل إقامة هذه الدولة تعاملاً إنسانياً وكريماً، حتى قيل: إنه ما من شخص عاداه، وبقي حياً يرزق إلا عاد إليه طوعاً، بسبب حسن تعامله، وصدقه مع الناس.

ومن النادر أن تقترن صفة العفو مع صفة الشدة والحزم، خصوصاً لدى القادة الذين ينشغلون بالتأسيس والمواجهات، لكن الملك عبدالعزيز أثبت للجميع قدرته على العفو في أصعب الظروف شدة.

وتنعكس إنسانيته المميزة في حرصه على العفو حتى مع أشد الخصوم.. يقول هاشم الرفاعي -رحمه الله- في كاتبه (من ذكرياتي) المنشور في سنة 1358هـ: «ميز الله عبدالعزيز العبدالرحمن الفيصل آل سعود بمميزات حميدة قلّ أن تجدها مجتمعة في سواه من عظماء الرجال البارزين، ومنها انطباع نفسه الكبيرة بطابع احترام من ألوى الدهر عنان عزّهم من الأمراء، وذوي الوجاهة بين قومهم، ومواساتهم بنفسه في جميع الحالات التي تستوجب راحتهم وتسليتهم، فيحفظ هيبتهم بين الناس، حفظاً من شأنه أن يجعلهم ينسون أن سلطانهم قد زال، ونفوذهم قد ذهب».

ولأهمية هذا المبدأ لدى الملك عبدالعزيز فإنني أشرحه لعدد من الضيوف الذين أقابلهم، وأوضح لهم كيف أصبحت هذه البلاد متماسكة وموحدة بفضل الله عز وجل أولاً، ثم بفضل هذه الخصال الحميدة، والمبادئ العظيمة التي التزمها الملك المؤسس، رحمه الله، كما أبين لهم اهتمامه بتنظيم الجالسين، إذ كان يقرّب أولئك الرجال الذين كانوا في يوم من الأيام خصومه، ثم أصبحوا من أخلص رجاله، فكانوا يجلسون عن يمينه وعن شماله مباشرة، بينما كان يجلس أمامهم غير قريبين من الملك كبار أسرته وإخوانه، وولي عهده الملك سعود، ونائبه في الحجاز الملك فيصل، وأبناؤه الكبار إذا حضروا، وكان بقية أبنائه يجلسون في آخر المجلس عن يمينه.

وفي هذا دلالة واضحة على إنسانية عبدالعزيز وقدرته على استيعاب الجميع، ومحبته للخير، وخلو قلبه من الحقد أو الانتقام.

كما عُرف عنه وفاؤه للرجال الذين يؤدون أعمالاً إنسانية لمصلحة المحتاجين.. فمن مواقفه الإنسانية - رحمه الله - أنه عندما دخل جدة أكرم الشيخ محمد الطويل - رحمه الله - واستقبله بكل ترحاب، وشكره على ما كان يقوم به للناس من شراء الاحتياجات وتدبير سكناهم، على الرغم من أنه كان من قبل في جانب خصمه إلا أن الملك عبدالعزيز عيّنه مديراً لمالية الأحساء، وأصبح من خيرة رجاله الأوفياء.

ومن خصائصه - رحمه الله - وفاؤه لمن وقف إلى جانبه في مرحلة مبكرة، وخصوصاً في أثناء حملات توحيد البلاد.. فقد كان له في كل مكان أنصار ومؤيدون، على الرغم من وقوع بعضهم تحت نفوذ خصومه آنذاك، وكان يحرص على تقديرهم، والعناية بهم لمواقفهم المخلصة تلك.

العدل والإنصاف

وقال سموه: أما العدل في شخصية الملك عبدالعزيز فسمة أساسية، لأنه من جوانب الدين، ومقتضى الحكم الصحيح.. فكان عدله واضحاً، لا يقبل الظلم أبداً.. والشواهد كثيرة على عدل عبدالعزيز وإنسانيته. إذ كتب أمين الريحاني في كتابه (ملوك العرب): «كان الملك عبدالعزيز يراقب قافلة أناخت بالقرب من مخيمه في العقير، وكان بها جمل متعب، فطلب صاحبه، وأبلغه أن يترك الجمل يرعى، ولا يعيده إلى القافلة رأفة به.. وقال الملك للريحاني: «العدل عندنا يبدأ بالإبل، ومن لا ينصف بعيره يا حضرة الأستاذ لا ينصف الناس».

وفي موقف إنساني آخر نجد أنه يضع نفسه محامياً عن المحتاج إلى أن يحصل على حقوقه.. فها هي ذي المرأة المسنة من أهل مكة المكرمة تصل إلى باب قصره بمكة.. وتشكو إليه أمراً في قضية ميراث لها قائلة: ليس لديها من يدافع عن قضيتها، فأخذ جلالته ما بيد تلك المرأة من أوراق قائلاً: إنه وكيلها في هذا الأمر، وتابع الموضوع شخصياً مع المحكمة الشرعية حتى انتهت قضيتها.

ومن المواقف الإنسانية الأخرى حرصه على مصالح المواطنين وحاجتهم، والدفاع عنها، وإبراء ذمته، رحمه الله، ومن نتائج عدله وسياسته أن أصبحت البلاد في أمن واستقرار.. يروي عقيل بن فهد الخطيب -رحمه الله، أحد مرافقي الملك عبدالعزيز- قائلاً: صادف الملك عبدالعزيز في إحدى نزهاته في الصحراء امرأة تسير وحدها، فلما أرسل وراءها أحد رجاله ليسألها عن مقصدها، علِم أنها ترغب في الذهاب إلى الأحساء للتمون.. فسألها الملك: أليس معك رجل؟ قالت له: نعم معي الله، ثم عبدالعزيز.. فنزل الملك من سيارته وسجد شكراً لله، ثم التفت إلى من معه، وقال: من معه ورقة يا جماعة؟ فقال عقيل: حاضر.. فقال الملك: أكتب.. بمجرد أن تصلكم هذه المرأة أعطوها كل ما يلزمها من كساء ومؤونة.. وقال لها الملك: خذي هذه الورقة لتحصلي على ما تريدين. فقالت المرأة: ما يعطي مثل هذا إلا عبدالعزيز.

العطف والكرم

هما صفتان كانتا ملازمتين للملك المؤسس، قال عنهما سمو الأمير سلمان في كتابه:كان عبد العزيز ينظر إلى شعبه دائماً بأنهم جزء لا يتجزأ منه، وكان يستقبل المواطنين من أنحاء البلاد في الرياض أو أينما يكونون، ليقابلوه ويستفيدوا من كرمه الفطري، وكان يعتني بهم، ويسأل عن احتياجاتهم وأحوالهم.. وعندما اشتدت الأزمة الاقتصادية، بسبب الحرب العالمية الثانية خصص مواقع متعددة للضيافة، وتقديم الطعام إلى المواطنين في أنحاء البلاد لرفع معاناتهم.. وانتشرت المخيمات والمطابخ والمخابز والمبرات في أنحاء البلاد لتوفر للمواطنين احتياجاتهم الأساسية من الغذاء.

وكان يأخذ معه دائماً صُرراً فيها نقود فضة في السيارة ليساعد بها من يقابلهم من المحتاجين في الطريق.. فقد روى خير الدين الزركلي في كتابه (شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز) «أنه في يوم من الأيام كان -رحمه الله- يتجه نحو عرفة، ورأى جمَّالاً، وتوقف بالقرب منه، وجاء وسلم عليه، وسأله الملك عن أحواله، ثم ناوله صرة نقود، وبعدما تحركت السيارة قال السائق للملك: إن الصرة التي أُعطيت للرجل كانت ذهباً، وليست نقود فضة، فطلب الملك من السائق العودة إلى الرجل، وكان السائق يعتقد أن الملك سيستعيد تلك الصرة ويستبدل بها صرة أخرى، لكنه فوجئ بأن الملك يخبر الرجل أن الصرة التي أعطيت له هي صرة ذهب، وأن الواحد منها بعشرين من النقود العادية، ونبهه حتى لا يخدعه أحد لعدم معرفته بذلك، وأمر السائق أن يمضي في المسير قائلاً: أعطاه الله».

وكان عبدالعزيز يربي أبناءه على الكرم.. فقد حكى خير الدين الزركلي في كتابه: (شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز) «أنه كان في معيته في إحدى نزهاته برفقة أخيه الأمير عبدالله -رحمه الله- وبعض المستشارين، وكان في السيارة أحد أبناء الملك في سن الخامسة، فدفع إليه الملك قبضة من دراهم الفضة، وبدأ يلعب بها الطفل، ثم قال له الملك: وزِّع على الإخوان الذين في السيارة، فوزعها كلها، ثم التفت إليه، وسأله: أين الدراهم؟ فمد الأمير الصغير يديه فارغتين: فقال له الملك: سيعوضك الله عنها، فأعطاه غيرها.. وما زال يعطيه وهو يوزع، فأدركنا على الفور أن الأب العظيم كان يلقن صغيره درساً عملياً في الكرم.

 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة