Thursday  25/11/2010 Issue 13937

الخميس 19 ذو الحجة 1431  العدد  13937

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

ليل والطريق إلى الشمال طويل، وفيروز تغني، غناؤها هيج في شبق الحزن وشبق الهوى وشبق مواصلة الرحيل، فيروز تغني غناؤها كالمطر، نرجس وأديم فرح، حقل تفاح، ودالية عنب، معجونة هي من شمس وقمر وحب وسلام، .....

..... آهاتها التي تتلوى موجعة نسجت للبنان خيوطاً للحياة وعناقيد ضوء لتقهر سوادة والظلام، لكن لبنان يظل جريحاً مثل عصفور فقد عشه، يلعق جراح جسده المتتالية جرح يتلوه جرح، لبنان يقاوم عبثا يقاوم، يحاول ألا يستسلم لدوامات مدارية عاصفة، فيروز تضمه إليها بحنو تقبله في منطقة الوسط مابين العين والعين، تربت على ظهره، ترحل به، تهرب به بعناد العناد، إلى شعاب الحلم وازدهار الحلم ويقظة الحلم، تغني له بحرقة:

(بحبك يالبنان.. ياوطني بحبك..

بشمالك بجنوبك بسهلك بحبك..

بتسأل شوبني وشوا اللي مابني..

بحبك يالبنان ياوطني)

مقطع رائع كالزهر أو كأديم الربيع أو كحسناء فاتنة في يوم زفافها، لكن الغربان السود غطت أرض لبنان وسماه، والبوم تنعق، والرياح العاتية الصفراء تهب، و(الزعران) يحاولون إطلاق الرصاص على كل شيء حي ومتحرك، والغرباء يحاولون صبغه بالشغب والفوضى والدم، لكن فيروز تراقب جرحه واتساع ألمه وجباله التي تتهاوى والذئاب التي تنهش بآماله وجسوره المهترئة وألوانه التي أكلها الصدأ وقلبه الضائع بين سكين ملل وحب سوط وعويل طويل:

(مافي حدا.. لاتندهي، مافي حدا..

عتمة الطريق.. وطير طاير عا الهدا..

بابهم مسكر.. والعشب غطى الدرج..

شو ألكم.. شو ألكم..

صاروا صدى.. ومافي حدا)

هاهي فيروز تفكر بميتافيزيقيا وجود لبنان وماوراء أحاسيسه وتعثر خطواته وظلمة شكة ليجيء صوتها في مستوى كينونته:

(مع مين بدك ترجعي بعتمة طريق..

لاشاعله دارهم ولا عندك رفيق..

ياريت ضوينا القنديل العتيق..

بالقنطرة، يمكن حدا أهتدى

ومافي حدا)

فيروز لغة لبنان وحروفه الأبجدية وهويته ورئته وحنجرته وضوئه الساطع وميراثه التاريخي، لصوتها سلاما وقبولا وقناديل محبة، صنعت للبنان مجدا عجز عنه الباحثون هناك عن نياشين البطولات الكاذبة، اهدت للبنان شمسا وقمرا ونورا عندما تعثر الآخرون هناك في أن يمنحوه السلام والدعة والخلود، صوتها كتب رسائل حب كثيرة عندما حاول المتلونون هناك إجهاض صيرورته، خلفت نتاجا متفردا في المسرح وفي الغناء وطافت بلبنان إلى آخر المطافات بعيدا عن الجرح والثمة والنقص المنطقي الذي سكن كثيرا من عقول الباهتين هناك المختبئين والمرئيين والذين يعيشون مرحله الإنسلاخ الفكري المقيت والباحثين عن الألقاب الرنانة والمستحوذين على المنبر والملتقى والمنتدى والمجيشين والتعبويين وأصحاب التبليغات والأدبيات الحزبية والذين تكاثرت دلائهم حتى اكتظاظ البئر والذين يلبسون الكفن الكاذب الممتزجين بين العقائدية المفرطة والضجيج المنكسر والمحبطين للبشر والساردين الكلام والتاركين خلفهم صرخة من يسقط بسببهم في هاوية، إن فيروز تراجيديا توجس وملهاة حزن وضحكات صغيرة مبعثرة، تحرض صوتها لتنقذ لبنان من الخراب والموت المؤجل المفخخ على الاحتمالات الرمادية القادمة، إنها بيت من ذهب ونهر من عجب، مطر من حزن ووهج من لواعج، استطاعت أن ترسم نفسها في كل خلية من خلايا لبنان، للبنان عندها ملمس تجريدي متفلسف له مخيلة ضوئية ووجه عذب، للتو تذكرت مقطعا من مسرحيتها (الشخص) تسأل فيه من حولها بانكسار (بدكم تحطوني الحبس؟) لا أدري لم أشعر الآن بأن عتبها موجه للبنانين كافة نخبهم والعامة تلومهم فيه لسكوتهم وصمتهم الذي حول لبنان إلى إرث يتنازع عليه الورثة كأنه حطب سنديانه، ها هي فيروز معي تغني والطريق إلى الشمال طويل به قفر ووحشة وحلكة، انتشيت لهذه الفيروز، وكنت أتلاشى أمام كل مقطع تغنيه أصفق لها وأحيي فيها حزنها ونرجسيتها الأخاذة، تدبك فيروز، فيروز تدبك، تلوح الجديلة تلو الجديلة، الأرض تدور، وصوتها الجبلي يتردد صداه في عقلي وفي ذاكرتي وهي تغني (الميجنا والعتابا وأبوالزلف وعلى جسر اللوزية وسألوني الناس ومرئت الشتوية ويادارة دوري فينا والأمطة عنبية وجارة الهوة وشايف البحر ويامرسال المراسيل وشتي يادينا وعم يلعبوا الولاد) فيروز عندما تغني غناؤها صرخة وخطب احتجاج، ترتدي ملابس الميدان، تضع على رأسها خوذة، تحمل في يدها بارودة، وفي يدها الأخرى زهرة بنفسجية وأخرى بيضاء، غنت لبيروت وللثلج ولشجرة الأرز وللجنوب ولجبل الشيخ ولمكة وللقدس وللشام وللعروبة كلها، فيروز قابعة هي الآن في مدينة الحزن والانتظار والقادم المعتم الذي ربما سيجيء، الصقيع العالق بين أهدابها لايذوب، والريح العاتية تحملها لترمي بها إلى كهف به رعب ووحشة وعتمة، لايؤنس وحدتها سوى طير ضال عبثا يبحث عن غيمة يغازلها، فيروز راحلة دوما مابين صقيع لبنان وغابات الليل والريح وجنون البشر والعصافير الخائفة والآتي المخيف، لكنها فيروز مازالت حمامة تدشن الفضاء وتعود بالتصفيق، تشعل مصابيح المساء، تزرع برتقالة هنا، وعريشة عنب هناك، وأوراق توت في منطقة الوسط العارية، فيروز تحفة فنية شيقة وشفافة لها سرها الخاص وجرحها الخاص ومحياها الخاص وموتها الخاص إنها إحدى عوالم الإبداع على هذا الكوكب الحارق المتأرجح، عكس الخرافيون هناك الذين يقتاتون على الأساطير والشعوذة والبهرجة والتلون والتبدل واستعراضات (الولدنة) السقيمة والسواد وذر السخام والتراب وعلى كذبة (الفزعة) الآتية من باطن السراديب العتيقة المتلبسين بالوهم وبالهلوسة الجاعلين من أنفسهم علماء بمنطق الطير.

ramadanalanezi@hotmail.com
 

فيروز (لاتندهي مافي حدا)!
رمضان جريدي العنزي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة