Thursday  25/11/2010 Issue 13937

الخميس 19 ذو الحجة 1431  العدد  13937

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

 

في الولايات المتحدة: ضجّة بين أتباع أحمد والمسيح
رأي واجتهاد
د. صادق جلال العظم

رجوع

 

درج الأمريكيون على تسمية بقعة الارض التي كان مبنى مركز التجارة العالمية قائماً عليها، ببرجيه العاليين الشهيرين، في مدينة نيويورك ب «جراوند زيرو» (Ground Zero) ولنقُلْ بالعربية «البقعة رقم صفر» في تلك المدينة.

وبينما كنت أتابع من بعيد مسلسل الأخبار المثيرة والمناقشات الحادّة والمجادلات الصاخبة حول مشروع لبناء مركز إسلامي ومسجد على مقربة من «البقعة رقم صفر» حَرَفَ انتباهي حدث أمريكي بارز وصاخب آخر جرى في العاصمة واشنطن.

في 28 آب (اغسطس) 2010 تظاهر حشد كبير من اليمين الأمريكي والمحافظين الجدد وأنصار ما يسمى خطأ في الصحافة العربية ب «حزب الشاي» (*) (Tea Party USA) عند النصب التذكاري للرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن في العاصمة الأمريكية منادين ب «استعادة الكرامة الأمريكية» المهدورة وبما شابه ذلك من شعارات ومطالب. والمفهوم في هذا السياق أن الذي هدر تلك الكرامة هو انتخاب رئيس أسود للبلاد للمرة الأولى في تاريخها، رئيس أسود من أبٍ مسلم يحمل اسمه الثلاثي علامة فارقة جداً هي الاسم العربي: حسين.

تعمّد أصحاب المظاهرة «البيضاء» هذه، التحشد عند النصب التذكاري للرئيس لنكولن في يوم محدد هو 28 آب (أغسطس) لأن القائد الأسود الفذّ لحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، مارتن لوثركينغ (Martin Luther King)، كان قد ألقى خطابه الشهير «لديّ حُلُم» (I Have a Dream) عند النصب التذكاري إياه في يوم 28 آب (أغسطس) قبل 47 سنة بالتمام والكمال. إنه الخطاب الذي أطلق الحركة الاجتماعية - السياسية التحررية الكبيرة التي فكّكت نظام التفرقة العنصرية في البلاد وأطاحت ب»الأبارتايد» الأمريكي كما كان معمولاً به في تلك الأوقات.

سارَعَتْ التيارات الليبرالية الأمريكية ومنظمات الحقوق المدنية، وهيئات الدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات، والقوى المدافعة عن المساواة أمام القانون وغيرها في المجتمع الأمريكي إلى رفع الصوت عالياً في استنكار ما قامت به المظاهرة اليمينية «البيضاء» وفي إدانة الاستفزاز الفظيع الذي شكلته لباقي المجتمع الأمريكي عموماً ولأفضل ما تحقق فيه من مُثل وقيم تحديداً.

في الواقع، اعتبرت هذه القوى والتنظيمات والهيئات والتيارات أن التكتيكات التي لجأ إليها أصحاب المظاهرة «البيضاء» والشعارات التي رفعوها والمكان الذي حدّدوه لتجمعهم في العاصمة الأمريكية واليوم الذي اختاروه لإلقاء خطاباتهم وعرض مطالبهم هناك، تشكّل كلها استفزازات شنيعة وإهانات متعمّدة عن سابق تصميم وإصرار ليس لكل ما في الليبرالية الأمريكية الكلاسيكية من مُثُل وقِيَم فحسب، بل ولكل ما أنجزه المجتمع الأمريكي في نصف قرن من تقدم على صعيد القضاء على نظام التفرقة العنصرية الموروث وتصفية تركة «الأبارتايد» الوطني المعهود.

هنا، سألت نفسي: ألا ينطبق منطق الاستفزاز والإهانة ذاته على مشروع بناء المركز الإسلامي والمسجد بالقرب من «البقعة رقم صفر» (جراوند زيرو) في مدينة نيويورك؟ لا أريد الاجابة على السؤال بصورة تبسيطية إذ من الواضح أن النيّة وراء المشروع هي المصالحة والتسوية والصفح المتبادل وليس مجرّد التعسف في استخدام الحق العام لأية مجموعة من المواطنين في بناء مركز لها ودار لعباداتها حيثما تشاء ضمن حدود القواعد والأنظمة المرعية؛ أو التعسف في استخدام الحق الدستوري الآخر في حرية العبادة والمعتقد الديني وحرية التعبير السلمي عن النفس في أي مكان مهما كان على الأرض الأمريكية وذلك بالإصرار الاعتباطي على حق إنشاء المركز والمسجد في حرم «البقعة رقم صفر» مهما كانت الظروف والشروط والنتائج والحساسيات.

في المقابل، لم يتكتم أصحاب المظاهرة «البيضاء» على تعسفهم في استخدام الحق الدستوري العام في التجمع والتحشد والتظاهر والتعبير عن الرأي والنفس من أجل استفزاز كل من يحمل خطاب مارتن لوثر كينغ ومفاعيله العملية على محمل الجدّ، وإهانة كل من ينتمي إلى النقلة النوعية الكبيرة التي أطلقها ذلك الخطاب في الحياة الأمريكية ويلتزم بإنجازاتها ومكتسباتها.

في اعتقادي كذلك، يشكو مشروع بناء المركز الإسلامي والمسجد على مقربة من «البقعة رقم صفر»، في أحسن أحواله، من سوء التقدير والتدبر من جانب أصحابه ومؤيديه ومن نقص كبير في أصول اللباقة وحسن التصرف المطلوبة كلها في اللحظات الحرجة والدقيقة مثل لحظة 11 سبتمبر (ايلول) 2001 وآثارها السلبية العميقة في حياة الأقليات العربية والإسلامية في المجتمعات الأوروبية عموماً وفي المجتمع الأمريكي تحديداً. كما ينطوي المشروع، في نظري، على استهتار كبير بالآخر وظروفه وشروطه وبحساسيات «العيش المشترك» معه وآليات هذا العيش وضروراته. هذا كله في الوقت الذي تتذمر فيه هذه الأقليات أشدّ التذمر من استهتار الآخرين بها وبظروفها وشروطها ومن الانتهاك الفظّ لحساسيات العيش المشترك معها وآلياته وضروراته!؟

أما في أسوأ أحواله، فإن المشروع يُعرِّض نفسه وأصحابه ومؤيديه للاتهام بالاستفزاز المجاني المتعمَّد للفريق الآخر المنكوب بهجمات 11 سبتمبر (أيلول)؛ وبالتعسف في استخدام الحقوق الدستورية العامة في إنشاء المراكز الخاصة وبناء دور العبادة والتمتع بحرية ممارسة الشعائر الدينية وحرية المعتقد الديني؛ وبسوء النية والنفاق بالنسبة للغاية الحقيقية الكامنة وراء المشروع. ولا يمكن لهذا كله إلاّ أن يلحق الضرر البالغ بالأقليات العربية والمسلمة وبصورتها ومصالحها ومجرى حياتها اليومية خاصة في بلد مثل الولايات المتحدة، أي بلد ظاهرة الBacklash (ردود الفعل الارتجاعية الهوجاء في المجتمع) بامتياز. لهذا اعتقد بحكمة نقل مشروع بناء المركز الإسلامي والمسجد إلى موقع أكثر ملاءمة في مدينة نيويورك مما من شأنه أن يقطع كل شك في حسن نوايا أصحاب المشروع وفي شرعية غايتهم وجدية مصداقيتهم.

على أية حال، نعرف الآن أن أصحاب المشروع ومؤيديه قاموا بتقديم سلسلة من التنازلات لإرضاء الطرف الآخر المعترض مما أفقد المشروع معانيه ومغازيه الأصلية. على سبيل المثال، وافقوا على تبديل اسم المركز من «بيت قرطبة»، بما يحمله من معانٍ رمزية وتاريخية وإسلامية، إلى «بارك 51» (Park 51) وهو الاسم الذي لا يوحي بشيء لأنه مجرّد اسم شارع من شوارع مدينة نيويورك وعنوان بريدي عادي لا أكثر. كما أنكروا أنهم يريدون بناء مسجد أصلاً مؤكدين لمن يهمهم الأمر أن المركز لن يتميز في مظهره الخارجي بأية علامات تدلّ على أنه مركز إسلامي من أي نوع. بعبارة أخرى، لن تكون هناك مآذن ولن يتزيّن البناء من الخارج بأية مظاهر معمارية أو زخرفية تدلّ على انتمائه إلى الإسلام والمسلمين. علمت كذلك أن رجل الأعمال السعودي والمستثمر العالمي الشهير الأمير الوليد بن طلال نصح هو أيضاً أصحاب المشروع، وبصورة علنية، بإبعاده عن حرم «البقعة رقم صفر». لذلك كله يبقى من الأفضل نقل موقع المركز والمسجد معه إلى موقع آخر في المدينة حيث لا حاجة إلى تمويه منظره ووظيفته والتستر على هويته الحقيقية بهذه الطريقة السخيفة والمهينة.

بالإضافة إلى ذلك، من المفيد لأصحاب المشروع ولمؤيديهم ومناصريهم أن يتذكروا جيداً، في خضمّ هذه الضجة وتداعياتها، أنه ليس لدى «عمقهم الإستراتيجي» المفترض والمؤلف من العالمين العربي والإسلامي أي نموذج رسمي أو شعبي مقبول أو مفيد ليقدمه لهم أو لغيرهم على صعيد احترام الحريات العامة والحقوق الدستورية الناجزة وبخاصة تلك الحقوق والحريات المتعلقة بالمعتقد الديني وممارسة غير المسلمين لطقوسهم وشعائرهم وعباداتهم براحة واطمئنان بالإضافة إلى حرية بناء دور العبادة والمراكز الدينية من جانب أصحاب أديان العالم الأخرى.

أطلّت ظاهرة الBacklash الأمريكية برأسها هذه المرة في شكل تهديد خبيث وحقير بإحراق نسخ من القرآن بطريقة طقوسية مشهدية عامة بمناسبة إحياء ذكرى ضحايا هجمات يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وهي الهجمات التي تمت، كما هو معروف، باسم الإسلام وتحت راية الجهاد الإسلامي العالمي. ولننتبه هنا إلى أن التهديد الذي أطلقه القسيس الإنجيلي من ولاية فلوريدا والصخب المحلي والدولي الذي أثاره على أعلى المستويات، جاء ليذكّر أصحاب مشروع المركز الإسلامي ومن معهم ووراءهم بأن حشداً كبيراً من الأقلية المسلمة في مدينة برادفورد في بريطانيا هو المسؤول عن إعادة إحياء الطقوس القروسطية لإحراق الكتب عندما قام ذلك الحشد بإضرام النار سنة 1989 برواية سلمان رشدي «الآيات الشيطانية» في الساحة العامة للمدينة وبأسلوب طقوسي - مشهدي رآه العالم بأجمعه عبر البث الحيّ للمشهد المقزز والمؤذي.

يحيل تهديد القسيس الإنجيلي كذلك إلى فعل شنيع آخر تمثل في قيام الحكومة الإسلامية الطالبانية في شهر آذار (مارس) 2001 بتدمير التمثالين التاريخيين الضخمين للبوذا في منطقة باميان في أفغانستان باسم الإسلام الذي يحطم الأصنام أينما كانت ومهما كانت. ولم يرتفع يومها في العالمين العربي والإسلامي أي صوت مهم شخصياً أو معنوياً أو مؤسّساتياً أو علمانياً يدين علناً وبوضوح وبلا مواربة أو غمغمة هذا الاعتداء المجاني العنيف على مقدسات الأديان الأخرى في عالمنا المعاصر.

في تسعينيات القرن الفائت كانت واحدة من أبرز التُّهم الموجهة إلى رواية «الآيات الشيطانية» هي الإساءة العميقة إلى مشاعر ومعتقدات مليار ونصف مليار مسلم في العالم. ولا شك في أن أية عملية إحراق مشهدي اليوم لنسخ من القرآن ستشكل إساءة فظيعة لمسلمي العالم أينما كانوا ومهما كانوا. مع ذلك، عندما نسفت حكومة طالبان الإسلامية تمثالي البوذا في باميان بالديناميت لم نسمع أية أصوات ذات وزن وشأن في العالمين العربي والإسلامي ترتفع لتستنكر أو لتقول شيئاً عن الأهمية التاريخية والآثارية أو القيمة الفنية والجمالية أو الشأن الديني والمعنوي الكبير للتمثالين المنسوفين إن كان ذلك بالنسبة لتراث الإنسانية بشكل عام أو بالنسبة للمؤمنين بدين عالمي - تاريخي آخر، بشكل خاص.

أخيراً، واضح أن قادة الأقليات العربية والإسلامية ونشطاءهم في الولايات المتحدة وغيرها لا يقصِّرون هم أيضاً في استخدام (وسوء استخدام) المعايير المزدوجة والمثلثة والمربعة والاستنسابية والتعسفية حين يحلو لهم ذلك على الرغم من أنهم لا يكلّون ولا يملّون، صبحاً ومساءاً، من اتهام مجتمعات الغرب عموماً والمجتمع الأمريكي تحديداً بازدواجية المعايير في التعامل معهم ومع جماعاتهم!؟ ولا ينفع في هذا المقام الاعتداد بالموقف الإسلامي التقليدي المُنزَّه للذات عن مثل هذه الأفعال والمتشاوف على الآخرين باعتبار أنهم هم وحدهم الذين يرتكبونها.

لذا يستحسن بأن تلتفت الاقليات العربية والمسلمة في الولايات المتحدة وغيرها جدياً إلى الحكمة العربية الشعبية الشائعة والقائلة: «من كان بيته من زجاج لا يرمِ الناس بالحجارة».

(*) ال Tea Party USA ليس حزباً بالمعنى السياسي المعروف، بل حركة شعبوية طارئة تحيل في تسميتها لنفسها إلى حدث هام في التاريخ الأمريكي المبكِّر وقع يوم 16 ديسمبر 1773 في مرفأ مدينة بوسطن. ويطلق الأمريكيون على ذلك الحدث اسم The Boston Tea Party (حفلة الشاي في بوسطن) ساخرين بذلك، على الأرجح، من ولع الطبقات الإنكليزية الراقية وقتها بشرب الشاي وبحفلات الشاي وبتناول الشاي في الساعة الخامسة من بعد ظهر كل يوم من أيام الأسبوع. في اليوم المذكور قام حشد كبير من الأمريكيين الثائرين باحتلال ثلاث سفن بريطانية محمّلة بالشاي احتجاجاً على الضرائب العالية التي كانت الدولة المستعمِرة (بكسر الميم) تفرضها على تجارة الشاي وقاموا بإلقاء كامل حمولاتها في مياه المرفأ رافعين الشعار المشهور:

«No Taxation Without Representation»، أي لا ضرائب بلا تمثيل نيابي أو برلماني.

- بيروت

 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة