Friday  26/11/2010 Issue 13938

الجمعة 20 ذو الحجة 1431  العدد  13938

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

 

قصة قصيرة
اليقظة
د. هشام السحَّار

رجوع

 

(1)

الظلام يلف كل شيء حوله.. كمن سافر لألف ميل ماشيا.. ثم استغرق في نوم عميق.. آلام الجسد.. وغيمة سوداء تغطي ذاكرته.. لا يذكر شيئاً مما كان من قبل... تهاويم فقط بقيت... عن الانتقال من حال إلى حال.. لا يعرف ماذا سيحدث بعد ذلك.. لا شيء سوى الظلام الشديد من حوله.

الغرفة الضيقة تبدو خالية من أي شيء... لا يحس بأحد من حوله... وبعض الضوء الخافت يبدأ في الظهور عند نهاية الطرف الآخر من الغرفة.. بعد أن اعتادت عيناه الظلام.. أدرك أنها تأتي من ذلك الفراغ أسفل الباب الضخم الذي كاد أن يملأ الحائط أمامه..

أسند رأسه إلى الحائط خلفه.. وانتظر.. لا يدري كم مر من وقت قبل أن ينفرج الباب عن شبحين.. لم يستطع لوهج الضوء الذي صاحب انفراجة الباب أن يتبين ملامحهما.. غطى وجهه بيديه ليحميه من شدة الضوء.. وحين أراح يديه بعد برهة.. كانا يجلسان إلى جواره.. إلى اليمين جلس الرجل.. وجلست المرأة إلى اليسار.

حاول أن يتفرس في ملامحهما بعد أن اعتادت عيناه الظلام من جديد.. ولكنه لم يفلح.. وإن صاحبه شعور جديد بالأمان.

امتدت الأيدي تربت على صدره.. تهدئ من روعه... مسحت المرأة بيدها على رأسه.. ملأت السكينة قلبه.. وأحس بالظلام يتبدد شيئاً فشيئاً.. بل إنه استطاع أن يرى ملامح الوجهين..

كانا متشابهين في كل شيء.. كتوأم.. وإن ينسى.. لا ينسى تلك النظرة المشفقة في العيون.. والابتسامة المشجعة على الشفاه.. كان التعب قد زال من جسده.. وحل محله شعور بالرغبة في الاستسلام لهذا الإحساس الدافق بالأمان..

أغلق عينيه من جديد.. وراح في سبات عميق.

(2)

حين استيقظ من جديد.. كان المكان مختلفاً..

كان الضوء شديدا.. والزحام من حوله يزداد.. عشرات من الأشخاص تجمعوا في حلقات صغيرة.. انتشرت في أرجاء المكان الذي أصبح أكثر اتساعاً.. حدق في الوجوه.. كانوا جميعاً متشابهين.. ولكن الشيء الذي أثار دهشته بالفعل هو كونهم جميعاً يحملون نفس الوجه.. وجهه هو بالتحديد.

حاول أن يفهم.. لكن الدهشة سرعان ما انجلت حين اقترب منه ذلك الرجل الذي توسط أقرب الحلقات مسرعاً.. كان يحمل وجها مختلفاً.. لكنه كان مشابها لوجوه الرجال.

أخذ الرجل بيده.. كانت قبضته مزيجا من العطف الشديد.. المغلف بكثير من الحزم.. وبعض القسوة.. أجلسه مع رفاقه في الحلقة القريبة.. لم يقاوم..

أخذ الرجل في الحديث بصوت هادئ.. يعلو أحياناً.. وينخفض.. لكنه كان مفعما بالصدق.. توقف الرجل للحظات.. ثم أفرغ من قارورة كبيرة ذلك السائل الشفاف الذي كان يملؤها.. في تلك الأكواب الصغيرة التي كانت موضوعة في منتصف الحلقة... قدم لكل منهم كوبا.. أمرهم بشربه.. تردد قليلاً ولكنه لم يملك سوى الطاعة.. جرع السائل بتأنٍّ.. لم يحس له طعماً مميزاً.. ولكنه أحس بعد أن فرغ من شربه بأن هناك ما يتغير في داخله.. استمر الرجل في الحديث.. كان لكلماته الآن وقع مختلف.. وأحس لها معان كثيرة تختلف عما كان يفهمه من قبل.. بل أحس بأنه يفهم أشياء لم يقلها الرجل الماثل أمامه..

استمر الرجل في الحديث.. لا يدري لكم من الوقت.. لكنه توقف حين بدأ الضوء في الانحسار..

أخذه الرجل من يده من جديد.. عاد به مرة أخرى إلى زاويته.. أسنده للحائط.. أحس فورا بالرغبة في النوم.. أغلق عينيه.. ونام.

(3)

عندما استيقظ هذه المرة.. كان واقفا وسط حلقة من الرجال والنساء.. كان هو المتحدث.. وكانوا ينصتون.. دار بينهم حوار.. تبودلت كلمات..

أخرج من حقيبة كانت أمامه أوراقا.. أعطاها لهم.. سارعوا بالكتابة.. سأل بعضهم مستوضحاً.. أجاب باقتضاب.. جمع الأوراق ووضعها في الحقيبة.

انتقل إلى حلقة أكبر من السابقة.. كرر فيها ما سبق أن قام به في الحلقة الأولى.

لاحظ أن ملامح الناس في تلك الحلقة تختلف عن ملامحهم في سابقتها.. لم يهتم كثيراً لذلك.. انصرف اهتمامه لينجز مهمته بإتقان.. وقد فعل..

انتقل إلى حلقة أكبر من سابقتها.. كان للناس ملامح أكثر صرامة وحدة.. استلزم إنهاء مهمته جهداً أكبر.. طال الحوار وكثرت الأسئلة.. لكنه قام بمهمته على خير وجه.

أحس بالتعب يتسلل إليه.. خاصة وقد أخذ الضوء من حوله في الخفوت.. سارع يجمع الأوراق في الحقيبة.. وعاد مسرعاً إلى ركنه الأثير.

لم يكن الركن خالياً..

كانت تجلس هناك...

لم يصدق نفسه للوهلة الأولى حين رآها.. كانت تحمل ذات الوجه.. وجهه هو.. اقترب منها متردداً.. هشت للقائه.. سارعت بإفساح المكان إلى جوارها.. تبادلت معه كلمات قصيرة وهي تمسح العرق عن وجهه.. قربت يدا حانية إلى رأسه وجبينه.. أحس بأن التعب والإرهاق قد زالا.. استمرت في حديثها القصير.. بصوت هادئ.. يتسلل إلى خلاياه.. أحس بالخدر يسري في أنحاء جسده.. استسلم للنوم سريعاً بعد أن أسندت رأسها إلى كتفه.. وراحت هي الأخرى في نوم عميق.

(4)

استيقظ من غفوته

لم تكن هناك... أحس بغصة لفقدها.. نظر حوله

لم يكن هناك أحد.. سوى قليل من الرجال تناثروا في أنحاء الغرفة التي بدت أكثر ضيقا من ذي قبل.. أسند كل منهم رأسه إلى الجدار.. وحدق في الفراغ من أمامه..

حاول أن يغادر مكانه.. لكنه لم يستطع.. اكتفى هو الآخر بالتحديق في الفراغ... أحس بأن ما يراه.. هو كل ما بداخله.. خواء..

فارغ هو من كل شيء.. حتى من بقايا ذكريات أيام خلت... شاهدها تتسلل رويدا رويدا من رأسه.. وتذهب إلى الفراغ الذي يبتلع كل شيء..

أحس بجسده يزداد ثقلا.. حتى وهو باقٍّ في مكانه.. أصبح عاجزا حتى عن أن يحرك ساكنا.. مالت رأسه على صدره.. سقطت الجفون لتغلق عينيه.. ثقلت رأسه.. فراح في غيبوبة كالنوم.. أو في نوم كأنه غيبوبة.

(5)

الظلام يلف كل شيء حوله..

فتح عينيه بصعوبة بالغة.. لا يرى شيئاً على الإطلاق.. لكنه أدرك أنه صار وحيدا.. المكان أصبح ضيِّقاً... لا يتسع لسواه.. حاول أن يستجمع أفكاره

لكن هيهات.. ما عاد هناك شيء في رأسه..

حاول أن يصرخ.. أن يتكلم عله يبدد ذلك الصمت القاتل.. لكن الشفاه لم تستطع أن تتباعد.. التصق لسانه بحلقه.. صارا شيئاً واحداً..

أحس بأنه قد خدع.. كيف.. ومن الذي خدعه.. ولماذا.. كلها أسئلة بلا جواب..

لا يملك من أمره شيئاً..

أسند رأسه للجدار... ينتظر..

لا يعرف ماذا سيصير في مقبل الأيام.. ولا ماذا سيحدث بعد أن يستيقظ من نومه من جديد..

بل راودته الشكوك.. ربما لن يستطيع النوم بعد الآن... عليه أن يبقى كما هو..

سقطت دمعتان من العيون.. حاول أن يمسحهما بيده.. لكنه لا يستطيع لها حراكاً..

اكتفى بالبكاء...

وقنع بالانتظار..

انتظار ما قد لا يجيء.

 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة