Friday  26/11/2010 Issue 13938

الجمعة 20 ذو الحجة 1431  العدد  13938

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

متابعة

 

تدوينُ (الخبرات العَمَلية).. وأثَرُه في السُّلُوك الاجتماعي العَام
(خَمْسُونَ عَاماً) من الموَاقف.. أنموذجاً!
عبدالعزيز بن عبدالله بن عبدالعزيز السليِّم

رجوع

 

التيقُّظ لتجارب الحياة، والأخذ بالعزيمة في عمارة الإنسان، والسعي الدؤوب في إنشاء جيلٍ مستكمل الأدوات في الفضائل والعزائم، ومتأهل للقيام بواجب الاستخلاف.. كل هذه الأصول -من أصول المقاصد الفاضلة- لا يمكن أن تستتم وتكمُل بخبراتٍ (مُستأنَفَة)، ولا بتجارب مبتورةٍ عن ماضيها، أو خالية الوفاض من الرَّصْد التاريخي والإرث الحضاري.

ومن هنا؛ انعقدت كلمةُ الحكماء -مُنذ القِدَم- على أهمية الحفظ والتدوين للتجارب والسير.. للدول والأشخاص؛ لا لأجل تكراره، أو العيش فيه، أو التغنِّي المجرَّد ببطولاتٍ لم يشهدوها.. وإنما لإدراكهم حاجةَ الإنسان الفطريَّة للاقتداء والمحاكاة والتأسِّي، وحاجتَه الشديدة لمعارف متنوِّعة، ومآخذ متعددة، وخيارات كثيرة.. تمنحُهُ: فرصةَ المداولة والموازنة والتقدير، ومَلَكَةَ الاستدلال بالسابق على اللاحق، وقياس النتائج على مقدماتها.. ولما في هذه (المدوَّنات) التاريخية -أيضاً- من المواقف والتجارب التي تضيف إلى الإنسان آراءً وتجاربَ وأفهاماً إلى رأيه وتجربته وفَهْمِه.. فتختصرُ عليه الطريقَ نحو القيام بواجباته، وتُوقِفُه على ما انتهى إليه الآخرون من خُلاصَات التجارب والأعمار.. وكما قال المأمون: (لا شيء أطيب من النظر في عقول الرجال)... (وهل المجرِّبُ مثلُ منْ لم يعلمِ؟)

وهي -أيضاً- تُخرج الإنسان من دائرته الضيِّقة، وعمره القصير؛ لتنقله إلى الأفق (الأرحب) في (بُعْدِ) الزمان والمكان، وهذه (الرَّحابة) التاريخيَّة تبيِّنُ للإنسان شناعةَ الخطأ حينَ يرى الماضي في الحاضر، أو الخطأ في قراءة بعض المظاهر الاجتماعيَّة وفهمها، كالخطأ مثلاً في (فهم) العبارة الاجتماعية الشهيرة للإمام ابن خلدون رحمه الله: (الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء).. حينها يكرر المخطئُ نفسَه، ولا يتنبَّه للمستقبل إلا بعد تجاوزه.. ويخطئ في الناحية الأخرى من يعزل الأمة عن تاريخها، أو يفصم العُرى بين أزمانها الثلاثة؛ إذ كلٌّ منها نتيجةٌ متولِّدةٌ عن الأخرى.. حتى تصل الأمة إلى المستقبل الذي أراده الله لها؛ إرادةً كونية وشرعية. وعند علماء الاجتماع: (الحاضر وليد الماضي).

بهذا النَّهج الكريم؛ أخذ رُوَّادُ الأمة ومؤرِّخُوها من العلماء والأدباء؛ فدوَّنوا الدَّواوين، وحفظوا التراجم.. وكانت أدواتُهم في كلِّ ذلك: العلم والأمانة، والصدق والنزاهة، والعدل والإنصاف، وسلامة النوايا، وصفاءَها من الحَسَد والظُّلم والتجنِّي.. كلُّ ذلك؛ إيماناً منهم رحمهم الله بأهمية التاريخ، وأهمية حفظه وتدوينه، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: (من حفظ التاريخ زاد عقلُه).. والتاريخ -بتوفيق الله- فَعُولٌ لهذا، ولأكثر منه!

ومن عجائب تاريخنا -نحن المسلمين- استواءُ طرفيه، وتشابه أوله وآخره في جَوْهَرِ المبادئ والقيم، والمُثُلِ والأخلاق، والخير والفضيلة، والحقِّ المنشود.. ومن شواهد ذلك في إرثنا المقدَّس: آيةٌ من سورة الحشر، وحديث: «وددتُّ أنَّا قد رأينا إخواننا...»، وحديث: «إنْ قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، وغيرها مما يضيق المقام عن تفصيلها.

كل هذه الشواهد وغيرها ممَّا نراه في زماننا من المواقف والأحداث؛ تزيدنا استبشاراً بهذا الخير المتأصِّل في النفوس، والفألِ المستولي على القلوب؛ بأن الأمة -بإذن الله- في مزيدٍ من الخير والبناء والترقِّي؛ رغم الظروف، ورَهَقِ التحدِّيات.. ويزداد الفأل مع قول المولى جلَّ شأنه: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).

ومن صور هذا (الخير)؛ ما نراه بعين التقدير والاحترام من مبادرات كريمة من الرُّوَّاد (الذخائر) لهذه البلاد المباركة؛ من العلماء والأدباء.. الذين دوَّنوا تجاربهم، وسطَّروا آراءهم، ونقلوا سِيَرَهم وخبراتِهم -بل ورؤيتَهم في النقد والتصحيح- إلى إخوانهم، وأبناء الجيل من بعدهم، إنه توريثٌ للخبرات، وتبرُّعٌ محفوظٌ في رصيد (المدَّخرات العَمَليَّة) و(التراكمات الحضارية) في الحساب المعرفي للدولة والوطن.. وهي -في ذات الوقت- (مقدَّراتٌ وطنية) يجب حفظُها وتوثيقُها، والحفاوةُ بها؛ خاصة إذا جاءت من رجال ذوي فكرٍ غوَّاص، وبصيرة نافذة.. أولئك رجال أقاموا في العلم والعمل حِلْفاً، وجمعوا إليه أدباً وخُلُقاً، وحماسةً وغيرة.

إن حفظَ التجارب وتدوينَ الخبرات -سواء أكانت من أصحابها أو ممن عاشها وعاصرها- ؛ له الأثر الكبير في المسيرة الحضارية للأمم والشعوب.

والمتأمِّل في بعضِ المجتمعات (الشرقية والغربية) -والتي تجاوزتنا في ميدان الحضارة- يجدُ روَّادَها، وكثيراً من رجال الدولة فيها؛ يسعون إلى تدوين تجاربهم -وإن قلَّت-، وحفظ خبراتِهم -وإن صغرت-، ومن ثَمَّ نشرها وإذاعتها، ويرون ذلك (واجباً) من الواجبات الوطنية التي تمليه ا عليهم ضمائرهم تجاه أممهم وأوطانهم.. ويقابل ذلك حفاوةٌ كبيرة من تلك الشعوب بتلك المدوَّنات والتجارب، والتي ما تلبث أحياناً؛ إلا وتتصدر (قوائم أكثر الكتب مبيعاً!).. إني (أظنُّ) أن تناقلَ مثل هذه الخبرات، وتوارثَها بين الأجيال، ووجودَ هذا الهمِّ في النفوس؛ (سرٌّ) من الأسرار (العديدة) في ترقِّي تلك الشعوب ونهضتها وتقويم مسيرتها.. إيماناً منهم بوجوب حفظ النجاحات، وتوثيقها، وتجاوز الإخفاقات، وعدمِ تكرارِ سياقاتها وظروفها.. وقد قيل: (وما ناصحاتُ المرءِ إلا تجاربُه).

ومع وجود عددٍ لا بأس به -في ساحتنا الثقافية المحلية- من مدوَّنات التجارب والتراجم للقادة والعلماء والروَّاد؛ إلا أننا نجدها بالكاد تجد طريقَها إلى القارئ بالطريقة التي نطمحُ إليها، وبخاصة مع وفرة التجارب الأجنبية. وإننا في نفس الوقت الذي لا ننكر فيه تطعيمَ حكمتنا بالحكم الحيَّة -إذ الحكمةُ ضالة المؤمن-، وفي نفس الوقت الذي ندعو فيه إلى تلقيح (تجربتنا) بالتجارب الإنسانية الرَّاقية في المشتركات الإنسانية العامة؛ إلا أن التجارب الوطنية أحقُّ بالعرض، وأنفع لأبناء الجيل، وأولى بالحفاوة.. دونَ مُزاحَمَة!

ومن هنا؛ فإن التوثيق الوطني لميراثِ السنين من الخبرات والتجارب ضرورةٌ مُقدَّرة، تدعو الجميع أن لا يكتموا ما أنعم الله عليهم من الحكمة.. المتولِّدةِ عن العمل الوطني خاصة، وأن يحدِّثوا بها أعقابَهم من بني هذا الوطن، وفاءً له، ورداً لبعض الجميل.. سواء أكانت هذه الخبرات في المجال السياسي، أو الدبلوماسي، أو في مجال الطب، أو التجارة، أو القضاء، أو التعليم، أو الطاقة، أو الإدارة، أو الإعلام... وعند ذكر كلِّ مجال من هذه المجالات؛ يرد في الأذهان (خاطرٌ) مِنْ أشخاص وأسماء ومقامات، يتساءلُ معه المحبُّون عن تجارب أولئك الرواد وخبراتهم؟!... إذِ (الجميعُ بحاجةٍ للجميع)، وكتمانُ العلم مع الحاجة إليه؛ ممَّا (نبَّهتْ) عليه الشريعة، واحتاط منه العلماء.

وعلى كلٍ؛ فإن أهميةَ التوثيق، والحاجةَ إليه (تزداد) إذا (تفرَّدتْ) تلك الخبرات بالعُمْقِ في الدروس، والثَّراء في المواقف، أو عزَّ نظيرُها في الإنجاز والخبرة.

ومع كثرةِ هذه التجارب المثالية المخلصة في بلادنا المباركة ولله الحمد؛ إلا أني أحب أن أشير -في هذا المقام- إلى (أنموذجٍ) من هذه التجارب.. اقترن بها (همٌّ) اجتماعيٌ في التواصل والتآخي، و(نزعةٌ) إنسانيةٌ إلى التضامن والتكافل. (تجربةٍ) اختلطت فيها التجارب، واحتشدت فيها الاهتمامات، تجربةٍِ تُذكر فتشكر، إنها تجربةُ مَنْ تعرفون، إنها (تجربةُ) سلمان بن عبدالعزيز..

أكثر من خمسين عاماً عاشتْها الرياض في إمْرَتِه حفظه الله، كانت جزءاً من تاريخِ الدولة، والمسردِ التاريخي للبلاد.. خمسون عاماً؛ كانت مليئة بالهموم الإنسانية، ووافرة في المواقف الاجتماعية، وثرية بالتطبيقات العملية على القواعد الإدارية والمبادئ السياسية، وذلك بحكم قربه من المواطنين وهمومهم من جهة، وقربه من الإرادة السياسية والمقامات السامية من جهة أخرى.. خمسون عاماً؛ كانت حافلةً بالمنجزات والتحدِّيات، والوقائع المحلية والإقليمية والدولية.. كانت فيها الرياض (في قلب الأحداث)..

وعليه؛ فإن مشروعَ التَّدوين لهذه المواقف الكريمة -وفقَ الأصول المعتبرة لهذا الفن من التأليف- هو مشروع ثقافي، تربوي.. يحوي رسائل تنموية لرجال الدولة وأبناء الجيل في أصول الاستشراف، وأصول الإدارة والسياسة والتخطيط الاجتماعي. وسيجد هذا التدوين (عَشَرَاتِ) المواقف التي يستطيع من خلالها أن يَنْظم فصولا وأبواباً وكتباً.. في مواضيع متفرقة، وشؤون مختلفة.

فهناك المواقف الاجتماعية والتطوعية داخل البلاد وخارجها، وهناك قصة الرياض وحكايات مشاريعها الضخمة، ومواقفه الإدارية، ودوره في سن الأنظمة، وتكريس احترامها في المجتمع، ومواقفُ تفرُّسِه في الرجال وصناعة المسؤول، ومواقفه مع العلماء والدعاة والقضاة والأدباء والمؤرِّخين، ومواقفه مع ملوك الدولة، ووزرائها، ورؤساء الدول، وسُفَرائها، وأعضاء السِّلك الدبلوماسي، ورجال الإعلام والصحافة والجامعات.. حقٌّ (لأبناء هذا الوطن) أن يقفوا على ما غاب عنهم من تلك (المواقف)، والتي كان لها دورُها المحفوظ في تكوين البلاد، وتفاعلُها الواعي مع العالم كمؤثِّر وأَثَر.

وأحب في هذا المقام أن أنقل (أنموذجاً) من هذه المواقف.. وهو ما ذكره الأستاذ الفاضل الأديب زين العابدين الركابي وفقه الله في كتابه (سلمان بن عبدالعزيز الجانب الآخر) بقوله: (كان في زيارة لفرنسا وكان من ضمن الأجندة؛ لقاؤه برؤساء الشركات الفرنسية. وفي أثناء الاجتماع أبدى بعض الحضور الفرنسيين عتباً على المملكة خلاصته: إنه لا يبدو أن هناك نصيباً لفرنسا في بلد تتمدد فيه المصالح والشركات الأمريكية. ولفوره وعلى بديهته وبوضوحه المعروف وشجاعته المعهودة رد على صاحب تلك المقولة فقال: «السعودية بلد ذو اقتصاد مفتوح، ومعياره في ذلك المصلحة والتنمية الوطنية وهو بهذا المعيار يتعامل مع الجميع ويتيح الفرص للجميع» ثم ألقى القنبلة الدبلوماسية السياسية فقال: «إن الإنزال في النورماندي كان أمريكياً، وبهذا الإنزال تحررت فرنسا كما هو معروف في التاريخ السياسي، وبموجب هذا فإن فرنسا مدينة لأمريكا، وهي حالة لا توجد في المملكة» فسكت القوم).ا.هـ.. ولهذا الموقف نظائر كثيرة في (تجارب الكبار) من رجال الدولة المخلصين.

ومع وجودِ عددٍ من الجهود المخلصة في هذا الباب، والمقدَّرة، والمحفوظة في (الضمير الوطني) لهذه البلاد؛ إلا أن المطَّلع على ساحتنا الثقافية لا يكاد يجد كتاباً (متخصِّصاً) في جمع تلك (المواقف) وتقريبها.. وقد قيل: (تقريب الحكمة حكمةٌ أخرى).. فيأتي هذا التدوين مقرِّباً لتلك المعاني، وجامعاً لما تفرَّق من تلك المواقف في المقالات والكتب والمجالس.. ولتوسُّع دائرةِ البحث عن تلك المواقف بهذه الصورة مكاناً وزماناً؛ فإني على أَمَلٍ أن تقوم إحدى الجهات البحثية الوطنية بأعباء هذا (التأليف) التربوي، والتي يأتي في طليعتها (دارة الملك عبدالعزيز) بما لها من تجارب واسعة في التأريخ وتوثيق الروايات الشفوية وتوثيق الشراكة مع الجميع، وهي الجهة التي قامت بواجبها الوطني خير قيام، وعلى وجهٍ يزيدُ النَّهمَ العلمي في نفوس الباحثين والمتابعين، مما يدفعهم للمطالبة بالمزيد من أدوار التأليف والطباعة والنشر.. آملين أن يأخذ هذا المشروع مكانه بين مشاريع الدارة لنَصِلَ إلى مدونةٍ لائقةٍ بقامة الشخصيَّة الكريمة ومقامها.

وآمل أيضاً أن يكون هذا التدوين المبارك لهذه المواقف الكريمة (صورةً كتابيةً) أسيلةً، بعيدةً عن التراتيب الأكاديمية للتراجم، ومُجَانِبةً للنَّفَس المتخصِّص في السَّرد والتَّحليل، وأن يُكتفى في عملية (التدوين) بالإشراف والتصنيف، والتبويب والعنونة، والمقدِّمات المختصرة.. وبهذا؛ يكون هذا التدوين (قسيماً) للمدوَّنات المتخصِّصة في توثيق (السيرة العَمَلية) لسمو أمير منطقة الرياض حفظه الله وأمدَّ في عمره على خيرٍ وتوفيقٍ وعافية.

إن هذا التدوين عملٌ (مادِّي) ينسجم في (غاياته) مع الخطط التنموية للدَّولة وإستراتيجياتها العامة في تحويل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد (معرفي)، يعزِّز تطوير الموارد البشرية، وتنمية مواهب الإنسان.

وختاماً.. فإني لم أدوِّن هذه الكلمات؛ إلا لما أظنُّه وأرجوه من الخير الكامن في أمثال هذه المدوَّنات.. وكأني أنظر إلى شبابنا يتصفَّحون تلكم الورقات؛ فتقرِّب لنفوسهم معاني الحماسة لدينهم، والغيرة على بلادهم.. إن عقول شبابنا و(أفكارهم)؛ كأجسادهم وأبدانهم، تستلزم لصحتها الجسدية ولياقتها النفسية: (الغذاء النافع) مع صيانتها عن (الضار الدخيل).. ولا تتم الصِّحةُ إلا بهما، وإني أحسب أن هذا المشروعَ المبارك، مما ينفع ويصون.

وإني أرجو أيضاً أن يكون هذا التدوين (صورةً حيَّة) من صور التطبيقات العَمَلية في حياة المسلمين الاجتماعية لمبادئ الحكم والإدارة، وكأني به -أيضاً- يوزَّع مترجماً في سفارات خادم الحرمين الشريفين في المشرقين؛ ليُجَلِّي للآخرين -بلا تكلُّف ولا تزيُّد- أواصرَ العلاقة الإسلامية بين الحاكم والمحكوم في بلادنا المباركة القائمة على مقرَّرات الشريعة ومبادئها من الشُّورى والتَّآخي والتناصح والتعاون.

 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة