Thursday  02/12/2010 Issue 13944

الخميس 26 ذو الحجة 1431  العدد  13944

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الرأي

           

توجد في السياسة حدود دنيا وعليا، وهناك أيضا حدود وسيطة. وتمس الحاجة إلى الحدود عندما يكون هناك أطراف مختلفة ذات مصالح متضاربة، تفرض حدودا دنيا أو عليا على علاقاتها كثيرا ما تتفق ودرجة خلافاتها وشدة التناقض بين مصالحها وتوجهاتها،

فتكون علاقاتها في حدودها الدنيا أو مقطوعة، كما هو حال علاقات كثير من البلدان العربية اليوم، أو تكون في حدود عليا، ولكن من التوتر والتشنج، أن يبلغ تضارب المصالح أوجه ويصير غير قابل للتسوية، التي تدور دوما حول ما أسميته حدود وسيطة، تضمر تفاهمات بعيدة المدى حول مختلف أنواع المشكلات، أو تعبر، على العكس من ذلك، عن جهد يريد تجميد الخلافات عبر تحييد الحدود العليا، حدود الخلافات والصراعات، والبحث عن حدود دنيا تجمد البحث عن مشتركات جامعة، أو تغطي المراحل الانتقالية في علاقات وروابط الحكومات.

عموما، تكون الحدود إما إيجابية أو سلبية،. وهي توجد بالقياس إلى ما ليس منها، لكنها تتعين بدلالته، أعني القواسم والمشتركات العامة، التي ترتكز على مبادئ وممارسات يتعين في ضوئها نوع الحدود التي تفرضها حالة العلاقات والمصالح القائمة بين الدول، فإن كانت مبادئ وممارسات وطيدة بلغت الحدود أعلى درجة إيجابية ممكنة وصارت ملزمة، في حين تبلغ أعلى درجة من السلبية، إذا افتقرت السياسات إلى معايير وجوامع متقاربة أو موحدة، مثلما هو حالنا نحن عرب اليوم وحال دول كثيرة في العالم الفقير والنامي، التي تجمعها المصائب الكبيرة وتفرقها المصالح والعقول الصغيرة. بالمقابل، تسود التسويات، أي الحدود الوسيطة، حيث تتعيش السياسات من خطوات جزئية، منفصلة بعضها عن بعض ومتقطعة، وتعجز النخب الحاكمة عن بلوغ مجالات فهم ومحاكمة مشتركة تتقرر من خلالها مواقف موحدة أو متشابهة، وإن لم تتشاور قياداتها بصورة يومية، فالأصل هنا وحدة التوجه والإدراك التي تؤسس لوحدة في النظر والسلوك، فلا يكون الموقف مبنيا على تسوية وحدود وسيطة، بل على حواضن جامعة تجعل السلوك تجاه أي حدث متشابها بين دول مختلفة، لكنها موحدة حول ساحة مصالح واحدة أو متماثلة أو متشابهة، على قدر من الاتساع يجعلها قادرة، بآلياتها الذاتية، على إلزام أصحاب الشأن بمواقف متماثلة، فيها مصالح نظمهم وبلدانهم.

يشكل الانتماء دائرة وعي ومصالح تلزم جميع أطرافه، خاصة عندما يتعلق الأمر بأصعدته العليا كالانتماء على سبيل المثال إلى وطن أو أمة، فلا يقوم عندئذ على تسويات وحدود وسيطة شعورية الطابع، حتى عندما تتخلل المواقف العملية حياله تباينات تتعدد بتعدد المنتمين وباختلاف خياراتهم، وهي لا تترك آثارا مباشرة عليه، في الغالب، لأن الانتماء الجامع لا يكون موقفا بل هو فطرة أو طبيعة تتخذ في ضوئها مواقف تتباين، لكنها نادرا ما تبلغ درجة من الاختلاف تجعلها قادرة على إلغاء الشعور بالانتماء إلى وطن أو شعب أو أمة. على الضد من ذلك، تمس الحاجة في حالة الانتماءات الدنيا، كالانتماء إلى جماعة معينة، إلى حدود وسيطة أو إيجابية عليا بالمعنى الذي سبق شرحه، بما أن هذا الضرب من الانتماء، إن هو اشتط أو تطرف، يضع حامله في مواجهة طبيعته وفطرته، ويجعله يعيد إنتاجهما بدلالة جزئيات تفرق وليس أسس عامة تجمع، فتقع عندئذ كارثة حقيقية تعبر عن نفسها في وضع مختلفي الانتماءات بعضهم في مواجهة بعض، وتقوض وحدتهم أو ما هو قائم منها. في هذه الحالة، ينقسم المجتمع إلى جماعات بينها حدود عليا من التوتر، وحدود دنيا من التفاهم، وتنعدم فيها الحدود الوسيطة أكثر فأكثر.

تعيش الدول حالات تشبه ما يعيشه الأفراد، فهي إن قامت على انتماءات جزئية، كأن تكون دولة حزب واحد على سبيل المثال، دخلت في خلافات وصراعات مع داخلها وخارجها، وتناقضت مع أية دولة لا تشاركها الانتماء، أو لا تفسره على طريقتها. ويزيد المشكلة تعقيدا أن تكون الدول قائمة في مجال قومي واحد لم تتفق على مشتركات تسير في هديها شؤونها بأسلوب يخدم تسيير شؤونه هو أيضا، ويؤسس لدرجة عليا من التوحد بين مكوناته حتى على صعيدها الجزئي الخاص، وبين الأمة على صعيدها العام والكلي. هنا، تكون الكارثة أعظم والمصيبة أدهى من تلك التي تنزل بمجال العلاقات الفردي أو الشخصي، وهذا ما تؤكده حياتنا العربية في صعيدها المحلي (الدولوي والعام) الأموي، عندئذ تنخرط أطراف الأمة، أي دولها وشعوبها، في حال يخرجها من نزاع ليدخلها في آخر، وتتخلص من مشكلة لتغرق في أخرى، تكون في الغالب أكبر منها بحكم قانون يقول بحق أن عدم التصدي الجذري للمشكلات يؤدي إلى تفاقمها وتعقيدها أكثر فأكثر وبلا انقطاع، ويعيد إنتاج القادمة في حاضنة أشد سوءا وتفاقما من السابقة.

والحل؟ ثمة نوعان من الحلول يطرحان نفسيهما هنا: أن توحد الكيانات الجزئية، أي الدول، مبادئها فتوحد سلوكها وترى بعضها البعض في ضوء معايير واحدة أو ممارسات متقاربة، أو أن تدرج مصالحها في إطار مصلحة أموية عليا معرّفة بصورة مشتركة ومتوافق على أسس الالتزام ببنودها وعلى تنفيذها في الواقع بروحية جامعة عليا، ينضوي الجميع تحتها طوعيا ودون أنانيات وحسابات جزئية.

لم نأخذ بعد بأي واحد من هذين الحلين، ويبدو أننا لن نأخذ بأي منهما، وإلا لكنا اتفقنا في لقاءات أو مذاكرات أو ندوات أو مؤتمرات على صيغ جامعة تلزم دولنا في المسائل الحيوية، كفلسطين والتنمية العربية والسلام الأهلي العربي والسياسات الخارجية حيال العدو والصديق، وبناء القوة الضرورية لحماية بلادنا ووطننا الغربي، والثقافة والثورة العلمية التقنية.. الخ.

والغريب أن الطريقة المعتمدة الآن، ومنذ نيف وستين عاما، قادتنا إلى مصائب تنتشر أكثر فأكثر في معظم بلداننا، دون أن تزودنا بأي حل نعالج بواسطته أية واحدة من مشكلاتنا مهما كان جزئيا، أو يرد عنا أي خطر، خارجيا كان أم داخليا. والغريب أكثر أن الطرق المعتمدة تقلص الحدود العليا الإيجابية بيننا وتستبدلها بحدود عليا سلبية، وأنها لا تترك أي هامش لأية حدود أو حلول وسيطة، وتقلص وتخفض الحدود الدنيا إلى درجة التلاشي الكامل، بينما تهب رياح التحديات علينا من أربع أقطار الأرض، ويتعاظم قلقنا على مصيرنا ووجودنا من يوم ليوم، وتتراجع قدرتنا على التحكم بشؤوننا، مع أننا في حاجة إليها اليوم، كما لم نكن في أي يوم من قبل!.

تقول خبرات التاريخ إن كثيرا من الكائنات الحية فقدت حياتها بسبب قصور أفعالها عن مستلزمات وجودها. من ذلك مثلا أن الديناصور لم يتأقلم مع تحولات الطبيعة، فانقرض. هل ندع سياساتنا، التي تفتقر إلى أرضية حديثة ومشتركة وملزمة، تغربنا عن تحولات العالم والواقع فيكون مصيرنا كالديناصور؟. هذا هو السؤال، الذي لا مفر من أن نجيب بطريقة عملية وناجعة عليه!.

 

سياسات لا أرضية لها!
ميشيل كيلو

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة