Thursday  09/12/2010 Issue 13951

الخميس 03 محرم 1432  العدد  13951

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الثقافية

 

قابيل وهابيل في أربعينية باشراحيل
أ. د. محمد نجيب التلاوي *

 

رجوع

 

في أربعين بيتاً شعرياً تقليدياً يصعد (باشراحيل) بتجربته الشديدة الخصوصية إلى تجربة إنسانية سرمدية تأصلت جذورها عندما قتل الزَّارع الراعي (هابيل وقابيل).. وقالوا إن قتل الزارع للراعي يعني الانتقال إلى طور حضاري إنساني جديد.. وعلى الرغم من إيجابية التأويل الحضاري.. لكن تبقى جريمة القتل برموزها متجددة في كل العصور.. وفي كل المجتمعات؛ لتحمل معها الفلسفة الحقيقية للحياة القائمة على الثنائيات الضِّدية - كما يرى البنيويون - لكن الصراع المأساوي الحياتي عندما تنحسر أطرافه بين ذوي القربى والأصدقاء يكون أشد إيلاماً.. وأصعب مراساً.. لقد أدركت الآن لماذا جاءت المآسي الإغريقية قوية ومؤثرة..؟ لقد حرصوا على نسج المأساة بين ذوي القربى.. أم تروا معي كيف تقشعر الأبدان في (أوديب) عندما يقتل أباه.. ويتزوج أمه.. ثم يفقأ عينيه عندما يكتشف الحقيقة..

والأمر نفسه هو الموضوع الخاص العام معاً في أربعينية (باشراحيل)؛ فالشاعر مشدود بوتره الغنائي إلى قضية خيانة.. وغدر ممن يحب.. وممن يثق فيهم.. وكانت المفاجأة ذات وقع قاس فانطلقت شاعرية الشاعر تصف الضغائن والخيانة ممن يثق فيهم.. ويحسن إليهم.. لكنهم انقلبوا عليه.. وتنكروا له في مفاجأة من العيار الثقيل:

ياليتني كنتُ الطَّعينَ من العِدا

لكنَّ طعنِي كانَ من خلاّنِي

وهذا الموقف جسد له القضية السرمدية الدنيوية التي بدأت ب(قابيل وهابيل):

أبناءُ قابيلٍ وهابيلٍ غدوا

يتوارثون الحقد في الأزمانِ؟

وانطلق الشاعر يصف خصوصية تجربته الشعرية ويخصبها بأبيات حكمية ثم يصل انفعاله إلى حد الإصلاح بالنصح في خطابية زاعقة مباشرة.. لعل.. وعسى:

عُودوا عن الكِبر الجهولِ يَعودُكمُ

طلعُ الرَّوابي والقِطافُ الدَّاني

عُودوا إلى الحقِّ الرفيعِ تجلُّكُمْ

أُممٌ وتنتصرون بالرحمن

عُودوا عن البهتانِ والظُّلمِ الذي

أودى بكم في التِّيهِ والخُسرانِ

لكن نصحه ذهب مع الرياح؛ لأنهم تلبسوا بلباس الشر الدنيوي السالب ووضعوا أصابعهم في آذانهم يستكملون مع إيجابية الشاعر ثنائية ضدِّية دنيوية:

كم قد نَصحتُ لهم ولمّا يَسمعُوا

وضعُوا أكفَّهُمُ على الآذانِ

ولو استجابوا لتجدد الشر في غيرهم.. إنها الحياة القائمة على فلسفة التعارض الثنائي الذي استزرعه رمز (هابيل وقابيل).

إن هذه القضية التي يطرحها (باشراحيل) ليست إجابة عن سؤال، إنما هي سؤال من جواب لم يطرح بعد.. لأنها قضية تتجدد بانسراب الخاص في العام، وانسراب العام في الخاص.. إنها قضية الصراع بين الخير والشر التي تتجدد في شكول عديدة.. وقصيدتنا واحدة من هذه الشكول، ويتجسد الصراع فيها بين قوة الشر الحاقدة الخائنة التي فاجأت الشاعر بموقفها، وقوة الخير التي يمثلها الشاعر بوتره الغنائي المشدود لقناعاته الالتزامية التي تفرض عليه الإصلاح للمثالب والعيوب البشرية بشكل عام، وقناعات الشاعر برؤيته دفعته إلى تدبر الأمر، واقتطاف العظات والعِبَر.. فكانت أبياته الحكمية، ثم آفاق من هول المفاجأة وتلمس دعوة لإصلاح النفوس الخربة فاستعان بوسائل عديدة منها:

- النداء (يا للرماح... - يا ليتني... - يا صبر أيوب...- يا من سقيت... - يا من يذكرني... - يا منْ أتيتم... -....).

- الاستفهامات الخبرية والإنشائية (كم قطعوا أعراقهم بضغائن...- قل كيف بذل الرشد للأذهان...- كم قد نصحت لهم....).

- التوجع والتأوه (آه على قلبي... - يا ليتني... - ويح النفوس... - والتمني...).

-الأمر (فأعرض... - عودوا إلى الحق... - عودوا عن الكبر...- عودوا عن البهتان... -...).

- أبيات حكمية مستنبتة من الخبرية الشعرية نفسها بحسها الديني وخبراتها الدنيوية، وهي أبيات قائمة في مبناها على ثنائية ضدِّية على التوازي مع طرفي الصراع لمزيد من تفعيل الخطاب الشعري في النص:

أبناءُ قابيلٍ وهابيلٍ غدوا

يتوارثون الحقد في الأزمانِ ؟

كان الأوائل مثل أقمارِ الدُّجى

وغدا الأواخر فتنةً للراني

ما ضقتُ ذرعاً بالحياة وإنَّما

قد ضقتُ بالغدرِ الذي أبكاني

صاحبتُ آساد الشَّرى فانقدنَ لي

إلاَّ الأنيسَ صحبتُهُ فدهاني

تُشفى الجراحُ جميعها إلاَّ الأسى

لا يَختفي في الحُرِّ بالنِّسيانِ

شرعُ الحياة العدلُ لكنَّ الهوى

شرعٌ لأهلِ الظُّلمِ والبُهتانِ

ظُلمُ الظلوم يكونُ في أعقابِه

نصرُ الإلهِ الواحدِ الدّيانِ

والصَّّبرُ أكرمُ عن مقارعةِ الذي

عدِمَ المروءةَ فهي للشُّجعانِ

وهذه الأبيات الحكمية لم تأتِ عزفاً على وتر أحادي؛ فقد تنوعت غاياتها وتنوعت بنياتها الفنية، وقد لجأ الشاعر إلى وسائل تأثيرية مثل: قلب أطراف الجملة، الاعتماد على المقابلات الضِّدِّية، استخدام الاستثناء والاختصاص، ...،....

وعلى المستوى المعنوي الداعم لتجربته الشعرية فتلاحظ أن الأبيات الحكمية تنتمي إلى غنائية التجربة الشعرية بقوة، وتتفرع منها ضاربة في أبعادٍ إنسانية عامة ترتفع فوق الزمان والمكان، ومن ثم جاء تأثيرها قوياً لسببين أولهما أن الأبيات الحكمية انبثقت من دفء تجربة شعرية حارة مشاعرها، قوية دوافعها، وآخرهما اكتساب الأبيات الحكمية عمومية صالحة للاستشهاد على ممارسات الإنسان ومواقفه المتعددة في مفردات حياتنا الدنيوية.

ومن الأمر والنصح المباشر إلى الأبيات الحكمية، ومن الأبيات الحكمية بمثاليات الحلم إلى فعل التحذير ومقام الإقناع... ولكن يبدو أن واقع التجربة المريرة خيانتها كانت أكبر من الأمر والنصح والصوغ الحكمي؛ فيلجأ الشاعر إلى الذات الإلهية لتكون شاهدة على النصح غير المفيد مع من وضعوا أصابعهم في آذانهم... حتى أن الأبيات الأخيرة في القصيدة جاءت على طريقة (أمل دنقل) عندما يغلب حماسه فنه:

هذا بياني صُغتُهُ من مُهجةٍ

حَرَّى تعيشُ مرارةَ الطُّغيانِ

أعْذَرْتُ يا دهري وإنِّي مُنذِرٌ

يا ربِ فاشهدْ عِيلَ صبرُ العاني

وحماس شاعرنا مستمد من رؤيته الالتزامية التي تخترق جل أشعاره، وحماسه في هذه التجربة - بعد وصفها - يدفعه إلى تكريس خبراته الحياتية، وأبعاد أفكاره الإيمانية للنصح... مع يقينه بأن الاستجابة معدومة، أو قل محدودة؛ لأنه يدرك من البداية أن الصراع الذي يجسده هو صراع بدأ ب(قابيل وهابيل) ولما ينتهِ... ولن ينتهي؛ لأن هذا الصراع هو فلسفة الحياة الدنيا بكل تناقضاتها... وهذا يعني تقدير الشاعر للثوابت البشرية في الطبيعة الإنسانية، ومن ثم فالذات الغنائية ترتفع بتعبيرها لتعبر عن ضمير جمعي لإنسان الدنيا، ودنيا الإنسان؛ ولذلك انتقل الشاعر من العام إلى الخاص... ومن الخاص إلى العام؛ لأن رؤيته الشعرية تختزل التجارب الإنسانية وتكشف عن صراعها الأزلي الأبدي إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.

ونلاحظ أن بؤرة التجربة الشعرية في خصوصيتها وعموميتها قد جاءت في بيتين هما القاعدة التأسيسية لهذه التجربة الشعرية، والبيتان هما:

- البيت الخامس:

أبناءُ قابيلٍ وهابيلٍ غدوا

يتوارثون الحقد في الأزمانِ؟

وهو بيت حكمي يرتفع بالتجربة إلى مقام العمومية

- البيت الثالث والثلاثون:

اليومَ جئتُمْ تجحدونَ مَواهِبي

ولكم وهبتُكموا النفيسَ الغاني

وهو بيت مُشرنق بخصوصية التجربة الشعرية... ومُسربل بحرارتها ودوافعها.

وكما عودنا (باشراحيل) في خصوصية تجربته الشعرية الالتزامية أن يوثقها بتوظيف تراثي طغت عليه الملامح الإسلامية؛ فاستمد من التعبير القرآني في سياق استلهامي نحو:

- (... حقداً يُشيبُ الشَّعْرَ في الولْدَان)

- (... تبّتْ قلوبٌ لا الوفاء تصونهُ)

- (شرعُ الحياة العدلُ لكنَّ الهوى

شرعٌ لأهلِ الظُّلمِ والبُهتانِ)

- (... نصرُ الإلهِ الواحدِ الدّيانِ)

- (... وضعُوا أكفَّهُمُ على الآذانِ)

- (... يا صبرَ أيوب الجميلَ أمضَّهُ

والمستعانَ اللهُ في الأحزانِ)

وعلى الرغم من بناء القصيدة على أكتاف التعارض الثنائي الذي فرضه موضوع القصيدة إلاّ أن الشاعر فوّت فرصة البناء الدرامي الذي يكسب القصيدة حيوية، وذلك عندما اعتمد الشاعر على العزف المنفرد بغنائية لم تسمح بظهور الصوت الآخر... فغابت الحوارية عن جوهر الصراع الحاد داخل التجربة الشعرية... وبغيابها غابت جمالية فنية كان يمكن أن تضيف الجمالية للنص... وكان يمكن أن تجسد الصراع تجسيداً بدلاً من اختزاله في رؤية غنائية أحادية.

وهذه التجربة الشعرية الثرية التي نشرها الشاعر في جريدة (الندوة) السعودية الصادرة يوم السبت (غرة ذي القعدة - 9 أكتوبر 2010م) تثير مجموعة من الاستفهامات تتزاحم في أسى، وأدعو القارئ الكريم للتفكير معي؛ لأنني لا أريد أن أستأثر بإجاباتها ولأن النقد يتغذى على فلسفة السؤال، والسؤال يكبر بتفعيل دور المتلقي:

هل يمكن أن يصعد الرمز ب(هابيل وقابيل) إلى حدود ما هو حادث الآن بين الإخوة العرب مما هو معلن... وخفي؟ وقد يزيد الطرح مصداقية لمن يتابع أشعار (باشراحيل) وحرصه الدائم على وحدة الأمة، وضيقه بالخلافات العربية العربية...

هل الرَّوي والقافية مقصودة من الشاعر لاستكمال آهاته الحزينة بمد وإمالة... (.. انِ)؟ استثماراً للتأثير الموسيقي الصوتي...

هل جاءت فلسفة التعارض الثنائي في موضوع القصيدة تفعيلاً للجماليات البنائية القائمة على تنويعات صوغ الثنائيات الضِّدِّية؟

إن تجربة شعرية غنية بفكرتها وثرية بآلياتها البنائية لجديرة بأن نقرأ لصاحبها، وأن نعجب به، وأن نناقشه في فكره الالتزامي وتجربته الشعرية الحائزة.

* الأستاذ بجامعة الحدود الشمالية بالمملكة العربية السعودية

 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة