Friday  10/12/2010 Issue 13952

الجمعة 04 محرم 1432  العدد  13952

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

متابعة

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

أفاق اسلامية

           

وفي ضوء هذه المقدمات الممهدات المسلمة نأتي إلى بيت القصيد، الذي نحن بصدد بحثه، أعني: التعسف في استعمال الشرف، أي التكلف والتعمد في استغلال المركز الاجتماعي في الوصول إلى الغايات والمقاصد الشخصية، أو الإضرار بالمجتمع، وهي قضية ذات أهمية، نظراً إلى طبيعة النفس البشرية التي تتوق دائماً إلى الاستعلاء والتغلب، كما نوهنا في أول الحديث، وإذا كانت بعض النفوس تميل إلى الزهد والقناعة والتواضع، فإن ذلك قليل في دنيا الناس، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن مثل ذلك إنما تتقبله النفس بسبب المجاهدة والرياضة، أما لو تركت النفس ومطالبها فإنها كما قيل:

والنفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

ولنعد إلى قضيتنا «التعسف في استعمال الشرف» هل هو مقبول شرعاً؟ وما موقف العقل من ذلك؟

والحقيقة إن استغلال الشرف - أياً كان مصدره - في الوصول إلى الغايات الشخصية، أو إلى الإضرار بالآخرين، أمر مستقبح عقلاً، ومذموم شرعاً، أما عقلاً: فلأن هذا الاستغلال استذلال للنفس، والشريف ينزهها عن أن يضعها في موضع الذلة:

عزيز على نفس الغيور اتضاعها

وعار عليها أن تميل لذلة

وفي هذا الاستغلال تدنيس للعرض الشريف أيضاً:

ليس الكريم بمن يدنس عرضه

ويرى مروءته تكون بمن مضى

وفيه ثالثاً استعلاء على الناس، واستكبار عليهم بلا موجب، وذلك مما يأباه العقل السليم، والفطرة الصحيحة، ولذا قالت العرب: «التواضع شبكة الشرف»، وأما شرعاً: فإن نصوص الشرع جاءت متضافرة في النهي والتحذير من هذا التصرف المشين.

فمما جاء في ذم استغلال شرف النسب، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13)، «فبين تعالى أنه جعلهم شعوباً وقبائل لأجل أن يتعارفوا أي يعرف بعضهم بعضاً، ويتميز بعضهم عن بعض، لا لأجل أن يفتخر بعضهم على بعض ويتطاول عليه» أضواء البيان للشنقيطي.

ومما جاء في ذم استغلال شرف المال:

1 - قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق 5-6)، والمراد بالإنسان هنا، قيل: أبو جهل، وأنه هو المراد بهذا وما بعده إلى آخر السورة، وقيل: جنس الإنسان، والاستغناء يكون بالمال غالباً فيغتر صاحبه فيسخره في سبيل الاستعلاء على الغير.

وعلة هذا الخلق كما يقول الطاهر بن عاشور في التحذير والتنوير: «أن الاستغناء تحدث صاحبه نفسه بأنه غير محتاج إلى غيره، وأن غيره محتاج، فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة، ولا يزال ذلك التوهم يربو في نفسه حتى يصير خلقاً حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح فيطغى على الناس لشعوره بأنه لا يخاف بأسهم لأن له ما يدفع به الاعتداء».

2 - قصة قارون، الذي أعطاه الله من المال حتى فاض، فبغى الرجل وتكبر ومنع حق الله، وقد جاءت قصته مفصلة في القرآن العزيز، من الآية 76 حتى الآية 83 من سورة القصص، والمتأمل فيها يلحظ أول وهلة ظاهرة استغلال شرف المال في إعزاز النفس ورفعها فوق قدرها، والتعالي على البشر، بل وعلى قبول الحق، {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} (القصص 78)، وكفى بذلك مذمة.

3 - ما رواه كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) أخرجه أحمد.

4 - قال المناوي في فيض القدير: «مقصود الحديث أن الحرص على المال والشرف أكثر إفساداً للدين من إفساد الذئبين للغنم، لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره، وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعاً».

ومما جاء في ذم استغلال شرف الزعامة والوجاهة، ما استفاض في القرآن من ذم الملأ الذين كانوا يمثلون أشراف الناس وأعيانهم في الأمم الماضية، حيث كانوا يتزعمون حملة المعارضة للأنبياء والرسل عليهم الصلوات والتسليمات، ففي سياق قصة نوح مع قومه - مثلاً - جاء قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} (الأعراف60)، وفي سياق قصة هود جاء قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (الأعراف66)، وفي سياق قصة موسى مع فرعون جاء قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} (الأعراف109)، وعن موقف قريش من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} (ص 6-7).

وبالجملة فإن من تدبر قصص الأمم الغابرة في القرآن الكريم في موقفهم المعارض من أنبيائهم يدرك مدى استغلال ملأ كل أمة لشرفه في رد دعوة الحق، وصدق الله العظيم القائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (سبأ 34).

ومما ورد في ذم استغلال شرف الدين والعلم: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} (التوبة 34)، قال ابن كثير في معرض تفسيره للآية: «والحاصل التحذير من التشبه بهم - يعني اليهود والنصارى - في أقوالهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى: {لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ}، وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورئاستهم في الناس، يأكلون أموالهم بذلك، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعاً منهم أن تبقى لهم تلك الرئاسات فأطفأها الله بنور النبوة»، ولاشك أن هذا من أشد وأسوأ أنواع الاستغلال.

* الرياض

 

التعسف في استعمال الشرف 2-3
أ.د. عبدالله بن إبراهيم الطريقي

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة