Sunday  19/12/2010 Issue 13961

الأحد 13 محرم 1432  العدد  13961

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

مدارات شعبية

 

حرفة الأدب.. بين الصدق وعوز المبدع

 

رجوع

 

حرفة الأدب، لفظ درج على ألسنة الأدباء والمثقفين، وهي كلمة تأتي على سبيل الضيق والتبرم، وربما محاولة تعزية النفس والتخفيف عنها عندما يجد الشاعر أو الأديب بصفة عامة نفسه عاجزا عن توفير الحد الأدنى من المتطلبات المعيشية له ولأسرته، والعجيب هو تركيب الكلمة الطريف، والمختلف فالناس تبحث عن الحرف وتسعى إليها لتكون مصدر قوت لها، لكن الأمر مختلف هنا حيث يقال أدركته حرفة الأدب، أي أن الحرفة هي التي بحثت عن الأديب وسعت إليه لتفقره حتى أدركته ! القناعة التامة بأن الأديب موعود بالفقر يكاد أن يتفق عليها جميع المهتمين بهذا الشأن، لذلك يقول البعض: من أتقن في فن الأدب وطال باعه وأتقن صناعته وقارب الكمال أدركته حرفة الأدب.

ويتفق مع هذا السياق الإدراكي مجموعة من الأقوال والقناعات التي تكاد أن تكون مسلمات لا تقبل الجدل: (حرفة الأدب لم يسلم منها أديب) وكذلك (المتقدم في الحذق متأخر في الرزق) وأيضا (حرفة الأدب أعدى لصاحبها من الجرب) و(الرزق عند ذوي الأدب أروغ من ثعلب) أو كما يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي - واضع علم البحور - حرفة الأدب: آفة الأدباء، تقف مانعة وقامعة لأي جهد أو محاولة لتكسّب الأديب كبقية الناس، لذلك يرى أبو تمام أنه عمل كل شيء واجتهد في مطالبه لكنه وقع ضحية حرفة الأدب:

ما زلتُ أرمي بآمالي مطالبها

لم يخلقِ العرضَ مني سوءُ مُطَّلَبِي

إِذا قصدتُ لشأوٍ خِلتُ أنِّي قَدْ

أدركته أدركتني حرفة الأدب

وانطلاقا من هذه القناعة نجد أن بعض الشعراء يهجر الأدب خوفا من أن تلحق به هذه الحرفة المشؤومة:

عفتُ القريضَ فلا أسمو له أبداً

حتى لقد عفتُ أن أرويه في الكتب

هجرت نظمي له لا من مهانته

لكنها خفيةٌ من حرفة الأدب

بل إن البعض يرى استحالة اجتماع المال والأدب ويضرب لذلك مثلا فنتازيَا:

الضب والنون قد يرجى اجتماعهما

ولا يرجى اجتماع المال والأدب

وتروى أيضا:

الضب والنون قد يرجى التقاؤهما

وليس يرجى التقاء اللُّبِ والذهبِ

كان ابن المعتز مضرب المثل في الذكاء والعلم وسعة الاطلاع والإلمام بكل جوانب الأدب، وعندما تولى الخلافة في العصر العباسي، لم تستمر ولايته أكثر من نصف يوم، حيث قتل قبل أن يستوي على كرسي الخلافة ولم يقدر أحد على رثائه سوى ابن بسام الذي فسر هذا الحظ العاثر بتفسير يتوافق مع كل ما استعرضناه من رؤى سابقة:

لله درك من ميت بمضيعة

ناهيك في العلم والآداب والحسب

ما فيه لو ولا ليتَ فتنقصه

وإنما أدركته حرفة الأدب!

ويبدو أن الشاعر الشعبي، الذي أدركته حرفة الأدب فعلا، لم يتنبه إلى هذه المتلازمة، أو يتحدث عنها، لكنه تقبلها، وتعايش معها إنسانيا وأدبيا، وإن حاول تفسيرها، من خلال النظر لها من أكثر من زاوية، فهو يرمي بالتهمة أحيانا على الحظ كما يقول بندر بن سرور:

البر دجته والبحر رحت يمه

أطرد سبب حظ على الله مشاكيه

أو كما يرى سعود جمعان: بأن المسؤول هو (الوقت):

يا ابن الحلال اللي تشكى علينا

حنّا لنا بوضع على الله مشاكيه

كانك تحرى للعطا من يدينا

عز الله إنك عندنا ما أنت لاقيه

ما هو ردى بس أرثع الوقت فينا

ما عندنا ما ناكله دون نعطيه!

بينما يرى رشيد الزلامي أن السبب في قلة ذات اليد هو ما جُبل عليه العربي من كرم وإيثار:

حنا عرب والنا تقاليد وسلوم

من شانها حرمت علينا التجاير

وفيما يبدو أن حالة العوز التي تجتاح المبدعين هي ظاهرة عالمية, ولا سيما في مجال الآداب وربما وصل الأمر إلى الفن باعتباره جزءا من الأدب، فنجد على سبيل المثال رساما عالميا مثل فان جوخ كان في حياته يتضور جوعا، ويتمنى أن يجد ما يسد به رمقه، لكن بعد وفاته أصبحت لوحاته، مصدر ثراء كبير لمن بعده، ولا تزال حتى الآن تباع بمئات الملايين، لكنه الحظ، أو حرفة الأدب كما يعزي الأدباء أنفسهم عندما تتشتت بهم السبل وتنتهي دروبهم إلى اللاشيء..

ولكن هل هي بالفعل حرفة الأدب، التي تتحمل كل هذه الإخفاقات، أم أنها شماعة تشبه قميص عثمان، وأن المشكلة في الأديب الخامل الذي لا يريد أن يعمل وينتج ويكتفي بما يكتب ويرى أن له الحق في أن يعيش حياة الأثرياء لمجرد انه أديب؟

على أية حال في هذا الزمن، وتحديدا خلال السنوات الماضية، تغير الوضع إلى حد كبير، وأصبح الشعر - والشعر الشعبي - تحديدا، مصدر هاما للدخل، بل والثراء الكبير بعض الأحيان، وبقدر ما الأمر جيد هنا من ناحية إنسانية، لكنه بالتأكيد لن يكون جيدا على المستوى الشعري، فلا وجود للقيمة الشعرية إذا خضعت للقيمة المادية، والمادة لا تدخل في شيء إلا وتفسده، ولذلك سيكتب الشاعر قصيدته بما يتواءم ويناسب ما تدر عليه من دخل، وليس بما يتوافق مع تجليات وتهويمات الشعر ونزقه وتحرره من سلطة المال التي تسير رياحها بعكس ما تشتهي سفن الشعر، وفي هذه الحالة سيجد الشاعر أنه قد اقترب من الثراء المادي والثرى الفكري، والمسافة الشاسعة بين الثرى والثراء تقاس بكلمة تموت قبل أن تولد كورد اصطناعي، جيء به للزينة فقط، دون أن تكون له رائحة ولا عبق ولا تأثير حقيقي.

سألت أحد الأصدقاء عن سبب تحوله إلى حامل للورد الاصطناعي، فقال: الحياة صعبة.

قلتُ له: الأصعب أن تستمر شاعراً حقيقياً.

 

رجوع

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة