Wednesday  22/12/2010 Issue 13964

الاربعاء 16 محرم 1432  العدد  13964

ارسل ملاحظاتك حول موقعنا
   
     

الأخيرة

منوعات

دوليات

الرياضية

الأقتصادية

محليات

الأولى

الرئيسية

 
 
 
 

الأخيــرة

           

لن تكفي الكتابة لاستيعاب مقدار التناقض الثقافي في ذلك المنظر، لذلك أرجو من القارئ المهتم أن يتعب نفسه قليلا ويبحث عن الصفحة تسعة في جريدة الوطن السعودية (محليات) عدد 3730 - الخميس 10 محرم 1432هـ، إما في الصحيفة الورقية أو في نسختها الإلكترونية. هناك يرى منظر لمشرحة الطب الشرعي والاستشاري المشرف على إدارة الطب الشرعي بصحة الرياض أمام طاولة المشرحة وهو يشرح لعشرة طلبة مادته العلمية. الاستشاري يرتدي حسب المتبع المتعارف عليه البالطو الطبي الأخضر وكفي المطاط وليس على رأسه أية قطعة ملابس. على النقيض من ذلك نرى طلاب العلم التشريحي العشرة كلهم يعتمرون الثوب السعودي التقليدي والشماغ أو الغترة والعقال وكأنهم في لقاء اجتماعي عام. العجيب هو أن أكثرهم يلبس الأكف المطاطية، ولست أدري لماذا الاكتفاء بهذا القدر فقط من متطلبات حصة التشريح وترك الباقي.

مثار التساؤل في الأمر هو أن الطلبة العشرة دخلوا إلى المشرحة بثيابهم وأغطية رؤوسهم التي قدموا بها من بيوتهم في سياراتهم ثم مروا عبر ممرات ودهاليز المبنى العلمي ونقلوا إلى داخل المشرحة كل الملوثات والميكروبات البيئية العالقة بهم. بعد خروجهم بملابسهم نفسها تكون قد علقت بها من المشرحة روائح الموتى والفورمالين وما قد تجمع في الهواء داخل المشرحة من الأبخرة في القاعة المغلقة بإحكام لكي لا تنفذ روائحها إلى الخارج. هؤلاء الطلبة بعد أن نقلوا إلى الداخل ميكروبات الخارج سوف يذهبون إلى قاعات دراسية أخرى غير قاعة التشريح، وقد يذهبون إلى المقصف أو المطعم لتناول الطعام وفي نهاية الساعات الدراسية ينصرفون في سياراتهم إلى بيوتهم. هكذا، بملابسهم التي كانت قبل ساعات في مشرحة الموتى سوف يوجدون تواصلاً حقيقياً للكائنات المجهرية وللروائح والأبخرة بين الجثامين هناك والسيارة والشارع والمنزل. الشيء الوحيد الذي سوف يتركونه قبل المغادرة في برميل النفايات هو الكف المطاطي على اليدين، وهاتان يكفيهما التنظيف بالماء والصابون الطبي عند باب المشرحة مما يعلق بهما في الداخل. لكن من يدري، ربما كان لبس الكفوف المطاطية عند الدخول مجرد حيلة لتفادي تنظيف اليدين عند الخروج.

إنني متأكد أنه ولا في أفقر الدول وأكثرها أمية وجهلاً سوف يتمكن الطالب من الدخول والخروج هكذا إلى صالات التشريح أو الجراحة بدون اتخاذ الخطوات الاحترازية المعتادة، وهي نزع الملابس المدنية وإيداعها في خزانة، تغطية القدمين المنتعلين بالجورب المطاطي ذي الاستعمال الأحادي، ارتداء الملابس الخضراء الخاصة بقاعات التشريح والجراحة، تنظيف اليدين جيداً بالماء والصابون الطبي ثم ارتداء الكفين المطاطيين ووضع كمامة ورقية على الأنف والفم، ثم التفضل بالدخول. قبل الخروج تنزع هذه الأشياء كلها عند الباب الخارجي ويتم غسل اليدين بالماء والصابون جيداً مرة أخرى وتستعاد الملابس المدنية ومع السلامة إلى الخارج.

لكن هل في الحاصل عندنا كما اتضح في الصورة إهمال وتسيب، أم أن هذا هو المحصلة الحقيقية والمتوقعة لاحتقار وغياب الثقافة العلمية وإزاحتها بالكامل والإكراه من قبل الثقافة التقليدية السائدة. ثقافتنا التقليدية السائدة تكره الامتثال للجديد حتى ولو اضطرتها الظروف إلى الاستفادة منه. ولأنها ثقافة كسولة ومتوجسة ومتباهية بنفسها فإنها تأخذ من ضرورات المستجدات بالطرف المصلحي الاضطراري فقط وتترك السياق العلمي العام الذي جاء بذلك الجديد في غلافه دون أن تقرأ حتى تعليمات الاستعمال الصحيح. إنها تماماً مثل عزيز القوم الذي ذل وافتقر حين يمد يده للآخرين قائلاً: أعطوا سيدكم صدقة يسد به رمقه يا ملاعين.

 

إلى الأمام
في المشرحة بالشماغ والعقال - تشريح عقلية
د. جاسر عبد الله الحربش

أرشيف الكاتب

كتاب وأقلام

 

حفظ  

 
 
 
للاتصال بنا الأرشيف جوال الجزيرة الإشتراكات الإعلانات مؤسسة الجزيرة