تناول أحد الفلاسفة - وبعد استقراء تام - إشكالية التاريخ العربي الموروث والمعاصر، ليخلص من ذلك (أن التاريخ، وعبر عصوره لا يعدوكونه معرضا لقصص الملوك والفاتحين، منمقة بسير من أقوال الفلاسفة والشعراء).. ولفت الانتباه إلى فئات أخرى أسهمت في صناعة التاريخ البشري بشكل فاعل، وكان حظها التجاهل من الأقلام، وربما كانت مدار الفلسفة لديه الموازنة، أو المقارنة بين التاريخ العربي وغيره، في كيفية بنائهم للتاريخ ومفهومهم لتحولاته الحقيقية.
وفي ظني أنه من الطبيعي أن تدور أحداث التاريخ السياسي ومواقفه عند تلك الشخصيات المؤثرة، وإذا تنازل مؤرخو (التاريخ السياسي) عن ذلك وتركوه مفتوحا للجميع فقد التاريخ أهميته، ولم يعد كونه وصفا، أو سرداً لا يجتذب قارئا، ولا يصنع شخصية قادرة على المحاكاة والاحتذاء، أما غير ذلك من أنواع التاريخ عند العرب، فلا أعتقد أنها طويت، أو تجوهلت في إطارها، أو الحيّز الذي يجب أن تكون فيه، فالتاريخ العلمي، والاجتماعي، والاقتصادي للعرب حفل بهم أشد الاحتفال، وكان ذلك الاحتفاء، أو الاحتفال سببا في تصديرها للحضارات الأخرى التي بنت عليها التاريخ الحقيقي لها.
أعتقد أن قادة الفكر والثقافة في الغرب حاولوا جر العرب - من حيث لا يشعرون في العصور المتأخرة - إلى التاريخ المؤدلج، أو المبني على فلسفة القوة، وبالفعل مرروا بعض المقولات المستلة من كتب وأطروحات غربية عما يعرف (بنهاية التاريخ)، و(صراع الحضارات)، وتقسيم دول العالم إلى محورين (محور للخير، ومحور للشر)، ولقيت تلك الأطروحات رواجا في العالم العربي والإسلامي، وبخاصة عند من يسمون برموز الصحوة أكثر من غيرهم، باستثناء (دول جنوب شرق آسيا) من هذه الأقطار، والتي استقلت في تفكيرها، وتحررت من بعض المفاهيم، وهي تضع تاريخها المعاصر أمام الجيل الناشئ، وبالفعل أصبحت تجاربها المثيرة مثالا يذكر، وجديرا بالاحتذاء.
من خلال هذه التجارب بدأ يتنامى لدى الكتاب، أو المؤرخين العرب الإحساس إلى إشكالية التاريخ العربي، كما هو الحال في إشكالية التاريخ الياباني قبل (قرن ونصف)، إذ شد انتباه الكثير منهم ارتكاز بناء التاريخ الياباني عند ذلك الجيل على أساس سياسة الإفراط في استخدام العنف وثقافته، والمنطلقة من (قيم الساموراي)، فأدركوا خطورة تغلغل مثل هذه الثقافات التي ليست كفيلة بنقل المجتمعات من التاريخ غير الإنساني إلى تاريخ إنساني يحترم الإنسان، ويقدّر جهود الأفراد فيه. وتأسيسا على ذلك انطلق بعض الكتاب العرب - وهم يحاولون تشكيل الوعي مرة أخرى نحو صياغة التاريخ - من مقالات علمية مسبوقة ترى أن الرؤية العلمية الصرفة للتاريخ لا تعني ضرورة استحضار الماضي الذهني وتوظيفه، أو الوقوف عنده في الزمن الراهن، بل تعني الحاجة إلى الاستفادة من دروس التاريخ العالمي أيّا كان منتمى حضارته، ومن هنا يستطيع العرب كغيرهم أن يضعوا بصمة في مسيرة التاريخ الكوني الذي يعد محاولة استكشافه من جديد، وعلى ضوء معطيات العلم، ومدركات العقل البشري تحد كبير لهم، وهو الذي عدّ للعرب خوضهم فيه فيما مضى، وإن كان التاريخ العربي الحاضر لم يحفل بهم كما ينبغي، وفق هذا المنظور.
