Al Jazirah NewsPaper Wednesday  23/06/2010 G Issue 13782
الاربعاء 11 رجب 1431   العدد  13782
 
تجربة والدي مع الحسبة
محمد بن عبدالرحمن بن حسين آل إسماعيل

 

كانت الحِسبة أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأحساء احتساباً، أي عملاً تطوعياً يقوم به عدد من الرجال، ثم صدر الأمر السامي بتشكيل إدارات رسمية، وأظنه في أول السبعينيات هجرية بين عامي 1366-1370هـ، وصدر أمر أمير الأحساء أو المقاطعة آنذاك الأمير سعود بن جلوي - رحمه الله - وبمشورة قاضي الأحساء الشيخ سليمان بن عبدالرحمن العمري - رحمه الله - تضمن أمر سموه بتعيين الشيخ سعود بن درعان الحامد داخل الأسوار، أعني داخل المدينة؛ لأن الهفوف تشمل الأحياء الآتية: الكوت والنعاثل والرفعة، فهذه محاطة بأسوار، ولها بوابات تسمى دراويز، فهذه عُيّن فيها الشيخ سعود بن درعان، أمَّا والدي فقد كلف إن صح التعبير بالمنطقة الحرة، أعني خارج الأسوار مما يسمى بالرقيقة والعدوة والحفيرة وحي المطار وما قاربها، بما في ذلك نخيل السيفه والرقيقة، فذهب والدي إلى الشيخ سليمان العمري وقال له: ما رأيك، الأمير كلفني بما فيه مشقة. فرد الشيخ: أنت تعرف أن الأمير سعوداً ما اختارك إلاَّ لأنه يعرف قوتك وحكمتك، ولا أظنه يتراجع، ولكن استعن بالله وتوكل عليه.

وتخيل أخي القارئ ليس للحسبة نظام ولا تعاليم ومع ذلك فهم يسجنون ويجلدون ولهم صلاحية كاملة، فما كان من والدي إلاَّ أن اتصل بشيوخ القبائل والعمد من أصحاب الرأي والمشورة واختار عدداً من الرجال امتازوا بالقوة والصلابة والشدة مع الرزانة والحكمة والعقل، اختار رجالاً أثقل من الجبال الرواسي، لهم مكانتهم ومقبولون، فاختار من كل قبيلة من عتيبة ومن قحطان ومن الدواسر ومن العجمان، ورتبهم ترتيباً ليس له نظير، وبعث روح التنافس الشريف بين القبائل، فسددوا وقاربوا ونصحوا من يستحق النصيحة وهددوا من يستحق التهديد وساروا في الناس سيرة حسنة تقوم على النصح والإرشاد والستر ما استطاعوا إلى ذلك؛ فحازوا احترام الناس لهم ومحبتهم وحفظوا أسرار الناس ولم يفضحوا عاصياً ولم يكشفوا ستراً، وكانوا في جولاتهم المستمرة ليل نهار على أقدامهم؛ حيث لم تكن عندهم سيارات؛ فكلهم يلبسون البشوت، وكنت أخرج معهم حين كنت صغيراً، وكنت معجباً بهم وبرزانتهم، فإذا رأوا ما لا يجوز السكوت عليه أخذوا الرجل إلى والدي ثم أخذ يعدد محاسن جماعته وحسن سمعتهم وأننا لا نرضى أن نجعلك محل شماتة من الجيران أو من قبيلة أخرى، فإذا تمادى هذا الرجل ولم يتعظ اتصلوا بكبار جماعته أو رئيس القبيلة وأخبروه، فعندها ينتهي كل شيء، فإذا لم يفد هذا ولا هذا أخذوه وأدبوه في بيت كبير أسرته الأدب اللائق، وهذا نادر جداً. أمَّا النساء فلا أذكر أنهم كشفوا ستر امرأة، ولمَّا سألتُ والدي - رحمه الله - قال: النساء إذا افتضحت واحدة فسوف يؤثر هذا على بناتها وعماتها وخالاتها وقريباتها كالبولة تنتشر بصب الماء عليها، ثم يحصل من الفساد ما هو أشد من إنكارنا للمنكر، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وما كانوا يبحثون عن المستور ولا عما في داخل البيوت، وما كانوا يتحدثون بما يعملون لأنَّ حديثهم بعملهم منكر، ولا يقولون قمنا ولا عملنا.. وقد مضى والدي رحمه الله زمناً على هذا حتى مرض على فراشه، فكان هؤلاء الأخيار الذين أحبهم وأحبوه يأتون إليه ويجلسون على فراشه ويقولون وعلى فطرتهم: يا عبدالرحمن ليت الذي فيك فينا، يا عبدالرحمن جمعت شملنا وسترت عورتنا، ونصحت لنا.

ولا أذكر والله أنهم جلدوا واحداً إلاَّ شاباً من أبناء الوجهاء الأحسائيين في عام 1380هـ لعله اغتر بمركز والده، ولمَّا جاء رجال الحسبة وهو يلعب بالكرة وقالوا صل يا فلان، فما كان منه إلاَّ أنه تلفظ بألفاظ نابية؛ ما جعل الشباب يضحكون، عندها صمم والدي على تأديبه رداً لكرامة هؤلاء الرجال المخلصين، فما بقي أحد من الرجال إلاَّ وتوسط لدى والدي، ولكن والدي تمسك برأيه، وفعلاً جيء بالشاب وضُرب قرب قصر خزام.

أمَّا أعمال الحسبة في عهد والدي فكانت تشمل صيانة المقابر عن طمع الطامعين ومتابعة الغش التجاري والتلاعب بالموازين والمكاييل.

وأذكر أنَّ امرأة انتقدت في سلوكها، فلما ذهب بعض رجال الحسبة إلى منزلها جاء بعدهم مباشرة رجال من الحسبة وقالوا لهم هذه المرأة لا نعرف عنها إلاَّ كل خير ولا يمكن أن تتصرف تصرفاً يخل بالسلوك، ثم لما ذهب الفريق الأول قال لها الآخرون يا امرأة نحن نعلم بصحة ما قيل فيك، ولكن أردنا لعل الله يصلح من شأنك، وكانت هذه الحركات كلها باتفاق بين رجال الحسبة.

وفي إحدى المرات قالوا إن فلانة وفلانا انتهى نشاطهما المشبوه فاقترح رجل قاصر النظر وقال لماذا لا نختبرهما، فما كان من والدي إلاَّ أن غضب وقال: هذا هو المنكر ذاته، الناس ليسوا معصومين من الخطأ فمهما كان الإنسان فإنه ضعيف، فكيف نهيئ له جو الفساد ونوقعه فيه ونقول إننا أوقعنا به؟! هذا عمل يتنافى مع عمل الحسبة، هل ندعو الناس إلى الوقوع في المعصية ونهيئ الجو ثم نلقي القبض عليهم؟.. لا، هذا لا يجوز، لا يجوز؛ ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «ما خلا رجل وامرأة إلاَّ كان الشيطان ثالثهما»، فلم يعيّن شخصاً ولم يستثن شخصاً، ولا يجوز أن نعمل كميناً فنكون عونا للشيطان عليهم، لا بل ننصح ونحذر حسب استطاعتنا.

فلمَّا توفي والدي رحمه الله بكاه جمع غفير، بل كشف لي بعضهم وقال: كنا عصاة ومجاهرين ولكن سياسة والدك رحمه الله تسببت في تبدل أحوالنا إلى رجال صالحين. أقول: هذه حكاية والدي مع الحسبة، أرويها كما عشتها.

هذا، والله من وراء القصد.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد